«من الأرشيف السري للثقافة المصرية» لغالي شكري … فضائح اليمين وتجميل فصام اليسار
[wpcc-script type=”5443c6822aaaf2f47d53507b-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: «إن آفة الآفات هي أزمة الديمقراطية، التي تسببت في أن يكون القرار العلوي هو كل شيء، أما الأرض وما عليها فقد تُركَت للقهر والمُصادفات». بهذه العبارة يختتم غالي شكري كتابة المعنون بـ»من الأرشيف السري للثقافة المصرية»، الذي صدر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة/سلسلة العلوم الاجتماعية في 140 صفحة من القطع المتوسط. وقد صدرت طبعته الأولى في بيروت عام 1975 عن دار الطليعة.
يسرد شكري خلال الصفحات القليلة كوارث فساد المناخ الثقافي في مصر وقتها، إلا أن اللافت هو صلاحية الكتاب تماما للحظة الراهنة. عليك فقط بتبديل أسماء الشخصيات القديمة بأخرى تعيش بيننا الآن، وتتنفس السلوك والمواقف والنفاق نفسه. الكتاب إدانة كبيرة لليمين وتياراته في الثقافة المصرية، وإن كان شكري وقتها أفرد الصفحات لفضائح اليمين، إلا أنه الآن وقد تطوّر الأمر أصبحت فضائح اليسار المصري وأجياله الجديدة لا تتورع عن أن تنافس يمين الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، نتحدث عن سمة أغلبية اليسار الآن، من دون التعميم، أما اليمين فأفعاله وتوابعها مفهومة الأهداف، مهما تظاهر بعض مَن ينتمون إليه بغير ذلك.
وعي الحكيم الذي عاد
يبدأ غالي شكري انتقاده لكتاب «عودة الوعي» لتوفيق الحكيم، ويرصد ما فعله من مراجعة ما حدث بداية من يوليو/تموز 1952، ويعيب على الحكيم أنه نادى بفتح الملفات القديمة من دون تحديد أولاً، ثم تغاضيه عن جرائم اليمين في حق يوليو والثقافة المصرية. ويذكر شكري أن الناصريين الذين دافعوا عن ثورة 23 يوليو بمنطق صوابها المطلق وخلوها من السلبيات يقعون في خطأ فادح. وكذلك الذين ساووا بين الحكيم وبقية الذين هاجموا عبد الناصر. ويؤكد أن السلبيات في التجربة الناصرية ولا تزال من الحقائق التاريخية الدامغة، وأهم هذه السلبيات هي الجيوب اليمينية في النظام. ومن ناحية أخرى يرى أن الافتعال في كتيّب «عودة الوعي» يقف شاهداً مُضاداً لأعمال صاحبه السابقة على مدى عشرين عاماً. ويعترف عبد الناصر بأنه تأثر برواية الحكيم «عودة الروح» تأثراً عميقاً، وقال «إنني استوحيت من روايته ثورة أحاول استكمالها». ومنح الحكيم قلادة الجمهورية عام 1957 وهي أرفع أوسمة الدولة. ويرى شكري أن الحكيم هو الأب الشرعي لثورة يوليو، وكاتب النظام قبل أن يوجد النظام. ويذكر موقفين متناقضين للحكيم من حركة اعتقالات المثقفين في عهدي كل من عبد الناصر والسادات.
ففي عام 1959 تأتي مكالمة نجيب محفوظ للحكيم «يا توفيق بك، أناشدك التدخل لثقة الرئيس بك ومودته لك وتأثره المعلن بروايتك، أناشدك التدخل لإنقاذ سُمعة النظام من هوس أجهزة الأمن… كلمتك الآن يا توفيق بك ممكن أن تنقذ العديدين، أرجوك». فيرد الحكيم: «يا نجيب دول بيقبضوا عليهم لأسباب مالهاش علاقة بالفكر والأدب، دول لهم صفتان، صفة المثقف وصفة السياسي، إحنا ندافع بس عن المثقفين، لكن الناس اللي عايزه سُلطة مالنا ومالهم؟!». أما في عهد السادات فالأمر اختلف، وذلك في بداية عام 1973، حينما بدأ التغيير يضرب مصر ــ وقد غرقت فيه الآن ــ ثار الحكيم للمقبوض عليهم من المثقفين، لكن ثورته الحقيقية كانت لعوامل التغيير والتغييب التي طالت مصر… «ليس هذا تديناً ما نشاهده في التلفزيون وما نسمعه في الإذاعة، ويمتد أثره إلى رحاب الجامعة وملابس الطالبات. إنه هوس ودروشة وجنون، تعبيره السياسي المؤكد أن نتحول إلى مجتمع ضد المدنية والحضارة، مجتمع ينتمي إلى أكثر العصور ظلاماً». وقد تحققت رؤية الحكيم الآن تماماً، وربما هذا ما جعله متخوفاً دوماً ورافضاً فكرة العروبة وآثارها، وهي نقطة الخلاف الوحيد بينه وبين عبد الناصر.
