«مقاهي الصفوة والحرافيش» لمحات من تاريخ مصر الثقافي والسياسي
[wpcc-script type=”9ed4eabc78f51bbf6552245d-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: المقهى في المدن الكبيرة حالة خاصة، فهو أشبه بمكان لاجتماع أفكار وشخوص وحيوات مختلفة، كنماذج عاكسة للحالة التي يمر بها مجتمع من المجتمعات في لحظة ما، أدباء، زعماء سياسيين، فنانين، لصوصا ومشردين.
فحالة المجتمع الحقيقية يمكن قياسها من خلال المقاهي في المدن الكبيرة للبلاد، لا من داخل برلماناتها وجلساتها وأبواقها الدعائية الرسمية، وإضافة إلى حالة الوعي التي تمر بها جماعة من الجماعات ثقافياً وسياسياً وفنياً، هناك الوعي بالحِس الجمالي، وهنا يصبح المكان شخصية قائمة بذاتها، كما شخصيات رواده، الذي يتلوّن بهم ويتلونون به. كل هذه الأوجه حاول الشاعر عيد عبد الحليم، التعرّض إليها بنظرة بانورامية، في كتابه الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة «حكاية مصرية»، والذي جاء بعنوان «حكاية مقاهي الصفوة والحرافيش» ليتتبع ويسرد حكايات تبدأ بمقاهي منتصف القرن الـ 19 وبدايات القرن الفائت، وتنتهي بمقاهي الإنترنت.
مقهى «ماتاتيا» .. ثورة فكرية وسياسية
ارتبط مقهى (ماتاتيا) برواد النهضة في العصر الحديث، فكان من رواده كل من جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، سعد زغلول، قاسم أمين، عبد الله النديم ومحمود سامي البارودي. كان المقهى في أسفل إحدى العمارات الواقعة بين ميداني الموسكي والعتبة ــ تمت إزالة البناية بالكامل منذ سنوات، لتصعد مكانها بناية حديثة الطراز ــ نشأ المقهى في منتصف القرن التاسع عشر، إلا ان أهميته بدأت بقدوم الأفغاني عام 1871. وكانت الجلسة حول الأفغاني أشبه بحلقات الدرس، وقامت الصحافة بنقل هذه المناقشات والحوارات كصحف.. «مرآة الشرق» و»مصر» و»الأهرام». ويذكر محمد عبده عبارات لم يزل صداها يتجدد حتى الآن، في ما يخص رجال الأزهر من كل فكر نقدي جديد، إذ يقول «لكن مشايخ الأزهر وجمهور طلبته أخذوا يتقولون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وقد يهوى بالنفس في ضلالات تحرمها خير الدنيا والآخرة».
ومن هذا المقهى أيضاً بدا التخطيط للثورة العرابية، وقد كان أحمد عرابي أحد رواده، وملازما لجلسات الأفغاني ومتأثرا به. ويذكر المؤلف أن العبارة التي قالها عرابي في وجه الخديوي «لقد ولدتنا أمهاتنا احراراً ولن نستعبد بعد اليوم»، بمثابة مانفيستو للثورات السياسية اللاحقة.
كما يرى المؤلف ــ حسب وجهة نظرة ــ «أن الثورة العرابية لم تكن هبّة عسكرية، بل كانت ثورة سياسية واجتماعية وفكرية، وجزءا من مشروع نهضوي قام على إطار من الفكر الاجتماعي والوعي المشترك». وهي عبارات محل نقد، فربما كان هناك وعي ما، لكنه ليس المحرّض الأساس على قيام هبّة عرابي، فالأمر كان يخص الجيش وقتها فقط، لكن المجتمع حاول أن يرى ما يأمله، دون الواقع والأسباب الحقيقية.
مقهى «ريش» صفوة السياسة والفن
«تياترو كافيه ريش/تطرب الجمهور يوم الخميس مساء 31 مايو/أيار بلبلة مصر صاحبة الصوت الرخيم الآنسة أم كلثوم … هلموا واحجزوا محلاتكم من الآن. كرسي مخصوص 15 قرش، ودخول عمومي 10 قروش.. 30 مايو 1923». ربما يوضح هذا الإعلان ما كان يمثله مقهى ريش في الحياة الثقافية والفنية في بدايات القرن الفائت. وجاءت فكرة إنشاء المقهى على يد برنارد تيسينبرج، وهو رجل أعمال نمساوي أقام في القاهرة عدة سنوات، وكان يهدف إلى جعله أشبه بمقاهي أوروبا، خاصة باريس، حيث توافد المثقفون من جميع أنحاء العالم ــ لنا أن نلتفت إلى مناخ القاهرة وقتها ــ إلا أن الرجل هاجر وباع المقهى للفرنسي هنري ريشن عام 1914، ولذي أطلق عليه اسم «ريش». ومن وقتها اختص ريش بصفوة المثقفين وأهل الفن، وكان سبباً في شهرة الكثيرين منهم، كأم كلثوم وعبد الوهاب، إضافة إلى تقديمه المعزوفات العالمية من خلال أوركسترا حيّة تعزف هذه المقطوعات.
