
نشرت مجلة ناشونال إنترست (The National Interest) مقالا اشترك في كتابته 6 من الباحثين والأكاديميين تناولوا فيه مسألة التباينات وعدم المساواة في الرخاء الاقتصادي والحريات السياسية بين المدن الحضرية العالمية، والمجتمعات المتعثرة بالمناطق التي تعد المعاقل الصناعية في الولايات المتحدة والدول الغربية.
وحذر هؤلاء الكتاب في مقالهم من أن تلك الفوارق واللامساواة في أميركا وأوروبا بين المناطق الحضرية و”النائية” تمثل تهديدا “مُلِحّا” للديمقراطية، وأكدوا أن الوقت قد حان لمواجهة ما وصفوه بأكبر تحدٍ جديد سياسي واقتصادي واجتماعي.
وشدد المقال على أهمية إعادة بناء التحالف الديمقراطي للاستمرار في تأكيد القيم الأميركية في الخارج، وحماية الديمقراطية من “خصومها الجيوسياسيين” في الساحة الدولية.
لا ينبع من الصين أو روسيا
وأشار الباحثون إلى أن التهديد الأبرز والمباشر للديمقراطية لا ينبع من الصين أو روسيا، بل من داخل الحدود الأميركية. فإخفاق الولايات المتحدة في الحد من أوجه التباين الجغرافي والاقتصادي والفوارق في توفر الفرص -لا سيما بين المناطق المدنية العالمية المزدهرة والمجتمعات المتعثرة بالمناطق التي تعد معاقل للصناعة- تشكل أكبر تحدٍ وشيك لاستقرار النظام السياسي على جانبي المحيط الأطلسي.
وعادة ما يكون لتلك المجتمعات الصناعية القديمة تأثير كبير على المآلات السياسية بالدول الديمقراطية. وبالتالي تعد تلك المجتمعات مناطق ذات أهمية جيوسياسية حيث يشعر سكانها بأنهم مهمَلون، أو يُنظر إليهم بازدراء واستعلاء.
هذا بالإضافة إلى أن القلق الاقتصادي المتمثل بالخوف من فقدان المرء وضعه في عالم متغير، والتصورات السائدة بأن تلك المجتمعات في اضمحلال، هي ما يدفع سكان المناطق الصناعية “المعتدّين بأنفسهم” إلى معاداة المهاجرين وتبني نزعات قومية وانعزالية، وتوق إلى ماضٍ كان مزدهرا اقتصاديا، وهي أفكار يروّج لها الزعماء الشعبويون المتطرفون.
الاستقطاب الشرس
وتشجع تلك النزعات الشعبوية السلوكيات المناهضة للديمقراطية -مثل عدم الثقة في المؤسسات والصحافة وانهيار الدعم للحقوق المدنية للآخرين- مما يغذي الاستقطاب السياسي الشرس الذي يقوض الديمقراطيات الغربية.
ووفقا للخبير الاقتصادي مارتن وولف، فإن من حق الديمقراطيات ذات المداخيل المرتفعة أن تحمي قيمها الجوهرية، لكن الخطر الرئيسي الذي يحدق بها لا يأتي من الصين، بل يكمن بالقرب من الدول الديمقراطية نفسها. ويعزو ذلك إلى الفشل في ضمان تحقيق رخاء مشترك على نطاق واسع والذود عن الأعراف الديمقراطية.
ويحمّل وولف مسؤولية عدم المساواة بالمجتمعات الغربية إلى النخب في الدول الديمقراطية. ويقول بهذا الصدد “نخبنا وليس الصين هم، للأسف، من تسببوا في ذلك الضرر” بإغفالهم الفوارق المتعاظمة في المداخيل والفرص بالمجتمعات.
شواهد قوية
ولن تتغير تلك المشاعر الشعبوية المعادية للنخب والمناهضة للديمقراطية إلى أن تتم معالجة الأسباب الجذرية التي حرَّكتها. وهناك شواهد قوية على أنه -مع استمرار المجتمعات الصناعية القديمة في تدهورها- ينزع سكانها نحو تقبل رسائل الاستقطاب التي يروج لها الشعبويون وأعداء المهاجرين.
كما تدل القرائن الأخرى على أنه كلما استطاعت المجتمعات الصناعية القديمة إرساء أسس اقتصادية جديدة، حل التفاؤل والأمل في المستقبل بين السكان محل الخوف والقلق.
وهذه الديناميكيات السياسية الإقليمية معروفة تماما بالمملكة المتحدة، كما يشير مقال ناشونال إنترست. وهناك أسئلة هي محور نقاشات ومناظرات ساخنة، تتعلق بأفضل السبل للوصول إلى الناس الذين يقيمون في المدن المتعثرة، ورفع مستويات تلك المجتمعات بالمقارنة مع المناطق الأكثر ازدهارا.
