الكارو والمرسيدس… محاولات تلفيقيّة لتحديث المجتمع المصري
[wpcc-script type=”7723ae3f3031453046f13442-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: شغلت مسألة تحديث المجتمع المصري الكثير من المفكرين والمُنظرين الاجتماعيين، بداية من الصدمة التي أحدثتها الحملة الفرنسية على مصر، مروراً بمظاهر التحديث التي أقامها محمد علي، المُسمى بمؤسس مصر الحديثة، وصولاً إلى حركة يوليو/تموز 1952، وأفكار التحديث التي أدخلها نظام عبد الناصر إلى المجتمع المصري.
ورغم كل هذه الموجات، خاصة تجربة محمد علي وجمال عبد الناصر، إلا أن الحداثة لم تتمكن سوى من المظهر دون جوهر العلاقات وبنيات المجتمع، وبالتالي كانت تجاور المورثات والمعتقدات البالية الراسخة في المجتمع، التي كانت أشد وأعمق بين المصريين، وهي بذلك كانت حلاً تلفيقياً، حملت بذور الفشل منذ البداية، وهو ما أدى لما عليه المجتمع المصري الآن، يبدو حداثياً في المظهر، لكنه في الحقيقة يعيش في العصور الوسطى.
فما فعلته السُلطة عبر أجهزتها هو الترويج لمظاهر الحداثة، وظل العقل التراثي هو المُتحكم في أفعال الناس وأحوالهم. الترويج كان للمفهوم دون شروطه، فلا ديمقراطية ولا حرية ولا مساواة أمام القانون! هذا ما أشار إليه كتاب «الكارو والمرسيدس .. حداثة لم تكتمل» لمؤلفته الناقدة وأستاذة الأدب الألماني هبة شريف. الصادر في القاهرة عن دار سلامة للنشر والتوزيع 2015، في 107 صفحة من القطع المتوسط.
حداثة الحاكم وواقع المحكومين
لم تأت الحداثة إلى مصر ولم تصلها نتيجة تطورات اجتماعية وثقافية، بل وقعت فجأة، نتيجة غزو جديد مهما كان شكله، وقد تبيّنت مصر مسعاه بعد ذلك.
جاء بونابرت، واختلط الأمر ما بين مشعل حداثي يحمله مُستعمِر يخدم أهدافه في المقام الأول، فحدثت الفجوة في البداية من خلال الفكر المستورد من الغرب، فجاءت شكلياتها ومظاهرها فقط، واستمرت حتى دولة المؤسسات من سلطة تشريعية وقضائية ودستور عام يحكم البلاد، فكانت مُفرّغة من المضمون.
فالأمر تحكمه ثقافة حاكم ونخبة تتعلق به ترسيخاً لسياسته وتعضيداً لحكمه كحالة محمد علي، كل ذلك مقابل موقف العامة من المحكومين، الذين لا يلوذون إلا بالأفكار التقليدية الموروثه ويتنفسونها، والأمر يستمر حتى اللحظة الراهنة، لأن المشروع الحداثي كان فوقياً بالأساس، ويحمل بذور انهياره، وبذلك تعاود مصر الكرّة من جديد، وإن كانت بشكل مختلف كما في عهد عبد الناصر، فالشكل فقط هو الذي اختلف، جاءت الحداثة «بطريقة غير منظمة إلى حد كبير واعتمدت على أسلوب أقرب إلى التجريب العشوائي، وكان اختيار قيم الحداثة وفرضها انتقائيا إلى حد كبير وفقاً للأهواء السياسية للحكام.
» فطرق الإدارة الحديثة التي فرضها محمد علي، أو الاشتراكية التي تبناها عبد الناصر وفق فكره، وتبعات ذلك كله «لم تصاحبه استعارة قيم الحداثة الأخرى مثل الحرية والديمقراطية والمساواة أمام القانون، لأن هذه القيم كانت ستهدد طبعاً النظام السياسي من أساسه.
