في رحيل الكاتب المصري «سليمان فيّاض» أحد أعمدة الثقافة العربية
[wpcc-script type=”baeb9dbc82e9b73b0da35872-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: كعادة العرب ومَن ينتمون إلى لغتهم وتراثهم، لا يتم تذكّر المبدع الحقيقي أو الباحث الجاد، إلا بعد فقده، وقد أصبحت مناسبة الموت هي المحفل الثقافي والفني لتقديم طقوس وكلمات المراثي، خاصة إن كان صاحب الإنتاج الفكري أو الفني ممَن يحترمون علمهم وأنفسهم في المقام الأول، فلا يتهافتون نظير شهرة فارغة أو منصب مشكوك في جدواه.
رحل الكاتب والباحث اللغوي (سليمان فياض 1929 ــ 2015) بعد معاناة طويلة مع المرض، وبعد ساعات من موافقة وزارة الثقافة على أن يُعالج على نفقة الدولة المبجلة، وهو أمر أصبح اعتيادياً، وحالة فياض واحدة من كثير. وبغض النظر عن تعامل الدولة مع المثقفين، مُمَثلة في كيان يُدعى وزارة الثقافة، إلا أن أعمال الرجل هي التي ستبقى مع زوال الوزراء ومن شابههم من موظفي الدولة الأوفياء لمناصبهم. العديد من المثقفين صدمهم الخبر، وتذكروا الرجل وأعماله وإضافاته المهمة للثقافة العربية، سواء على مستوى الإنتاج الأدبي كالقصة والرواية، أو الإنتاج والدراسات الموسوعية في اللغة كالقواميس والمعاجم، والدراسات النحوية. هذه شهادات بعض الأدباء والنقاد عن الراحل وعالمه، ربما تذكِرة وتحية أخيرة لسليمان فيّاض ومشواره الذي أنجز خلاله الكثير، ليصبح عن حق أحد أعمدة الثقافة العربية في عصرنا.
هل سيُكرّم الرجل كما يليق به
بداية يرى القاص والصحافي شريف صالح، أنه برحيل سليمان فياض فقدنا أديباً كبيراً ولغوياً عظيماً وأزهرياً مستنيراً. لكنني ــ يقول صالح ــ لا أميل إلى المراثي والكلمات التي تتبخر قبل أن ينتهي العزاء. سليمان فياض قاص كبير منذ «عطشان يا صبايا»، وروائي مهم في أعمال مثل «أصوات» و»أيام مجاور»، ومؤرخ وناقد للثقافة العربية والإسلامية في ماضيها وحاضره،ا يشهد على ذلك كتابه الفذ» الوجه الآخر للخلافة الإسلامية». ولا ننسى اشتغاله اللغوي في كتب كثيرة. نحن أمام مبدع عصامي مستقل، وأول تأبين له يتمثل في نشر أعماله الكاملة، وطباعة ما لم يتم طبعه. كما أتمنى أن تقرر كتبه على المدارس والجامعات العربية، خصوصاً «النحو العصري» وكتابه الذي يدحض وهم الخلافة. وأن تلتفت أقسام الآداب واللغة العربية إلى مُنجزه الأدبي طيلة ما يزيد عن نصف قرن، وتتولى جمع إرثه. فللأسف يضيع أصحاب الإنجازات وسط أصحاب الصوت العالي والمقربين من السلطة في كل عصر. ولا أعرف ما إذا كانت الهيئة المصرية العامة للكتاب، أو المجلس الأعلى للثقافة، يخططان لتكريمه بالشكل اللائق، وما إذا كانت هناك مبادرات عملية لتخليد ذكراه والحفاظ على إرثه، لكن الأمم الحية تفعل ذلك بالتأكيد مع مبدعيها الكبار. ونحن بالفعل فقدنا مبدعاً كبيراً.
