أفلام مختارة في الحلقة النقدية الثالثة في مركز الفيلم البديل «سيماتك»: صورة الرجل ما بين التفلسف والواقع السياسي والإجتماعي
[wpcc-script type=”819bc406ed49bd6c7965f7d2-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: في قاعة (زاوية) في سينما أدويون بالقاهرة، عُرضت مجموعة من الأفلام المُختارة، ضمن الحلقة النقدية الثالثة لورشة النقد السينمائي، التابعة لمركز الفيلم البديل (سيماتك).
وأشرفت على هذه الحلقة ريما مسمار، الناقدة ومديرة البرامج السينمائية في الصندوق العربي للثقافة والفنون/آفاق. ومن خلال بعض من هذه الأفلام … المصري «الخروج للنهار» هالة لطفي 2012، ومن البوسنة «فصل من حياة بائع خردة» دانيس تانوفيتش 2013، والفيلم الإيراني «10» عباس كياروستامي 2002. التي تنتمي لأساليب ومناخات سينمائية مختلفة، إلا أنه من الممكن أن نلمح خيطا يجمعها كصورة «الرجل» ودلالاتها في كل من هذه الأعمال، ومَن مِن هؤلاء بالفعل جدير بأن يعيش ويبقى، ويبتسم في النهاية، ربما لم تكن ابتسامة انتصار كاملة، لكنها حالة هدوء تأتي بعد صراع طويل. الأعمال الثلاثة تجمعها حالة انتظار «حَل» من موت مُرتقب..
موت جسدي أو معنوي، إلا أن فيلم «بائع الخردة» ــ المُنتصر الوحيد ــ كان يخشى حالة الفقد/فقد زوجته وأم طفلتيه، فكان الأجدر على البقاء، لذا فهو الأكثر تجسيداً على الشاشة، بخلاف الظلال الواهنة للرجل في كل من الفيلمين الآخرين، والمتعلقة سواء بقدر أو سلطة دينية واجتماعية.
أن تعيش كجثة
في «الخروج إلى النهار» تتوافق المرأة وابنتها ويرتبط إيقاعهما اليومي بإيقاع الرجل/الزوج والأب. جثة فوق كرسي تطوف كل منهما حولها، وتنتظم المواعيد.. من صحو ونوم، خروج وعودة من وإلى المنزل، وجبات الطعام، وصولاً إلى مجرّد فتح شبّاك حجرة، دائرة مغلقة تصيب مَن يدخلها بالدوار.
الرجل الذي أصبح جسده متهالكا ويُعاني من الجروح يشبه تماماً جدران المنزل الباهتة والمشوّهة، لذا فهو حاضر دوماً، وهو الذي يأوي المرأة والابنة، رغم ألا حول ولا قوة له، فقط يرفع عينيه في صمت اعتراضاً، والكلمة الوحيدة التي نطق بها.. «زهقان».
رحلات الطواف لا تنتهي، التي جسدتها الابنة في خروجها، الوقوف أمام ضريح (الحُسين)/جثة أخرى لا تمتلك من أمرها شيئا، هذا ما تعرفه الفتاة … بيتها/المستشفى/الطريق إلى قبر الحُسين، خطواتها تمتلك يقين المعرفة، فتسير من دون تفكير، أو يقين الثوابت الواهية. ولكن حينما ضلت طريقها، وسارت داخل عالم (آلهة الفخار).. تماثيل أشبه بآلهة مُتعددة من عصور قديمة، وتناهى إلى مسامعها أصوات الذِكر الصوفي، خرجت عن دائرة خطواتها، فاستكشفت واندهشت ثم ابتسمَت.
إله قديم/زهقاااااان وآلهة تثير الدهشة والفرح، رغم الخطوات الضالة التي تسير إليها.
أن تعيش كظِل
لم يظهر الرجل مُتجسداً في فيلم عباس كياروستامي، لكنه كالبطل الخفي، فالأحداث كلها عبارة عن ردود فعل لأدواره في الحياة، فهو الذي يهجر ويخون ويفر وقتما يشاء ــ الطفل الصغير كمشروع يصيغه المجتمع ليأخذ دوره في عالم وتصرفات الرجال ــ من خلال نساء عديدات، نساء يحكْن تفاصيل حكاياتهن في رحلة لا تتوقف ولا تنتهي، سيارة تسير دوماً ــ الشخصية الرئيسية سائقة تاكسي ــ ولا تتوقف إلا لالتقاط أنفاسها، حكايات مهجورات وعاهرات ومتدينات، قادهن الفقد إلى أضرحة الأموات، كالدمى، الرجل هنا صورة لسُلطة دينية تسير على الأرض، وتحفز الآخرين على الكذب لانتشال اليسير من الحقوق الضائعة ــ كذبت المرأة أمام المحكمة وادّعت أن زوجها يتعاطى المخدرات، فلن يكون انفلات إلا بكذب، وهكذا الحال في ظِل الأديان التوحيدية عموماً، خوف من سُلطة ذكورية أورثتها مخيلة ملفقي الحكايات الدينية وأساطيرها.
حالة أخرى من الطواف المزمن يلعبها كياروستامي، أكدها بالعودة مرّة أخرى للمرأة التي هجرها حبيبها وامتنع عن زواجها، وقد أحكمت غطاء رأسها، بعدما دخلت في نفق التنسّك وتخلصت من زينتها/شعرها، وكأنها تشهد حبيبها/الظِل .. فلتنظر ما فعلته بي! لكنه لا يسمع ولا يرى، تماماً كصاحب المقام الذي أصبحت تتواتر زيارتها له الآن ــ كانت لا تؤمن في مثل هذه الزيارات بأن تحقق لها أمنياتها، حينما كانت تمتلك يقين وجودها/الآخر ــ فتدخل في نفق المتحسرات على المفقودين/صورة أخرى من المرأة العجوز، التي تسير إلى المقام ثلاث مرّات في اليوم.
أن تعيش
في «فصل من حياة بائع خردة» لا وقت لترف التأمل والتفلسف، فنحن أمام حالة فعل لابد أن يتم. خرج الرجل من الحرب سليماً، لكن ساحة الحرب الآن أصبحت جسد زوجته، حياة بكاملها توشك على الانهيار، عليه تدبير النقود لإنقاذها، ولا يستطيع عمله الشاق أن يفي بذلك.
موقف لا يُحتمل.. الرجل يواصل العمل ــ يقوم بتقطيع السيارات الهالكة ــ يصعد مرتفعات تغطيها الثلوج، عربته تتعطل، لا كهرباء في البيت، يدور على أبواب دور العلاج ولا أمل، الزوجة تتألم، وطفلتان تضحكان تحميهما غفلة الطفولة، وملامح الرجل تبتسم في أسى، فلا آلهة تفيد وقد دُفنت في الثلج وسط قطيع الخردة، فلا يجد الرجل بعد المعاناة في كل لحظة إلا تحطيم سيارته بيده وبيعها لإنقاذ امرأته. هناك حالة تمجيد للإنسان ومحاولاته وإرادته، هناك الأصدقاء ورحمتهم التي يصنعونها في عالم لن يرحم أحدا.
الصراع هنا أشبه بصراع الملاحم القديمة/بطل وحيد لا يعرف ماذا يفعل، لكنه استطاع، لن ينتظر قدراً، أو حلا إلهيا، لا يستطيع إشعال مصباح في منزل معتم، أو نفخ الروح في شاشة تتقافز عليها عوالم أخرى تجعل حتى طفلة صغيرة تبتسم.
محمد عبد الرحيم