«الأمير الصغير»… مصادفة في مقهى تكشف عن متاهة يحياها الكبار
[wpcc-script type=”725583552cbe8fd3e115ca66-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: صيف 1942… طاولة طعام في مقهى (أرنولد) في نيويورك، تضم طياراً فرنسياً منفياً، بصحبة ناشر وزوجته. كانت وجبة غداء، بعد الانتهاء منها رسم الطيار فوق غطاء الطاولة صورة صبي صغير أشعث، فابتسمت زوجة الناشر، الذي علّق قائلاً.. لماذا لا تصنع منه بطلاً لحكاية تصلح للأطفال، فأجاب الطيار باقتضاب.. ولم لا!
كان صاحب الحكاية حزيناً جداً، طيار فرنسي منفي في نيويورك، محبط، ناقم، اسمه Antoine de Saint-Exupéry. بدأ العمل في الرواية هرباً من حياته المؤلمة، وكانت ساحة العمل شقة صغيرة حملت اسم (منزل الأمير الصغير). يكتب ويدخن وينام قبيل الفجر، وحكايات الأمير الصغير تشاركه الفراش… مبعثرة من حوله، كشعر الطفل الأشعث الذي رسمه يوماً ما.
حقيقة الأمير الصغير
لم تزل رواية الأمير الصغير Le Petit Prince على رأس أكثر الكتب مبيعاً في العالم، وقد تمت ترجمتها إلى أغلب اللغات واللهجات، وتم تحويلها إلى أفلام رسوم متحركة، كما نقلت إلى المسرح، إذ مازالت مسارح باريس تقدمها حتى الآن، هذه الرواية التي كانت في وقت من الأوقات ثالث كتاب في أوروبا شهرة ورواجاً بعد الكتاب المقدس ورأس مال ماركس، فقد تجاوزت مبيعاتها ملايين النسخ، رغم أن مؤلفها لم ير الكتاب بين يديه.
ولد Saint-Exupéry في ليون الفرنسية عام 1900، ومات عام 1944، حيث لقي حتفه في أعقاب مهمة عسكرية استطلاعية، ولم يتم العثور على رفاته إلا عام 1988. كتب بعض الأعمال الأخرى التي لم تنل حظها من من الشهرة، مقارنة بـ»الأمير الصغير»، مثل «أرض البشر» 1939، و»طيار الحرب»1941.
وجاء كتاب بعنوان (القصة الحقيقية لرواية الأمير الصغير) لمؤلفه Vircondelet Alain الذي يستعرض خلاله الظروف التي صاحبت تأليف الرواية. ويرى المؤلف أن (أنطوان) كتب الرواية للتغلب على المنفى والوحدة والقلق والاغتراب عن باريس، ولاستعادة شيء مفقود يحاول بعثه من جديد، كان يكتب باحثاً عن طفولته الضائعة. أصر الناشر على أن يُسلم أنطوان المخطوطة في عيد الميلاد عام 1942 وقد فعل، وربما هذا هو الشيء الوحيد الذي أنهاه في حياته.
أنطوان وكونسويلو
يروي صاحب الكتاب أن (كونسويلو) زوجة (أنطوان) هي التي ألهمته حكاية «الأمير الصغير»، رغم انه كان ناقماً عليها، كما كان ناقماً على حياته. ويرى الكاتب أنها كانت كل حياة أنطوان،، فإصراره على نسيانها قد زادها حضوراً، فهي تظهر في كل سطر وكلمة في الرواية، كما أنها أرسلت إلى أنطوان عدة رسائل متواترة، كانت تتحدث فيها عن حياة وشخصيات «الأمير الصغير»، إضافة إلى أسرار حياتهما، خاصة في ما بين عام 1942، وحتى فقدان أنطوان عام 1944، عندما انقطع كل اتصال مع الطائرة التي كان يقودها كطيار عسكري، بعد انطلاقها من جنوب فرنسا وتوجهها إلى تونس خلال الحرب العالمية الثانية.