كاشف زيف علاقة المؤسسة الدينية بالدولة
ويُكمل الشاعر والروائي صبحي موسى صورة سليمان فياض من خلال نظرة جيل آخر لفياض وعالمه ومواقفه، قائلاً … لا أعتقد أن جيلي ــ التسعينات ــ تأثر كثيراً بالكاتب الكبير سليمان فياض، رغم أنه واحد من أهم كتاب القصة القصيرة و»النوفيلّا» في مصر، ربما لأن فياض لم يكن طيلة الوقت تحت الإضاءة، ولم ينشغل بالوقوف تحتها طويلاً، وربما لأن الفارق الزمني بيننا وبينه طويل وكبير، فروايته الشهيرة «أصوات» كُتبت في السبعينات، أي فترات ميلادنا الفيزيقي وليس الأدبي، فضلاً عن أن فياض شغل نفسه في الفترة الأخيرة بمشروعات ثقافية مهمة كمعاجم اللغة، بالإضافة إلى عمله الإذاعي الذي أعطاه الكثير من وقته، في النهاية يمكن القول إن سليمان فياض كان واحداً من النماذج المهمة التي فضحت تحالف الدولة مع مؤسسة المجتمع الديني، وفي مقدمتها الأزهر، سواء برواياته «أصوات» و»الشرنقة» و»أيام مجاور»، أو مجموعاته «عطشان يا صبايا» و»بعدنا الطوفان» و»أحزان حزيران»، أو غيرها، وهي في مجملها أعمال تميزت باللغة الناعمة والرصد الإنساني البسيط والشفيف للواقع الذي يعيشه، من دون أن نشعر بافتعال قضية أو بحث عن واقعية سحرية، رغم غرائبية ما يرصده، وعلى أي حال لم يكن أحد يعرف مصطلح الواقعية السحرية في ذلك الوقت المبكر، بدءاً من الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كان سليمان فياض عازفاً عن التكالب مثلما كان عازفاً عن النفاق، وكان تعليمه أزهريا لكنه كان أزهريا آبق، رفض هذا الفكر وفضح ما به من ازدواجيات، وقدم حالة أشبه ما تكون بالمذكرات، ولكن عبر كتابة سردية أدبية، لا نعتقد أن نموذج سليمان أو (سولي) حسبما كان المقربون منه يفضلون أن ينادوه، لا نعتقد أنه يمكنه أن يكون في صدارة المشهد، لكن المشهد مهما ضاق أو اتسع لن يخلو منه، لا لشيء سوى أنه نقي وحقيقي وواسع الاطلاع ولا يكتب إلا ما يؤمن به.
صوت سليمان فيّاض
ويقترب الناقد سيد ضيف الله من إنجازات سليمان فياض، وما أضافه إلى الثقافة العربية من خلال تنوع وتعدد إنتاجه وتشعبه، فيذكر أنه مثقف من طراز فريد، لم يكتب في مجال من مجالات الفكر والإبداع إلا ورأيته حكيمًا مفارقاً ومضيفاً لأهل التخصص ذاته، فوعيه وتكوينه الثقافي يندر تكراره .. فهو اللغوي الذي يدهشني بمعجمه عن الأفعال العربية وأنظمة تصريفها، وهو المثقف الجامع بين معرفة الفقهاء ومعارف الحداثيين، ومن ثم كان قادراً على إدهاشي بقراءته النقدية لتاريخ الخلافة الإسلامية، وهو المؤرخ الذي اختار أن يقوم بدور التربوي أملاً في مستقبل أفضل لهذا البلد من خلال النشء، فراح على مدى ما يقرب من أربعين كتابا يتلمس رموز النور في تاريخنا العربي الإسلامي ،فيهدينا إليهم بكتاباته عن سيرهم وإنجازاتهم التي أضافت للإنسانية، فيكتب بروح الأديب وثقة المؤرخ ووعي التربوي عن ابن سينا وابن الهيثم وابن رشد كتابات أقل ما يليق بها أن تُدرس لطلابنا في العالم العربي في مراحل التعليم المختلفة. وفوق ذلك كان القصاص الذي يمتلك قدرة عالية على الوصف لشخوصه وعالمه القصصي سواء في عمله الأول «عطشان يا صبايا» عام 1961، أو ما تلاه من مجموعات قصصية عالجت فنيًا صدمته عقب نكسة 67 في «وبعدنا الطوفان» و»أحزان حزيران». ويُشير ضيف الله إلى رواية «أصوات»، الصادرة عام 1972، بأنها كانت بمثابة الذروة في مساره كروائي وقصاص، لأنه استطاع بمبضع جراح ووعي مثقف معجون بثقافة الريف المصري أن يفجر روائياً سؤال الفجوة بين الشرق والغرب في بعدها الثقافي وليس السياسي، ويختم حياته بتأكيد الرؤية نفسها بكتابة روايته أو بالأحرى سيرته الذاتية في «أيام مجاور» كاشفًا عن عالم الكتاتيب الذي نشأ فيه، وماذا كان ولا زال يدرس فيه طلاب علوم الدين، سواء في كتّاب الزقازيق أو كليات الأزهر، بما يستوجب نقد الذات لتجسير الفجوة بين الشرق والغرب. رحم الله سليمان فياض وعوض الثقافة العربية عنه خيراً.
