لوحات التشكيلي السوري عبد الرزاق شبلوط واقعية مفرطة تليق بالأوجاع الكبرى

عندما يتحدى الفنان فنانين آخرين فالأمر يبدو طبيعياً ومنطقياً بل عادياً جداً، أما حين يخرج التحدي عن هذا النّطاق ويبدأ الفنان بمنافسة الكاميرات بدقتها العالية، وحتى منافسة تفاصيل الواقع نفسه عبر لوحاته المشـــغولة بأسلوب الواقعية المفرطة Hyperrealism هنا تبدأ حالة من الإبهار والدّهشة كتلك التي تسكننا بعد الإمعان في أعمال الفنان السّوري عبد الرزاق شبلوط.

لوحات التشكيلي السوري عبد الرزاق شبلوط واقعية مفرطة تليق بالأوجاع الكبرى

[wpcc-script type=”437388e129c3543bebce7da4-text/javascript”]

عندما يتحدى الفنان فنانين آخرين فالأمر يبدو طبيعياً ومنطقياً بل عادياً جداً، أما حين يخرج التحدي عن هذا النّطاق ويبدأ الفنان بمنافسة الكاميرات بدقتها العالية، وحتى منافسة تفاصيل الواقع نفسه عبر لوحاته المشـــغولة بأسلوب الواقعية المفرطة Hyperrealism هنا تبدأ حالة من الإبهار والدّهشة كتلك التي تسكننا بعد الإمعان في أعمال الفنان السّوري عبد الرزاق شبلوط.
مواليد مدينة حمص عام 1974، وبعد أن درس الفن في مركز صبحي شعيب للفنون في حمص، لمدة ست سنوات، انتسب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق وتخرَّج منها عام 1997. ولقد لجأ الفنان إلى الواقعية المفرطة كردّ فعل على الأوجاع التي ألمّت ببلده وغيرت وجهه وشوّهته بالأحرى، فصنعت ثورة على صعيد شبلوط الشخصي على حدّ قوله. فحين يتشوه الواقع ويتغيّر، عندما نفقد التفاصيل الصغيرة التي كنا نتعثر بها كلّ يوم، ويغيب ما لم نحسب حساباً لغيابه، حينها سنحاول أن نخلق تلك التفاصيل بأي طريقة.
ولقد نجح شبلوط في ذلك، فمنذ خروجه من سوريا عام 2011 إلى لبنان ثم ألمانيا، بدأ بصناعة لوحات تحبس ضمن حدودها تفاصيل تتعلق بالحياة التي عاشها والتي يعيشها أي إنسان، تفاصيل بسيطة يومية تحرِّك الكثير من الحنين. فلوحة «ناطرك عالعشا» تعيدك لغرفةٍ في بيتٍ سوري، البساط الملقى على الكنبة، قُربةُ الماء، إبريق الشاي، البصل، الطماطم، أكواب الشاي، كل شيء هنا له بصمة مهما حرقنا أصابعه لن يفقدها. ما استحوذ على انتباهي هنا هو الانعكاس على إبريق الشاي، ورحتُ أتأمله وأبحث عن صورة وجهي أيضاً. في لوحةٍ أخرى أسماها «رائحتها» يستدعي مجوهرات وإكسسوارات المرأة التي أحب، لتجلب بحضورها الرائحة فتنفذ بسهولة ضمن ألوانه الزيتيّة الرائقة الصافية وتضع الذكرى بين يديه.
يذكر شبلوط بأنه أتمّ عشر لوحات ضمن أسلوبه الجديد خلال العامين الماضيين، أكثر ما لفتني منهم لوحة «مخيمات» والتي يشكّل فيها خيماً صغيرة على طاولته من كلّ شيء، من الرسالة، من جواز السفر، علب السردين، الصور، الكتب… كلّ الأشياء تتهيّأ لتكون خيمةً محتملة لنا نحن السّوريين.
تظهر براعة شبلوط التصويرية ودقته في رسمه للمواد ذات الشفافيّات العالية، فالماء ضمن لوحاته ينسكب دوماً، فهو في حد ذاته لا يشكُّ أبداً بأنه غير حقيقي! وكذا الفواكه النَّضرة التي تجبرنا على وضع اللوحة فوق المائدة في مكانها المناسب.