روح طفل
«الأمير الصغير» طفل ينتمي إلى كوكب صغير جداً، مقارنة بكوكب الأرض، الذي يرمز إلى عالم الكبار/سخافاتهم وتفاهات منطقهم الضحل. اضطر الطفل إلى الهبوط على الأرض، لإصلاح عُطل في طائرته، وقد كان الراوي بالمصادفة يقوم بإصلاح طائرته هو الآخر. وخلال رحلة الطفل هذه من كوكبه إلى كوكب الأرض، يُناقش بمنطقه الطفولي ــ النقي والغريب جداً بالنسبه للكبار ــ أفكاراً وقضايا توضح ماهية الوجود الإنساني، هذه الأفكار النابعة من تأملات ومعاناة المؤلف، أفكاراً تتراوح ما بين معنى الحب والصداقة والسُلطة والعلم والجمال، فما جدوى نمو الأشواك حول الزهرة، طالما لم تكفل لها الحماية من أعدائها؟! وهي قضايا يراها أهم بكثير من مشكلات الكبار الساذجة، هذه الرؤية تتضح تماماً وهذا المنطق يبدو نقياً كصاحبه، عندما يطلب الطفل من الراوي أن يرسم له صندوقاً فوق ورقة بيضاء، جديراً باحتواء خروف نائم، غارق في سباته. وبعد محاولات مُستميتة من الراوي في رسم الصندوق والخروف بداخله، ينتهي به الأمر إلى اكتشاف منطق ووعي الطفل… «قال الولد: إرسم لي خروفاً، ففرغ عندئذ صبري، وخربشتُ له الصورة التي ترى، وقلت: هذا هو الصندوق، أما الخروف فهو بداخله. ونظرت إليه فإذا وجهه يتهلل حبوراً… ثم قال: هذا ما كنتُ أبتغي. هكذا عرفتُ الأمير الصغير».
إنه عالم الطفولة الذي يفيض بالأسئلة والأفكار الكونية الغريبة والعميقة في الوقت نفسه … «إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئاً من تلقاء نفوسهم، فلابد للصغار أن يشرحوا لهم، ويُطيلوا الشرح ويكرروا… وبعد أن قطع الأمير الصغير شوطاً طويلاً عبر الرمال والصخور والثلوج، اكتشف في نهاية المطاف طريقاً، وجميع الطرق تؤدي إلى الناس».
شخصيات الحكاية
يستمر Vircondelet في سرد الحقائق والخلفيات حول شخصيات الرواية، فهي مأخوذة بالكامل من حياة أنطوان، كالثعلب الذي رآه وهو يحلق بطائرته فوق سماء موريتانيا… «إنك لا تعني بالنسبة لي حتى الآن إلا طفلاً صغيراً يشبه مئة ألف من الأطفال الصغار. ولست بحاجة إليك، كما أنك لست بحاجة إليّ أيضاً. لست بالنسبة إليك إلا ثعلباً، يُشبه مئة ألف من الثعالب. ولكن إذا ما آلفتني فسيحتاج واحدُنا إلى الآخر.
ستصبح بالنسبة إليّ الأوحد في العالم، وسأصبح بالنسبة إليك الأوحد في العالم.. إن حياتي مملة. إنني اصطاد الدجاج، والرجال يصطادونني. جميع الدجاج متشابه، وجميع الرجال متشابهون. ولذلك فإني أشعر بالملل قليلاً. ولكن إذا ما آلفتني، ستصبح حياتي مشرقة.. سأميّز صوت خطواتك من بين كل الخطوات.. إن خطواتك ستصبح بالنسبة لي كالموسيقى». أما الوردة فلم تكن سوى ظل روحه/كونسويلو، التي كان لها أكبر الأثر في حياة الأمير الصغير، والمؤلف العاشق، الذي وعدها بأن يُهديها حكاية أخرى، لكنه لم يف بالوعد، ففي صباح يوم 13 يوليو/تموز 1944 تحطمت طائرته فوق البحر… «، كان شذى زهرتي يعبق في جنبات كوكبي، أما أنا فما عرفتُ أن أجني منها لذة ومتعة… ما كان عليّ أن أحكم على كلامها، بل على أفعالها. إنها كانت تعطّرني، وتضيء لي، فلماذا فررتُ منها ولم أحزر ما وراء حبائلها وحِيَلها الساذجة من المحبة والعطف. إن الأزهار تُناقض نفسها بنفسها، لكنّني كنتُ صغيراً جداً ولم أحسن محبتها».
«الأمير الصغير» بالعربية
ترجمت الرواية إلى العربية للمرّة الأولى على يد الشاعر اللبناني يوسف غصوب، ثم لحقتها أخرى قامت بها رزان عابد الأخرس، والصادرة عن دار طلاس في دمشق، متضمنة رسوماً للمؤلف بالأبيض والأسود للأمير الصغير وعالمه،. كذلك ترجمها الشاعر سعدي يوسف، من خلال سلسلة الكتاب للجميع، الذي كان يوّزع مع جريدة «السفير»، وكانت آخر ترجمة لها عام 2009، قام بها محمد حسن عبد المولى عن دار شمس للنشر والإعلام في القاهرة.
محمد عبد الرحيم