ثقافة وسط البلد
وأخيراً يتعرّض الروائي وكاتب السيناريو أشرف نصر إلى كتاب «النميمة»، الذي تناول فيه فيّاض عالم وسط البلد، ومثقفي المقاهي والندوات وما شابه، ويذكر نصر انطباعه عن هذا العالم من خلال الكتاب، كحالة من الوعي والحِس معاً دخلها عبر بوابة فيّاض، إذ يقول…
أذكر أنه قبل طباعة كتاب «النميمة»، نُشر مُسلسلاً في صحيفة« ثقافية» أسبوعية، من أسبوع لأسبوع كنتُ أنتظر ما يحصده لنا سليمان فياض من الشخصيات، لم يكتمل الكتاب في الصحيفة ــ التي لو فعلت لعوضتنا عن موادها، وعن سنوات إهدار المال العام في طباعتها، منذ العصر المباركي وحتى اليوم ــ لكن الكتاب طُبع بعدها في جزئين «نبلاء وأوباش» ثم «المساكين».
المفارقات في الكتاب لا تتوقف، من عنوانه، حيث النميمة فعل مُفترض أنه ذميم، لكن لو أردنا الصدق، هو أكثر فعل نمارسه في حياتنا اليومية، في بلاد تتكلم أكثر مما تتنفس، والنميمة تسلية وتفريغ للشحنة المكبوتة ضد الآخرين، بخير وبشر، والكاتب أراد أن يسمي الأشياء بمسمياتها منذ اللحظة الاولى، فهو يستحضر حياة مَن عرفهم، ولأنه يعرضها من وجهة نظره هو وليس كتوثيق لحياتهم، أو كتابة سيرتهم فهي فعلا نميمة.
في صفحات الكتاب ستتعرف على (فردوس الفراديس) الذين صدعونا به عن وسط البلد والكتّاب الذين جلسوا هنا، كتبوا وهم يشربون الشاي والشيشة، أنظر لصورهم، يا الله كم هم عظماء، لا أحد يدخن بهذه العظمة والإلهام. ويُضيف نصر.. طبعا أنا أسخر من الأفكار والصورة الذهنية التي يصدّرها الإعلام لنا، في كتاب فياض سنجدهم بشرا ..
فيهم النبلاء والأوباش والمساكين، بين مَن كابدوا الفقر والتشرد، مثال الكاتب العربي الذي عاش منفياً وبلاده على بعد خطوات بسبب القمع في بلده، بينما في مصر عانى التهميش لأن المرحب بهم أصحاب الريالات والدولارات، لا ينقصنا فقراء بالطبع، فيعيش الكاتب هذا في ميلودراما وعدم اتزان مرعب. وستجد مثلاً مَن بنوا اسماءهم ومناصبهم من سرقة وشراء أفكار الآخرين، وأحدهم مثلاً أحد أركان الثقافة الرسمية ووزارئها.
وهناك النساء اللاهثات حول الكتّاب كالفراشات، ثم ينقلب الأمر لذكور تتقاتل عليهن، لأغراض بالطبع بعيدة عن عقلها تماماً، ومرتبطة بجسدها جداً.