همة لا تفتر
وبالمثل، ففي الولايات المتحدة همة لا تفتر وسط أقلية قومية -يتركز وجودها في المجتمعات الصناعية المتدهورة- إلى جانب بلدات صغيرة وقرى ريفية “خاملة اقتصاديا” ما تزال تحافظ على الجذوة متقدة ومخاطر “الترامبية” حية.
وفي الولايات المتحدة، كما في الدول الديمقراطية الحليفة، هناك أغلبية كبيرة تعد أكبر تهديد للديمقراطية لارتباطه بعدم المساواة في الدخل، وهو ما يقلل من عدد الذين يرون أن الصين هي “الخطر الرئيسي”.
وفي خطوة تمثل استغلالا للأزمة الاقتصادية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا والحرص على الدفع نحو مزيد من الإنعاش الاقتصادي المنصف (وفي الوقت نفسه منافسة الصين اقتصاديا) أجاز الكونغرس مؤخرا تشريعا يقضي بدعم مراكز الابتكار في المناطق الحيوية لتحفيز النمو الاقتصادي بالمناطق غير الساحلية.
وعلى النقيض من مجرى التاريخ الأميركي، الذي لم يشهد التزاما وطنيا قويا وراسخا تجاه التركيز على اقتصادات الأقاليم المتعثرة، حددت معظم الدول الأوروبية -بدعم من الاتحاد الأوروبي- مناطق ذات أولوية تمر بمرحلة انتقالية اقتصادية هيكلية.
الجهود الألمانية
ولعل أقوى الجهود وأكثرها فعالية هي ما قامت به الحكومة الألمانية التي ظلت لعدة عقود تعمل على التغلب على أوجه التفاوت بين أقاليم البلاد، وتسهيل عملية الانتقال الاقتصادي في المناطق التي ظلت تعتمد تاريخيا على الصناعة الثقيلة.
ولم تكن تلك الجهود نابعة من فراغ، بل ينص عليها الدستور الألماني الذي يلزم الحكومة الاتحادية بتوفير الإمكانات المالية لحكومات الولايات الفدرالية من أجل تهيئة ظروف معيشية موحدة في عموم البلاد.
وربما هذا يفسر سر النجاح الاقتصادي لألمانيا في دعم الإصلاح الاقتصادي الهيكلي بالمناطق الصناعية القديمة.
ويمضي الباحثون والأكاديميون الستة -في مقالهم- إلى التأكيد على أن الحلول في المستقبل لابد أن تأتي من الزعماء والسكان المحليين بالمناطق المتأثرة “والماضي القريب خير دليل”.
فخورون بإرثهم وتاريخهم
ومن الواضح أن أفضل وسيلة لبناء مستقبل “إيجابي” للمجتمعات الصناعية تكمن في تبني هوية الماضي والبناء عليها. ويعتقد الباحثون أن سكان تلك المجتمعات فخورون بإرثهم الصناعي، وتاريخهم الحافل بالمهارة الفنية وصنع الأشياء، ومساهمتهم في نجاح بلادهم الاقتصادي والسياسي.
ومما يؤسف له أنه عندما تتمزق الهوية فإن المجتمع هو الذي يتعين عليه مواجهة هذا الواقع ومعرفة ما تبقى له من مواطن قوة، وبناء مستقبل جديد من داخله.
المصادر العميقة للشعبوية
ويرى الباحثون في مقالهم المشترك أن قادة الديمقراطيات بأوروبا والولايات المتحدة أمامهم مهمة عاجلة تتمثل في الهجوم على المصادر العميقة للحركة الشعبوية اليمينية المتطرفة، التي تستمد جذورها من مشاعر القلق الاقتصادي الذي ينتاب الناس والتدهور النسبي لمناطق ومجتمعات بعينها.
وما لم يُول القادة المحليون والاتحاديون بالدول على طرفي الأطلسي جل اهتمامهم لتسريع عجلة النجاح الاقتصادي لشعوبهم ومناطقهم -حيث سكانها مغيبون ويشعرون بفقدان السيطرة على حياتهم- فإن هؤلاء المواطنين سيواصلون الاندفاع نحو تقبل سياسات شعبوية استقطابية من شأنها أن “تدمر ديمقراطياتنا وتحالفاتنا العابرة للحدود”.
شارك في كتابة المقال بمجلة ناشونال إنترست الأميركية كل من جيفري أندرسون الأستاذ بجامعة جورج تاون، وجون أوستن مدير معهد ميشيغان للدراسات الاقتصادية، وكولين دوغيرتي مساعدة الأبحاث بجامعة جورج تاون، وبرايان هانسون نائب رئيس الدراسات بمركز شيكاغو للشؤون الدولية، وألكسندر هيتش الباحث المشارك بمركز شيكاغو للشؤون الدولية، وأندرو ويستوود أستاذ ممارسات الحكم بجامعة مانشستر.
