«تجليات سرد الحياة»… دراسة في أدب نجيب محفوظ القصصي: متاهات البحث عن المطلق والسقوط في فخ السُلطة
[wpcc-script type=”3a2d4a2e9c1096b5663284a5-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: لم تحظ أعمال نجيب محفوظ القصصية بالدراسة والبحث النقدي الكافي، اللهم إلا عدة مؤلفات مقارنة بأعماله الروائية التي لم تزل محل بحث ودراسة وتطبيق النظريات النقدية الحديثة على هذه الأعمال لاكتشاف الجديد، الذي ربما لم تدركه مدارس النقد الكلاسيكية.
إلا أن المجموعات القصصية التي أنتجها محفوظ كان يتم انتقاء البعض منها، خاصة ما كتبه الرجل في فترة الستينيات من القرن الفائت ــ بعد هزيمة 1967 في وجه خاص ــ وهي ما سُميت بالكتابة الرمزية والعبثية لمحفوظ، كمحاولة منه لوضع الواقع الأشد عبثاً في تجربة جمالية عبر القصة القصيرة. وعن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة/سلسلة كتابات نقدية، صدر للباحث محمد عطية محمود كتاب بعنوان (تجليات سرد الحياة/قراءة في أدب نجيب محفوظ) حاول فيه تقديم صورة شاملة لفكر محفوظ الفني والجمالي من خلال نصوص قصصه القصيرة، والتي تحمل في دلالتها رؤية أعمق وأشمل لنظرة الرجل إلى ما يحدث في حالة من التزامن لما هو سياسي واجتماعي، دون أن تغيب عنه بالطبع القضايا الكبرى التي ناقشها محفوظ خلال إنتاجه الأدبي ككل.
وهذه المجموعات القصصية التي تبدأ بـ (همس الجنون) 1947 وحتى (أحلام فترة النقاهة) 2004، حيث قام الباحث بإجراء انتقائي لنصوص بعض المجموعات كمحاولة منه لكشف البنيات الكبرى في أدب محفوظ. يقع الكتاب في 240 صفحة من القطع المتوسط.
الحلم بالعودة
ما بين قصة (قاتل) و(دنيا الله) يتجلى بشكل أو بآخر الحلم المتجسد في العودة إلى التجربة الأولى، الإنسان وفضاء الجنة الموعودة، وهذا الحلم لابد من تقديم أضحية حتى تتم التجربة ولو لأيام كما في دنيا الله، أو لحظات كما في قاتل .. «وكان يومه كله ينقضي بين الحجرة المفروشة التي اكتراها وبين الساحل، لا شاغل إلا الحب والمشاهدة والتدخين والأكل والشرب والأحاديث/دنيا الله» والتي يختتمها محفوظ بالقبض على هذا الحالم، الفار من العالم، لأنه سرق نقود الموظفين وتنفس عدة أيام، وعندما يسأله العسكري .. لماذا فعل هذا؟ لا يجد إلا كلمة واحدة .. «الله»!.
وجود أجواء العالم المفقود هذا والحلم بالعودة يتجسد لحظياً في قصة (قاتل)، الذي بينما يستعد لفعل القتل/قتل شخص لا يعرفه، تبدأ الخيالات بعالم آخر .. «وجلس في محل سيدهم الحاتي، يأكل بنهم حتى أذهل النادل، وطلب كل شيء، وقال لنفسه ليت ذلك يدوم بلا قتل … ومضى يأكل اللحم ويحتسي، وهو إذا شرب توهجت أعصابه، وتوثب قلبه وفارت جراثيم العدوان في دمه .. وترامت إليه تلاوة من مُقرئ حسن الصوت، فأمعن في الأكل والشرب وغرق في دوامة من الهذيان .. عند ذاك نهض وكل شيء يبدو أحمر في عينيه، ومضى في درب الجماميز وهو يتحسس السكين في صدريته». وهنا يفر الرجل بعد فعل القتل، ناسياً السكين في قلب القتيل، غير واع للدماء التي تلوث جلبابه ورقبته! السجن هو الثمن إذن عند محاولة الحلم والهروب إلى المحاولة الأولى والحلم الأزلي بالعودة إلى جنات النعيم، لاحظ آيات القرآن وقت تصاعد الخمر إلى رأس القاتل!