المفارقة الأخرى أن سليمان فيّاض كتب الشخصيات أحياناً بالحروف الأولى وأحياناً بوصف يجده خير تلخيص لصاحبه، وصدقني مَن لم أخمنه، من اللحظة الأولى لم أحاول البحث عنه، لأن الأسلوب القصصي الجميل في رسم الشخصيات بالفعل حوّلها لشخصيات قصصية ونماذج لحالات إنسانية جديدة، اقتربت أو ابتعدت من الشخصية الحقيقية لا يهم، وربما لهذا السبب جاء مع المشاهير أناس غير معروفين، لكنهم جديرون بالحكي عنهم ، لذلك مَن تخدعه كلمة النميمة، ويظن الكتاب من كتب التشهير التي تملأ الأرصفة لن يجد ضالته، والباحث عن صورة رومانسية ملائكية للكُتّاب ومنطقة وسط البلد، خاصة مع داء الحنين للماضي، سيصدمه الكتاب، وحتى مَن يطلق بتعميم اللعنات على الكتّاب والثقافة ربما سيراجع نفسه وهو يراهم في تراجيديا بلادنا المنكوبة بحكامها وظروفها الاقتصادية والاجتماعية، لكن الرابح في ظني مَن ينسى كل الأفكار الجاهزة ويبحر مع لغة فياض برشاقتها وحرفته في رسم الشخصيات، وزاده الذي لا ينضب من الحكايات والأسرار والفضائح، وكما قلت الفضائح ليست الصراع على امرأة أو المال، ومسح أحذية السلطة، وهو ما حدث بين العشرات منهم، بل وسرقة كتب وقصص أفلام وإبلاغ الأمن عن رفاق العيش والملح! بل وستجد مَن ساعدوا غيرهم وضحوا في نبل بأرزاقهم وصحتهم وحياتهم، ودافعوا عما يؤمنون به ضد بطش السلطة، ولا ننسى أن في زمنهم كان للمثقف قيمة كبيرة، وتحرص السلطة على استخدام ذهب المعز وسيفه ومخبريه الذين كانوا كالجراد في تلك التجمعات.
غاب جسد سليمان فياض نعم، وسنتحدث كثيراً عن إبداعه القصصي ومقالاته ومعاجمه التي عكف عليها، وكلها لن تغيب. وربما يحاول أصحاب التيارات الدينية المحافظة الثأر مما فعله الأزهري الناقد للتراث، ربما، وحتى نميمته المدهشة لن تغيب، لأن الكلمة حين تكتب تخلد، وفى ذلك العزاء.
ونختتم بأبيات للشاعر أسامة عفيفي أهداها لسليمان فياض بعنوان … «رحيل»
«سيحتفون به الآن جميعاً
وسينشرون صورته
في الصحفِ
التي حاربته
أو أهملته كثيراً
ستعيد بعض الفضائياتِ الفجةُ
بث أحاديثه
التي علاها الغبارُ على أرففِ الأرشيف
وسيدّعي كتابُ الأعمدة المتلعثمون
صداقته
سيقول كلٌ منهم:
قال لي يرحمه الله يوماً …
أو هاتفني مرّة قائلاً …
سيحتفون به الآن جميعاً
مَن حاربوه ومَن حاصروه
ومَن تركوه يموت بطيئاً
دون حتى مكالمةٍ عابرةٍ
أو ميس كول».
ببلوغرافيا:
ولد محمد سليمان عبد المعطي فيّاض في مدينة السنبلاوين، محافظة الدقهلية، شمال مصر عام 1929. وتخرج في كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر عام 1956. عمل في الإذاعة والصحافة، وتدريس اللغة العربية وآدابها.
الأعمال:
ــ مجموعات قصصية .. عطشان يا صبايا 1961/وبعدنا الطوفان 1968/أحزان حزيران 1969/ذات العيون العسلية 1992.
ــ الرواية.. أصوات 1972 أشهر أعماله التي ترجمت إلى لغات عدة منها .. الفرنسية والألمانية والإنكليزية، ثم رواية أيام مجاور عام 2009.
سلسلة أعلام العرب… تتناول أهم المؤثرين في الثقافة العربية والعالم، أمثال… ابن النفيس، ابن رشد، الفارابي، ابن سينا، الدميري، الخوارزمي، الجاحظ، وابن خلدون، وغيرهم.
ــ مؤلفات لغوية… معجم الأفعال العربية المعاصرة/الدليل اللغوي/أنظمة تصريف الأفعال العربية/الأفعال العربية الشاذة.
محمد عبد الرحيم