فصام اليسار
يسرد غالي شكري بعقلانية واقع تلك الفترة، محاولاً إيجاد تفسير عقلي لرد الفعل على ما حدث بحق المثقفين والمناضلين من اليساريين المصريين ــ بغض النظر عن اختلاف المسميات والفرق والمناهج اليسارية ــ فعبد الناصر فوجئ وهو في بلغراد بمقتل شهدي عطية الشافعي، وفور عودته تقدم ببلاغ ــ باسمه الشخصي كمواطن مصري ــ إلى النائب العام، يطلب التحقيق في الجريمة! ويرى شكري أن المناضلين الذين عُذبوا حد الموت لم يناد أحدهم بسقوط عبد الناصر… «قِلة نادرة هي التي فعلت لزمن قصير، وعادت بسرعة إلى صوابها. وإنما كانت الغالبية في ظلمة الأقبية وأفران الدم تراه بطلاً قومياً… ببساطة لم تكن القضية عند هؤلاء جراحاً شخصية، كانوا يرون الاستقلال والسويس والسد العالي والإصلاح الزراعي والتأميم والتصنيع ومجانية التعليم، تستحق التضحية حتى الموت». ويذكر لقاء عبد الناصر بأسرة مجلة «الطليعة» التابعة لمؤسسة الأهرام في آواخر عام 1969 قائلاً «لولاي لكنتم حتى الآن في الجبل». والمقصود معتقل الواحات. ويبرر غالي شكري الموقف بأنه لا يعفي عبد الناصر من المسؤولية، ويكفي ما تلقاه في حياته من الدروس التاريخية العنيفة، بداية من الانفصال عن سوريا، ثم هزيمة 1967، وختاماً مجزرة أيلول/سبتمبر 1970، الدرس الأخير الذي انتهى بوفاته. ذلك لأنه لم يكتشف الصيغة الصحيحة للتحول الديمقراطي، وبالتالي التقدم الاجتماعي!
الأخوان «أمين» وأنيس منصور ومَن على شاكلتهم
لم يعد سراً أن مصطفى أمين اعترف، في التحقيقات التي انتهت بمحاكمته وإدانته عام 1965 أن «دار أخبار اليوم» تملك جهازاً للمعلومات يعتمد على مصادر موثوقة محلية وأجنبية، وأن هذا الجهاز يتبادل المعلومات مع الأجهزة الأخرى المحلية والأجنبية، وكان واضحا من التحقيق أن التنظيمات الشيوعية المصرية هدف رئيسي لهذا الجهاز، فلديه أسماء الشيوعيين ووظائفهم وأحوالهم الاجتماعية وتحركاتهم. وبدأت مشروعات أخبار اليوم كـ (ليلة القدر) وإشاعة فكرة الحظ والقدر والمُصادفة، فيختارون الفرد الذي تنفتح له طاقة السماء ليلة القدر، ليعرف السعادة قبل أن يموت، أو ليشم رائحة الأمل قبل أن يستقر في قاع اليأس.
أما موسى صبري فكان يريد استغلال الصحافيين في معركته الانتخابية، بأن يقوموا بالدعاية له، بما أنهم يعملون تحت رئاسته.. «وطلب منا أن نساعده في المعركة، ورفع اللافتات التي تقول: انتخبوا موسى صبري .. كاتب حُر لم يركع لحاكم». ومن ناحية أخرى يمتدح موسى صبري الشيوعيين واليسار حتى يتم انتخابه في نقابة الصحافيين، لكن اليسار يرفضه، ثم يلعب على الوتر الطائفي ويذهب للصحافيين المسيحيين، قائلاً، «هل أصبح مُحرّماً على المسيحي أن يكون نقيباً للصحافيين؟!» لكنهم أيضاً أدركوا ألعابه وانتخبوا مُرشحاً آخر.
ومن النجوم الزاهرة لـ«أخبار اليوم» أنيس منصور المثال الحي لمقولة «الجماهير عايزة كده» من خلال أعماله «الذين صعدوا إلى السماء» و»الذين هبطوا من السماء» كموضوع يتوازى من حدث صعود الإنسان على سطح القمر، إضافة إلى بعض القصص، خاصة تلك التي تتحدث عن الفتاة التي ركبت معه في سيارته، واكتشف أنها من الأموات وقبرها مازال موجودا، وبدأ الناس يخشون طريق صلاح سالم، ويتحدثون في البيوت والعمل والمقاهي عن الشابة التي تظهر ليلاً، حتى جاءت الفضيحة عن طريق شاب ذهب إلى الإذاعة وطلب من صاحب برنامج أن يقرأ ما معه من أوراق، وإذ بها قصة خيالية لكاتب لبناني، نقلها منصور إلى الناس كواقعة حدثت معه في مصر! فكان بما يكتبه يعمل على تشويه ومسخ التفكير عند المجتمع العربي عامة والمصري خاصة. دافعاً إياه نحو تقديس الخرافة والعمل بها.
هناك الكثير من الأسماء والمواقف على رأسهم يوسف السباعي ضابط بوليس النظام، ومصطفى محمود، صالح جودت، زكي نجيب محمود، والجواهري الشاعر العراقي الذي تورّط في خلاف سياسي بين بغداد والقاهرة من دون أن يدري!
إنها آفة تضرب الكثيرين ولم تزل، آفة السُلطة واستخدام المثقفين كأبواق لها، يسيرون في ركابها ويسجدون لها، ويُطالعوننا كأصوات القدر المُلهَمة، فتبدو كلماتهم كصراط ليس بمستقيم، فالتعامل معهم في حذر يجب أن يكون، ولا يوجد كاتب يكتب من فراغ، فإما من منطقة الفعل أو رد الفعل على موقف أو حالة شخصية إلى حدٍ كبير، إلا مَن رحم الله.
محمد عبد الرحيم