عن الواقعية المفرطة هناك فكرةٌ رائدة تردد بإن الفن ليس محاكاة للواقع، بل هو خلق إنساني آخر، ويضرب معتنقوها مثلاً بأنه عندما أراد الإنسان أن يحاكي السير على أقدامه ابتكر العجلة التي لا تشبه ساقيْه في شيء. وعنها يقول الفنان: «إنها مرحلة في حياتي من الممكن أن أخرج منها بعد فترة، غير متأكد، لكنني الآن أرغب باتباع هذا الأسلوب وإثبات جدارة فيه، خاصةً بأن المشتغلين به نادرون في الوطن العربي، فهو يحتاج عملاً جديّاً». ويضيف:»إنها ردّ فعلٍ على استسهال الآخرين للفن .. الكثيرون لا يتقنون إلا حمل الفرشاة ومع ذلك يدعون أنفسهم فنانين!!!». مشروعه هذا لم يمنعه من العمل على مشاريع أخرى من ضمنها واحد بعنوان «سوريون الآن ودائماً» يكرّم به أشخاصاً أثّروا في حياته، ويظهر فيه حبّه الشديد للبورتريهات، يرسمها باستخدام حبر الجوز والذي يميّزه لونه الترابي المتأرجح بين درجات البني. طبقات شفافة تتكدس فوق بعضها، تخلق له الأهل والأصحاب الذين تركهم أو تركوه إلى غير عودة، فهو يعيدهم وقت يشاء. يقول: «ذكريات عائلتي وأصدقائي هي مصدر إلهامي في لوحاتي، فبالرسم أستطيع أن أعيدهم إلى الحياة من جديد…». وليس الأهل والأصدقاء هم وحدهم مصدر الإلهام، فالحرب أيضاً ألهمته فرسم عدداً من اللوحات يعبر بها عن هذه المأساة، مندرجة في المدرسة الانطباعية التي أحبَّها ورسم وفقها معظم أعماله السابقة بعد أن تعدّدت أساليبه في البدايات. فها هي لوحة «قبر جماعي» تظهر كأرشيف هام يوّثق لجماعات القتلى، لتشابههم، لتشابه أمهاتهم، تشابه حزنهم، نواحهم، صوتهم، زهورهم.
القبر واسعٌ جداً وأظنّ أن القتيل وطن يرقد هناك ويسمع رثاءنا، نساء كثيرات ورجل يتيم بينهن، يبكين بدموعٍ أظنها بنية اللون صبغت التراب بلونها، الألوان في اللوحة واضحة وقوية، اللون البني متنوع الدرجات مكدّس وفق ضرباتٍ مدروسة توحي بأن القبر قد رُدم حديثاً يخالطه اللون الأحمر الذي لا يغيب عن قبور الشهداء، الأخضر يحيط بالمكان وكأن الجنّة حضرت الجنازة.
أما في لوحةِ «باقة زنبق» فالصّدمة هي سيدة الموقف هنا، الزَّهرة البيضاء التي أطلّت لخيالنا بعد سماع عنوان اللوحة تحولت إلى قدم، مجموعة من الأقدام بعضها مدمى حُبست بشريط، أو ربما جمعت مع بعضها البعض صدفة كباقة لأن طريقها واحد، فالقدم ماهي إلا خطوة وتلك الخطوات هي طريق بريحٍ نديّ كريح الزنبق، وهذا مدعاة للتفاؤل إذا ما أغفلنا القسوة التي تملأ اللوحـــة وتتجلّى في الطريقة التي تتدلّى الأقدام فيها، بالإضافة للألوان الباردة الباهتة المهيمنة على معظم اللوحة الداعية للكآبة واليأس، لا يكسر جمودها سوى تلك البقع الحمراء، بقع الدّم.
هذا بالإضافة إلى أعمالٍ أخرى تصوّر الأَسر، الفراغ، الخوف… تظهر فيها لوحاته بعنصرين أساسيين هما الظلّ والنور. وهنا نتذكر يقول فرانشيسكو غويا: «يتحدث الأساتذة دائما عن الخطوط والألوان، ولكني لا أرى في الطبيعة لا خطوطاً ولا ألوانَا وإنما أرى أضواءً وظلالا فحسب». هذا كان السّر في أعمال غويا، وكذلك كان السبب وراء إبهار أعمال شبلوط، فالألوان تطلّ علينا قويّةً حارةً في معظم مساحات اللوحة (أصفر، برتقالي…) على هيئة ضوء، يفرش البقعة التي يتموضع عليها مركز الثقل والقوة في اللوحة – في معظمها شخصيّة وحيدة تتقمّص كلّ الانفعالات الإنسانيّة- فيتشكّل مشهدٌ مسرحيّ متكامل، يعبّر عن روحانية الفنان وشفافية وصدق الفكرة التي يحملّها للوحة.
خلاصة القـــــول إن الفنان عبد الرزاق شبلوط يملك الكثير من الفن ليعطيه، ويملك الكثير من الكلام ليقوله، مكتظٌ بمشاعر ومتناقضات، لابد من أن يرسم ليوثّق غيابنا وحزننا، ولابد أن يرسم ليعيش كما يقول هو: «كفنان، يجب عليّ أن أرسم لكي أبقى على قيد الحياة».

بسمة شيخو

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *