في الذكرى الـ 63 لحركة يوليو 1952 … أعمال أدبية تكشف وجهها الآخر

القاهرة ـ «القدس العربي»: جاءت حركة يوليو 1952، وحملت معها رياح التغيير القوية في الشرق الأوسط، ودول العالم الثالث إذا أردنا الدقة، وكما هو حال الأدب، الذي تلون بهذه الثورة، فظهر أدباء كانت تحملهم الأماني في النظام الجديد إلى عالم من الخيال، وأصبح الأدب بوقاً للنظام الثوري والقمعي بعد ذلك في آن.

في الذكرى الـ 63 لحركة يوليو 1952 … أعمال أدبية تكشف وجهها الآخر

[wpcc-script type=”00fb7075361c58770679f28a-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: جاءت حركة يوليو 1952، وحملت معها رياح التغيير القوية في الشرق الأوسط، ودول العالم الثالث إذا أردنا الدقة، وكما هو حال الأدب، الذي تلون بهذه الثورة، فظهر أدباء كانت تحملهم الأماني في النظام الجديد إلى عالم من الخيال، وأصبح الأدب بوقاً للنظام الثوري والقمعي بعد ذلك في آن.
وقد حوّل بعض الأدباء والكتاب، من خلال كتاباتهم المتواترة، الحركة أو الانقلاب العسكري إلى ثورة لها فلسفتها، وتنظيراتها، التي قرّبت الأمر كثيراً إلى رجل الشارع المصري والعربي، وأشاعت الروح والمد الثوري في هذه المنطقة المتصارعة. لكن هناك بعض الأصوات كانت ترى وجهة أخرى لثورة العسكر هذه، وإن كان هناك نوع من الفصام سيطر على بعض هذه الأصوات، فهم يؤمنون بالثورة ومنجزاتها ووعودها، ولكن نظامها القمعي والشمولي وضع هؤلاء أمام ازدواجية ما زال البعض يُعاني منها حتى الآن!

إرهاصات

كانت الأعمال الأدبية قبل يوليو 1952 تقدم نقداً للواقع، وتبشر بضرورة حدوث شيء ما، في ظل الظروف والأجواء المُربكة، التي كانت تمر بها مصر في ذلك الحين، فكانت كتابات عبد الرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس، وعودة الروح لتوفيق الحكيم، التي قال عنها عبد الناصر إنها مُلهمته في ما قام به بعد ذلك، كما كانت هناك كتابات نجيب محفوظ، التي تحلل الواقع الاجتماعي، وتحاول بث روح التمرد، والروح العقلية والعلمية، تأثراً بأفكار سلامة موسى، بالإضافة إلى كتابات طه حسين والعقاد التحريضية، وإن كانت راديكالية غير مباشرة. والتجربة الروائية المثيرة (مليم الأكبر) التي كتبها عادل كامل.
في هذا الجو العام المثمر، ومن خلال قيام الجماعات الوطنية، المُعلنة والسريّة كانت للكلمة المقروءة الثقل الذي لا يضاهى، رغم أمية الشعب المتفشية! فمجلة مثل «التطور» والتي سبقت عصرها بعصور، تناولت تحديد وحلول المشكلات الاجتماعية المصرية، حتى أنهم قاموا بنشر مفصل لقانون الإصلاح الزراعي، الذي طبقته حركة يوليو بعد ذلك، وفق رؤيتها الخاصة.

الفصام

ظن العديد من الكتاب والأدباء أن حركة يوليو هي التحقق الفعلي لما حلموا به من أفكار عن تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، التي طالما سوّدوا من أجلها الصفحات، ولكن البعض توجس خيفة من هذه الحركة، خاصة وأن الذي قام بها عسكريون، وأن ذوي الأفق رأوا أنها في البداية والنهاية مجرد إنقلاب عسكري ــ راجع موقف نجيب محفوظ ــ ووفق هذا الظن الرومانسي، وما حاولته الثورة ــ أصبح اسمها ثورة ــ من احتواء الجميع تحت شعاراتها البرّاقة، بأنها الجانب الفعلي والعملي لأحلام هؤلاء، والمثل الأعلى الذي يجب تأييده، وإلا وضع المعارض تحت طائلة خيانة الثورة.
وحينما أثبت الزمن أن المبادئ التي نادت بها الحركة/الثورة قد خالفها الواقع، بدأت الصدامات، فكانت حملات الاعتقالات للمخالفين في الرأي، والنظام الشمولي لن يرحم أحدا، ولكن الأدباء والكتاب انطلاقاً من رومانسيتهم الحالمة، لم يريدوا التصديق، وأرجعوا الأمر إلى رجال النظام، وليس إلى نجمه الأوحد، مما جعل شهدي عطية على سبيل المثال يهتف بحياة عبد الناصر، وهو يتلقى الضربات داخل المعتقل، من قِبل رجال عبد الناصر، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