متاهات البحث عن المطلق
«على أي حال فهو حي لم يمت، ولكن لا مسكن له وهذا هو الخازوق، ربما صادفته وأنت خارج من هنا على غير ميعاد، وربما قضيت الأيام والشهور بحثاً عنه دون جدوى». يتدرج الوعي ببطل (الزعبلاوي) لتصبح عملية البحث عن صورة معادلة للمطلق هي الهم الشاغل، عدة شخصيات مسهم الزعبلاوي واختفى، البطل يبحث، ولم يأته الزعبلاوي إلا في لحظات الهذيان، حينما تغيم الرؤية، ويبتعد الواقع تماماً، أين يأتي الزعبلاوي؟
ليس في مكتب محام شهير، أو بائع كتب، أو حتى مطرب مسته لحظة جلال في لحن لم يتخلق مثله مرّة أخرى، بل في خمارة، وبين يدي رجل سكير/الخمر والوجد الصوفي، والمحطات هنا التي توقف عندها البطل أشبه بالأحوال والمقامات، وقد جاء أخيراً إلى صاحب المقام الأكبر … «وملأ الثاني فنظرت متردداً، ثم تغلبت على احتجاجي الباطني وشربته دفعه واحدة، وما أن استقر في موضعه حتى فقدتُ إرادتي، وعلى أثر الثالث ضاعت ذاكرتي، وعقب الرابع غاب المستقبل، ودار بي كل شيء ونسيت ما جئت من أجله، أقبل عليّ الرجل مُصغياً، ولكني رأيته محض مساحات لونية لا معنى لها، وهكذا كل شيء بدأ، وغبت في نوم عميق».
عمليات الاستستلام هنا تتم مرحلة تتلو أخرى، حتى يصبح البطل في عالم آخر/حلم، ليستفيق وقد زاره الزعبلاوي عند أقرب المقربين له .. سكير في خمارة، وهي مفردات اصطلاحية خاصة بالصوفية، لا يتم التعامل معها كما في لغة المعجم.
الرمز وعبث الواقع
في فترة ما بين الحربين 1967/1973 وما فعلته هزيمة حزيران/يونيو من كشف لانقلاب تموز/يوليو 1952، التي لم يرها محفوظ ثورة، وقد توقف عن الكتابة طيلة سِت سنوات متصلة، في تلك الفترة، كان لابد من معالجة عبث الواقع بالرمز قدر الإمكان، واللعب من خلال نصوص أدب العبث .. ما الذي حدث ولماذا وكيف؟ هذه الأسئلة تناولها محفوظ في عدة مجموعات منها .. تحت المظلة، حكاية بلا بداية ولا نهاية، وشهر العسل ــ وربما عدة نصوص من مجموعة شهر العسل أصبحت تتحدث عن الحاضر أكثر بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير وتداعياتها في علاقة الثوار بالجيش ــ وتبدو قصة (الظلام) من أفضل ما يجسد ما بعد 1967 وهي نتيجة لما حدث من تداعيات 1952 .. الأمر يرتبط باستلاب الذاكرة/التاريخ من خلال لعبة يقوم بها المعلم صاحب الحجرة المعلقة في السماء، الصعود إليها بسلم فقط، وحيث يلف الظلام كل شيء، مجرد غرزة معلقة في الهواء كحال روادها .. «كثيف الظلام كأنه جدار غليظ لا يمكن أن تخترقه عين. لا شيء يُرى البتة. إنهم يجتمعون في عدم.
ولا صوت إلا قرقرة الجوزة. والجوزة تدور حتى تتم دورتها في الظلام فترجع إلى المعلم في طريقة ميكانيكية. وكثيراً ما كان المعلم يقول: إني أرى في الظلام، اعتدتُ ذلك لطول معاشرة السجون والخلاء». فهو يتخذ مكانه وقدرته على الرؤية من خلال استسلامهم له، فهو يقود العميان .. «لا يدري أحد عن الآخر شيئاً. يشدهم إلى هذه الحجرة داء واحد. والمعلم يدعوهم واعداً إياهم بالأمان والستر».
هذا الأمان المزعوم هو الذي سيُفقدهم هويتهم في النهاية، والذي بمجرد انقشاع هذا الظلام سيصبحون بلا ذاكرة، ولن يتعرّف أحدهم حتى نفسه، بخلاف بداية الجلسة حيث لا يتعرّف أحدهم على مَن يُجاوره! سُلطة راعي الظلام انتصرت على الجميع، صدقوا فانتهوا .. «لم لا تجعلون من حياتكم كلها امتداداً جميلاً لهذه الجلسة؟»، وبعدما يستفيقون من غفوتهم يواجههم بالحقيقة التي ربما لا يريدون تصديقها .. «ستفقدون الذاكرة قبل الفجر، لن يعرف أحدكم نفسه فضلاً عن الآخرين .. غداً صباحاً لن يوجد منكم أحد، ستختفون كما اختفت بطاقاتكم». السؤال هنا .. أي بصيرة لمحفوظ تجعل من هذا النص لا يقتصر على زمنه، بل يتعداه؟ ذلك لأن الرجل ناقش فكرة التسليم الأعمى والانقياد بلا وعي لمثل أو رمز وهمي .. المعلم/الحاكم/السُلطة، فلن تكون النتيجة إلا الضياع وفقدانا أبديا للذاكرة.
محمد عبد الرحيم