«حكايات برية» ترصد المعاناة الإنسانية في أعمق صورها
[wpcc-script type=”3a229637b201c41b5a771f60-text/javascript”]
القاهرة ــ «القدس العربي»: 6 قصص مختلفة، تمثل حيوات ومواقف لأشخاص تبد وفي غاية البساطة، والمُصادفة، لا رابط بينها سوى ثيمة أساسية هي المُعاناة، موقف عارض، أ وحالة ثأر مختفية غيّرت من حياة الضحية، إيذاء مجاني، قد يظن الفاعل أنه سينجو، ولكن يثبت الفيلم عكس ذلك، هناك حالة قلق دائم ستظل تلازم الضحية، حتى يحقق شكلاً من العدالة من وجهة نظره.
لا يتحدث الفيلم عن شخصيات خارج الواقع، ولا عن مواقف غريبة عن الحياة، ربما سمعنا حكايات مشابهة لأشخاص نعرفهم، أ وتواترت إلينا على سبيل التسلية وتمضية الوقت بسلام، لكن أن يصبح الانتقام بهذه الطريقة، فهي لعبة السينما والخيال السينمائي. والخيال هنا ليس صاخباً، لكنه أشبه بمعاناة أصحابه، هادئ ونابع عن تفكير عميق، حتى ل وظهر الحل مُصادفة، أ وجاء الانتقام في لحظة وعي خاطف. بساطة الحالات وقسوتها، تصوّر مدى ما فعله أحدهم بآخر، بقصد أ وبدون، لكنها فِعلة بسيطة، تغيّر من حياة الأشخاص إلى حدٍ غير متوقع. الفيلم من تأليف وإخراج الأرجنتيني Damián Szifrón، إنتاج إسبانيا والأرجنتين عام 2014، وشارك في إنتاجه المخرج ألم ودوفار. نال الفيلم العديد من الجوائز، ونافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير، كما ترشح لجائزة الأوسكار، كأفضل فيلم أجنبي.
الانتقام برفق
يبدأ الفيلم بشخصيات على متن طائرة، يتعرف الناقد الموسيقي على عارضة أزياء، تخبره بأنها كانت صديقه لموسيقي شاب، وبمجرد ذكر اسمه، يتعرّف عليه الناقد الذي قيّم مشروعه وسخر منه طويلاً، عانى بعدها الشاب ــ انقطعت علاقته مع الفتاة ــ معاناة شديدة، وتتدخل في الحديث امرأة هي مُعلمة الشاب وه وطفل، ويتواتر الجميع في التصريح بمعرفتهم به، وكم أهانوه وسخروا منه، ليكتشفوا أن الرحلة بالكامل من تدبيره، وأنه جمع شياطين حياته على متن طائرة! زملاء الدراسة وطبيبه النفسي وكل مَن صادفه ول وعرضاً، وكان له أسوأ الأثر على مجرى حياته، ه والآن داخل حجرة قيادة الطائرة المغلق بابها، يستجديه الطبيب بأن الذنب يقع على والديه، فهما السبب الحقيقي لمأساته، وتهتز الطائرة بشدة، وتتجه في هدوء أكثر من هدوء جلسة رجل بجوار امرأة في حديقة منزلهما، في ظل شيخوختهما، لتصل الطائرة إليهما، وينتهي الأمر. وتبدأ عناوين الفيلم. حكاية خاطفة لا تستغرق سوى دقائق، لكنها في بساطة شديدة تحكي تاريخا شخصيا لشخص ــ لم يظهر في الفيلم ــ ليتشارك معه الجميع بنسبة ما، في ما حدث له طوال حياته وحتى قراره بالانتقام، هذه الحكاية التي لا تحمل الكثير من التفاصيل، توحي بتخيّل حياة المعاناة هذه، الجميع اشتركوا في نهاياتهم من دون أن يدروا، أفعالهم مهما كانت بساطتها من ابتسامة ساخرة، وصولاً إلى التعنيف، هي التي حاكت طريقة الانتقام المُبتكرة في النهاية، فأي واقع وصل بالخيال إلى هذا الحد؟!
حالة عشق
رجل مُتأنق يقود سيارته الفارهة على إحدى الطرق السريعة، يصل إلى سيارة أمامه تسير في وسط الطريق، وحينما يجتازها ينهر سائقها، ويستكمل المسير، حتى تتعطل سيارته ويهبط لاستبدال إطارها، هنا يلحقه الآخر ويبدأ في الانتقام منه، بأن يكسر الزجاج، وبينما يمضي يبلغ الغضب بالآخر، فيقوم بدفع السيارة لتسقط وتعلق في منحدر، ويفر هارباً ويلحظ نجاة السائق، فيعود للقضاء عليه، إلا ان سيارته بدوره تعلق في المنحدر نفسه ــ هذه الحكاية من تحولات المواقف من نجاة وسقوط بين الشخصين أشبه بحالة بطل فيلم U-TURN لأوليفر ستون ــ إذ وهما في قمة العراك، يأتي المُحقق ويسألونه عن السبب وهما على هذه الوضعية الأشبه بالعناق، ليُصرح بأنها بالتأكيد حالة عشق! هل السخرية هنا تأتي من كلمات المُحقق، أم من حالات الغضب والانتقام الدفينة للشخصين؟ سخرية سوداء وتهكمية إلى أقصى حد من صانع الفيلم، وه ويُشرّح السلوك الإنساني، وتحولاته من الضعف إلى القوة والعكس، فقِلة الحيلة فقط هي ما تجعله يكبت عنفه، الذي يحتاج فقط إلى مُصادفة ول ومع كائن يجهله، يصبح مجالاً لهذا العنف الذي اختزنه طوال حياته حتى هذه اللحظة.
تنويعات الانتقام
وتتوالى الحكايات، ما بين فتاة تعمل في مطعم وتتفاجأ بأحد الزبائن في يوم ممطر، فه ودائن أبيها، الذي جعله يقتل نفسه، والمُغرر بأمها بعد ذلك، فما كان من امرأة عجوز تعمل معها إلا أن تضع السم في الطعام، فهذه هي وجبته الأخيرة، وهذه الميتة تليق بما فعله. وحكاية تبدأ تقليدية بأن يصدم شاب امرأة في شهور حملها، فتموت هي وجنينها، الشاب ثري، فيحاول والده بمساعد محاميه أن يحل محل الشاب أحد العاملين لديه، يوافق الرجل ويوافق مفتش البوليس، بعد إحكام الأدلة، بينما يتلاعب المحامي بالمبلغ الذي سيدفعه الأب، فيرفض الأخير ويحاول ترك ابنه يواجه مصيره، وبعد المفاوضات، يخرج العامل وكأنه صاحب الجرم، فينقض زوج القتيلة عليه ويُنهي حياته، ثم يأتي الانتقام من الدولة وإداراتها الفاسدة مُمَثلة في مخالفات المرور، فخبير المفرقعات يتفاجأ بأخذ سيارته لأنه أوقفها في المكان الممنوع، وفي لحظة غضب بأنه لم تكن هناك إشارة لهذه المنع، يحاول تحطيم المكان، وتنشر الجرائد الخبر، فيُفصل من العمل، وتطلب زوجته الطلاق، فما كان منه إلا أن يملأ سيارته بالمتفجرات ويوقفها في الممنوع، حتى يأخذونها إلى مكان تجمع السيارات المخالفة، فتنفجر من دون أن تصيب أحدا، فيُحبس الرجل ويراه الجميع بطلاً، حتى أن الزوجة تأتي وابنتيهما للاحتفال بعيد ميلاده داخل السجن. وهي من الحكايات القليلة التي انتهت بحالة شبه سعيدة، ربما لأن صاحبها حقق العدالة وفق هواه، وربما الخصم هذه المرّة كان الدولة، التي أي انتصار على أجهزتها الجائرة يوحي بالسعادة الشديدة. وتأتي الحكاية الأخيرة كحالة صاخبة وتقترب من الفانتازيا كأسلوب حكي، وليس شكلاً فنياً، عن زوجة تكتشف خيانة زوجها ليلة الزفاف، وصديقته ضمن الحضور، فتخبره بأنها ستنتقم بطريقتها، بخيانته مع أي رجل تشعر بأنه يريدها، وأن ثروته ستصبح من حقها وقد أصبحت زوجته رسمياً، لينقلب الأمر إلى سيرك حقيقي من الفعل ورد الفعل، حتى اللحظة الأخيرة التي تسامحه فيها.
السيناريو
رغم أن المخرج هوكاتب السيناريو، إلا أن الإخراج كان تابعاً تماماً للسيناري ووليس العكس، وه والفارق ما بين الكاتب بالأساس والمخرج الذي يكتب. الحكاية وسردها ه والأهم، وبالتالي تأتي بقية العناصر وعلى رأسها الإخراج، فلا توجد حركات كاميرا مُعقدة، بعيدة عن الموضوع، أ وزوايا تصوير غرائبية، رغم أن هناك بعض الحالات تتحمّل ذلك، ولكن طريقة السرد وحالات الشخصيات الأكثر غرائبية ورود أفعالها كانت هي الأساس. السرد الفيلمي درس في السيناريو، من حيث طبيعة الشخصيات وصنع الموقف ورد الفعل، لا يوجد تصنّع، والمواقف حياتية، ومن الممكن مقابلتها ومواجهتها كل لحظة، ولكن كيفية الحكي، بهذا الإيجاز، وهذه المتواليات التي تؤكد الفكرة أ والثيمة العامة للموضوع، بخلاف استعراض بيئات ومهن مختلفة في المجتمع، فكل شخص يحمل قدراً من المعاناة، وفقط ينتهز الفرصة التي تأتي مُصادفة، أ ويحاول خلقها، ليجد تبريرات كافية تؤهله للحظة انتقام. لحظة الفعل، أما الحالة فهي تنم ومع كل شخصية، وتكاد تكون طوال حياتها تعاني من أفعال الآخرين/الجحيم، لكنها شخصيات حيّة، قد تتناسى وقتاً ما حدث، لكنها لن تنسى متى ستتحقق لحظة وجودها.
محمد عبد الرحيم