وعند ترميم المقهى عندما ضرب الزلزال مصر عام 1992 تم اكتشاف سرداب يؤدي إلى بدروم، وجدت فيه أدوات طباعة، من المحتمل أنها كانت تطبع المنشورات السرية وقت ثورة 1919، وقد كان المقهى مقراً للجهاز السري للثورة، ومنه خرج عريان يوسف لاغتيال يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء عام 1919. إلا أن محاولته باءت بالفشل. ومن ناحية أخرى يؤكد مجدي عبد الملاك/صاحب المقهى الحالي، أن جمال عبد الناصر وأنور السادات كانا من رواد ريش قبل الثورة، حتى ان السادات وقت هروبة في قضية مقتل أمين عثمان، كان مُختبئاً في الداخل. وحول طاولات المقهى كان يجتمع .. طه حسين، محمد مندور، رمسيس يونان، وتوفيق الحكيم. وظل ريش مكان نجيب محفوظ المفضل طوال ثلاثين عاما، كما كان من رواده يحيى حقي، الذي ذكر أن ريش هو «المُلتقي بين السوربون والسيدة زينب».
مقهى «عرابي» الفتوّة الزعيم
يبدو أن هذا المقهى تم تخليده من خلال ارتباط نجيب محفوظ به لعدة سنوات أيام شبابه، وهو يقع في حي العباسية الذي انتقل إليه محفوظ، وظل فيه فترة طويلة. ويذكر الكاتب أن التسمية ترجع لصاحب المقهى كامل عرابي فتوة الحسينية، الذي قضى 20 عاماً في السجن، بعدما أطاح بعين أحد الأشخاص، هذه الحادثة التي تم إلغاء نظام الفتوة بسببها.
يذكر محفوظ.. «تعرفت على عرابي بعد خروجه من السجن، وكنا نذهب إلى الجلوس في مقهاه، وكان أحياناً يتشاجر معنا لأنه كان مُحباً للهدوء والنظام … فلما يضيق بنا يتجه نحونا ويقول في غضب «هذا مقهى أم مدرسة؟! من الغد لا تدخلوا المقهى … وبعد عدة أيام يمر علينا في بيوتنا، يُصالحنا ويُعلن انتهاء فترة الطرد». ويضيف محفوظ.. «في أيام الانتخابات كان مقهى عرابي يتحول إلى معسكر لأنصار الوفد، لأن عرابي كان وفدياً، وكان كبار السياسيين في الحسينية مثل الشواربي وأحمد ماهر باشا يخطبون ود عرابي حتى يساعدهم في كسب أصوات الناس… فكان شكله وتركيبته يوحيان بالزعامة، وفيه هيبة سعد زغلول، وكان في صوته شموخ، لأنه تعوّد أن يأمُر فيُطاع». وضم المقهى أيضاً جلسات لكل من عبد الحكيم عامر وجمال سالم وعبد اللطيف البغدادي، قبل قيام الثورة بوقت قريب.
مقهى «عبد الله» و«إيزافيتش» صعود الطبقة المتوسطة
يبدو أن الملمح الرئيسي لهذين المقهيين هو الجمع بين فئة الطبقة المتوسطة في الفن والأدب. مقهى عبد الله بمحافظة الجيزة، الذي خرج منه.. محمود السعدني، زكريا الحجاوي، أنور المعداوي، نعمان عاشور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وهو شاهد على جيل الخمسينيات وأفكاره، وما كان ينتويه خلال السنوات المقبلة. يُقابله مقهى إيزافيتش في ميدان التحرير، وقد ضم أدباء الستينيات الجدد، أمثال.. أمل دنقل، عبد الرحمن الأبنودي، يحيى الطاهر عبد الله، سيد حجاب، بهاء طاهر، محمد البساطي، والمفكر محمد عودة. وهو ما يُقابل جيل الصفوة الذين يجلسون في ريش، فهو بمثابة حركة أدبية ونقدية جديدة، ترد على الكلاسيكيين المتوسدين ريش.
فالمكان الجغرافي أصبح ساحة أخرى دالة على أفكار متباينة، ومجسدا لصراع سيدوم طوال فترة الستينيات من القرن الفائت، وقد أثرت الحركة الأدبية والنقدية، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي كله. وقد كتب أمل دنقل قصيدته «الكعكة الحجرية» بمناسبة الحركة الطلابية وثورتها عام 1972 على إحدى طاولات إيزافيتش … «أيها الواقفون على حافة المذبحة/اشهروا الأسلحة/سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة/والدم انساب فوق الوشاح/المنازل أضرحة/والزنازن أضرحة/والمدى .. أضرحة/فارفعوا الأسلحة/واتبعوني/أنا ندم الغد والبارحة/رايتي عظمتان وجمجمة/وشعاري الصباح.
محمد عبد الرحيم