» حتى المفكرون الذين لفتوا النظر من خلال كتاباتهم عن رياح التحديث وآفاقه، على أمل تطبيقها في مصر، واجتهدوا بصدق ومنهم مَن دفع ثمن أفكاره «ومع ذلك ظلت تلك الأفكار مقتصرة على النخبة وعلى العاصمة.»
النظام الشمولي والفكر الأوحد
ترى المؤلفة أنه رغم ما قدمته حركة يوليو 1952 من بعض المظاهر، وعلى رأسها مجانية التعليم «لم يتحقق حلم مصر الحديثة، فأصبحت الدولة تتحكم في مصائر البشر، وأممت مثلاً كل الصحف ومعظم دور النشر. وانحسر الخطاب الذي كان من قبل متنوعاً ما بين إسلامي وليبرالي واشتراكي وشيوعي، ليصبح خطاباً رسمياً واحداً اختزل الحرية والتقدم في التحرر من الاستعمار.» وتضيف فقرة مهمة بشأن المثقفين واختلافهم عن بعض مثقفي ما قبل يوليو، وترى أنهم من أهم أدوات عرقلة تحديث المجتمع المصري، نظراً لتعاليهم من جهة، أو لارتباط مصالحهم بذلك النظام من الجهة الأخرى …». ومع تغوّل الدولة الشمولية صاحبة الصوت الواحد والرأي الواحد، فقد رضي المفكرون المصريون بتنحية أفكار التجديد التي كانت تنادي بالديمقراطية والحرية لصالح هذا الخطاب الأوحد».
التسعينات واقتصاد السوق
في هذه الحقبة لم تأت الحداثة أو مظاهرها بمعنى أدق من خلال النظام الحاكم، بل تم فرضها من جهات تفوق سُلطة الدولة، وتمثل ذلك في سياسات الخصخصة وتحرير السوق، وظهور الشركات عابرة القارات، التي أصبحت سلطتها تعلو سلطة الدول نفسها. ونظراً للإيقاع المتسارع لموجات التحديث الشكلية والاستهلاكية في المقام الأول، التي لم يتم استيعابها جيداً من خلال بنيات المجتمع المختلفة، أصبحت الحداثة شكلاً هجيناً ما بين مظاهرها المتعددة ومظاهر أخرى تحاول التمسك بعاداتها ومفاهيمها عن الحياة والعالم، ومن هنا تأتي دلالة العنوان فسير عربة كارو تجاور على الطريق نفسه العربة المرسيدس هو شكل ما حدث ويحدث في المجتمع المصري.
الإعلام وعالم رجال الأعمال
تنوّه المؤلفة بموقف الإعلام والقنوات الخاصة التي أصبحت تسيطر على المشهد الإعلامي تماماً، وبما أنها تعود ملكيتها لرجال أعمال هدفهم الربح، فقد أصبحت هذه القنوات تقدم كافة أشكال المنتجات الإعلامية للجمهور، متوخية التنوع الهائل للشعب المصري من حيث الذوق والميول، كما أن اعتمادها على دخل الإعلانات جعلها تتغيّر وفق هوى المشاهدين. من ناحية أخرى هناك علاقة وثيقة ما بين رجال الأعمال والنظام الحاكم، وبالتالي فحدودهم مرسومة من قِبل هذا النظام، حتى لو قامت بعض القنوات بمعارضة النظام، فهو من قبيل التفريغ الانفعالي للجمهور ليس أكثر.
من 25 يناير 2011 إلى يوليو 1952
وتشير المؤلفة في النهاية إلى نقطة غاية في الأهمية، وهو المناخ السائد في مصر الآن، فتنوع الخطابات والرؤى ــ وبالتالي المناخ الخصب لنشأة حداثة حقيقية ــ بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 يتقلص الآن ويكاد يختفي لصالح خطاب أوحد، تتبناه وتفرضه السُلطة السياسية على الجميع، الأمر الذي يتشابه كثيراً وخطاب يوليو 1952 الشمولي، الذي عرقل وقضى على حالة التحديث الحقيقية التي انتظرتها مصر. فما حدث في 25 يناير كان من أهم اللحظات التي من الممكن أن تكون البداية الحقيقية لتحديث مصر.
محمد عبد الرحيم