بحثاً عن العدالة المفقودة

فتحت المنجزات الثورية الصورية الباب أمام جيل، تم تسميته بعد ذلك بجيل الستينيات، الجيل الذي امتلأ إيماناً بالأفكار الاشتراكية، ومحاولة البحث عن تحقيق العدالة الاجتماعية، التي بشرت بها الثورة المباركة، واستمد هذا الجيل قيمة نضاله من السير في ركب الثورة، وللمفارقة أن مَن سُجنوا أيضاً استمدوا قيمتهم من مخالفتهم الرأي للثوار العسكريين، فكانوا أشد حفاظاً على هذا النظام من أصحابه نفسهم. فقيمتهم تتجلى في هذا التاريخ القمعي لنظام شمولي وفكري يؤصل لتاريخهم النضالي. ولكن هناك بعض الأصوات استطاعت رؤية ما هو مخالف للدعاية الإعلامية الهائلة، التي استخدمتها حركة يوليو لتأصيل شرعيتها الزائفة، واستمرارها، من خلال الإذاعة والأعمال الأدبية المتوسطة القيمة، والقاصرة على الحلم ــ أعمال يوسف السباعي كمثال ــ والأعمال السينمائية، التي رأت أن المفاسد كلها كانت في النظام الملكي الفاسد. بالإضافة إلى جهاز رقابي قوي، يعمل في خدمة النظام ليل نهار، حتى أن فيلم (يوميات نائب في الأرياف)، وهو عن رواية توفيق الحكيم، ومن إخراج توفيق صالح، وكان يتعرض للظلم الاجتماعي في الريف، تم تغيير نهايته، والإيحاء بأن الأحداث تمت في منتصف الأربعينيات، أي في عهد الملكية البائدة!

وجه يوليو الآخر

وفي مجال الرواية نجد أعمالاً أظهرت سلبيات الثورة مثل (اللص والكلاب/السمان والخريف/ ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ، و(الأفيال) لفتحي غانم، و(الحب في المنفي) لبهاء طاهر، وكثير من الأعمال لأدباء من أمثال إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس، وجميعها يمكن اعتبارها رد فعل لأحداث المجتمع بعد الثورة‏، إلا أننا نجد أن الصوت الأعلى والأكثر تميزاً هو الكاتب صنع الله إبراهيم، الذي حاول رصد الحقيقة لما يحدث، بخلاف الخطاب الدعائي الشائع، وتأتي روايتيه (تلك الرائحة) و(نجمة أغسطس) خير دليل على هذا الصوت المخالف، والباحث عن عدالة اجتماعية مفقودة، تم تصديرها في الحلم فقط.
صدرت رواية (تلك الرائحة) عام 1966، قبل هزيمة 5 حزيران بعام واحد، وقد كشفت عن فساد نظام دكتاتوري، لطالما ادعى الديمقراطية، والحلم الاشتراكي الزائف، البعيد كل البُعد عن الواقع المُعاش، ففضحت المستور من خبايا النظام العسكري، الذي ما زالت تعاني منه مصر حتى الآن.
تمت مصادرة الرواية في طبعتها الأولى، ثم نشرت بعد ذلك غير مُكتملة، حتى أن الطبعة الكاملة الوحيدة، في نصها الأصلي ظهرت بداية من العام 1986.
يخرج المؤلف/الراوي من السجن، ليكتشف المسافة الشاسعة بين الحلم والواقع، الحلم الثوري، الذي لا يعرف سبب دخوله إلى السجن، في ظل ثورة تؤمن بتحرر الإنسان، وتحاول بناء مجتمع حُر، بما أن عهد الاستعباد قد مضى، وبين واقع يحكمه نظام شمولي أوحد، يُعادي الجميع إلا نفسه، ليجد الراوي نفسه في مفترق طرق، يعاني من سجن كبير، يشمل المجتمع ككل، فالفساد يطول كل شيء، ومنظومة القيم التي تبثها الأغاني من خلال الإذاعة ليل نهار، أصبحت بالية، ورائحة عفنة صارت لا تطاق، هي رائحة هذا النظام، وما خلّفه في النفوس.
والمفارقة في بداية الرواية تكمن في أن اليوم الذي يُغادر فيه البطل السجن، هو نفسه يوم عودته إليه، وهذه الحركة الدائرية، هي التي تحكم البنية الكلية للرواية (قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان) ص 31 .
فالعودة إلى القسم هي عودة حتمية، ولحظة الخروج هي نفسها لحظة العودة، فلا يوجد خروج من الأصل، وقد وجد البطل أن لا شيء قد حدث منذ دخوله السجن، حتى خروجه وتواجده بين الآخرين الآن، فهم مثله في محبس كبير.
وجاءت رواية (نجمة أغسطس) لتوضح الوضع الفعلي للجو المحيط بأكبر مشروع ثوري في الشرق الوسط، وهو بناء السد العالي، ووسط الأغاني والكتابات البالية، التي أوهمت الناس، وأغرقتهم في الأحلام أكثر وأكثر، يكشف صنع الله إبراهيم عما يدور في الحقيقة، والأوضاع المزرية والمخاطر التي يتعرض لها العمال المصريين، وسوء الأحوال، بخلاف العمال الروس مثلاً، فالصورة ليست وردية كما كان النظام يريدها للناس.
بخلاف العمل الهام لجمال الغيطاني (الزيني بركات)، والذي استلهم من التراث رواية عميقة عن نظام الحكم الشمولي، وما يفعله في النفوس، من تشويه لآدمية الإنسان، وتحويل الجميع إلى جواسيس، يخدمون النظام الحاكم.
إلا أن الملفت للنظر أن يتم طرح رواية حديثة في الألفية الجديدة، تحت عنوان (فيوليت والبكباشي) وهي العمل الروائي الأول للكاتب عمرو حمودة، وقد تعرّضت لثورة يوليو بمزيد من النقد، وهذا ما يستلفت الانتباه، أن أحداث تلك الثورة لا تزال ترمي بظلها حتى اليوم، ولو على سبيل عقد المقارنات، ومحاولة رؤية النتائج من خلال المقدمات، فالكاتب يرى أنه يكفي الكذب إلى هذا الحد، وأن نظام عبد الناصر عبارة عن دولة بوليسية وسجن كبير، رغم التبريرات الخائبة، وقد تم إقصاء مَن يحملون فكراً ورؤية مختلفة، فالثورة لم تثق في المثقفين، لأن مثقفيها داخل الجيش، والجيش فقط.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *