لوحات السعودية تغريد البقشي… قطةٌ و قهوةٌ و قمر.. في حقيبة
[wpcc-script type=”b48d6cf8da7856e7ab9e4f30-text/javascript”]
إن كان لديكم فضول تجاه الجلسات النسائيّة وما يحيا بداخلها من قصصٍ وما يدور من أخبارٍ وحكايات، وإن كانت الفضاءات الأنثويّة عالماً مجهولاً بالنسبة لكم بسبعة أقفالٍ ومفاتيح ضائعة تحومون حولها ولا تصلون، فبإمكانكم اختلاس النّظر إلى أعمال الفنانة السّعودية تغريد البقشي. على رؤوس أصابعكم ادخلوا المحراب اللوني، واسرحوا في مغزى الحكاية، لا قصص تُحكى جزافاً ولا لوحةَ تُرسم من دون قصد، و إلا لكان الأدب ثرثرةً، والفن ألواناً مسفوحةً على قماش.
استطاعت الفنانة من خلال عناوين بسيطة خلق مشاريع كبيرة مثل مشروع (القهوة)، عن عبارة محمود درويش: «أريد رائحة القهوة». فلو شهد أعمال البقشي لوصلته الرّائحة التي يشتهي بالمعنى الذي يشتهي، تقول البقشي: «القهوة لها دلالتها العميقة في الثقافة العربية، بالإضافة إلى رمزيتها ومزاجيتها وتقلباتها، لهذا وضعت بالقرب من المشروع عرض ‘تي في’ لقهوة وهي تفور وتتشكّل لأربط ذاكرة المتلقي بمعانيها العميقة ودلالاتها العربية». هنالك أيضاً مشروع (الحقيبة)، تلك التي تختزل وطناً في داخلها أحياناً، وهي «الحلم، الحنين، الأمل، الانتظار…»، وتصويرها هو محاولةٍ فلسفيّة لتجسيد عدد من المفاهيم وجوديّاً.
وهذا ليس غريباً فبعض لوحات تغريد تعتنق الصوفيّة مذهباً يطلُّ برأسه ماءً أو مطراً، حماماتٍ أو أرضاً بشفافيّة واضحة تشرحها البقشي بأنها تتخيّل نفسها أمامها مثل قطرة المطر التي أنجبتها الغيمة فغرقت في المدينة. فهي تسعى لكسر قيود النمطية لتخلق عوالم فنيّة نقيّة يستقبلها المتلقي بصفاءٍ خاص كما ذكرت، وهذا الصفاء سيشي بدوره عن تعلقها الفلسفي بالأشياء السّماوية التي تضفي الهيبة على بعض التفاصيل. والواضح أيضاً من أعمال الفنانة هو شغفها بالألوان، فالمرأة – بطلةُ معظم اللوحات – هي كياناتٌ لونيّة جريئة قبل أي شيءٍ آخر. يقول بيكاسو: «إنالمرأة في نظري خليط من الأشكال والألوان»، فإن كان شغفه بالنّساء متأثراً بطبيعته الدنجوانيّة، شأنه شأن الكثير من الفنانين، فإن شغف البقشي نابعٌ من سعيها للفت النّظر لتفاصيل تعانيها المرأة السّعوديّة أو ربما المرأة عامةً أو المجتمع إجمالاً. الاحتمالات تؤرجحنا دوماً لترسو عند الفكرة التي تسكن لاوعينا بعد تأمل العمل مليّاً، كلٌّ بحسب تفكيره وتجربته واهتماماته وتراكماته الثقافيّة. الخطوط واضحة في أعمال البقشي، كذا المفردات التي تؤلف اللوحة لتخلق تكويناً بصرياً محدداً، يتوحد مع التكوين اللوني في رؤيا منسجمة تُترجم موسيقا وأفكار وفلسفات، أو من الممكن مجرد مساحةٍ جميلة.
الفضاءات اللونية متنوعة تنبض بالحياة، اللون الأحمر حاضرٌ في الكثير من لوحاتها و كأنها صرخةٌ من اللوحة للفت الانتباه إليها، الألوان الحارة دوماً تكون بمثابة يدٍ تشدنا نحوها لنكمل بعدها المسيرة في قراءة العمل أو الصّمت الذي نحبه كما تحبه البقشي: «أحب أن أصمت عند رؤيتكم للون، للفكرة، أحب أن أسمع الآراء فأنا لا أمتلك بلاغة التعبير بالكلمة، بل باللون والفرشاة، أحيانا أرسم شعورا، ألوّن حبا أو زقزقة عصفور أو حزناً دفينا، تراني دائما أحب السكون أحب الهدوء».
الشخصيات عند تغريد البقشي كائناتٍ رشيقة توحي بالكآبة مع أنها حبيسة ألوانٍ مُفرحة لم تمنحها خلاصاً ولا بسمة، وجوهها ملوّنة بنفسجية أو صفراء أو مقسومة بلونين في إشارةٍ للشيزوفرينيا التي تعاني منه. تستجديك لتسمع حديثها المليء بالحزن والحبّ أحياناً بالخوف والقوة والضعف، صاحبة عيون واسعة ونظرة حادة تلاحقك ولو كانت مُطرِقة البصر، شفاهٍ ممسوحة المعالم صامتة لا تعرف الابتسام تملؤها الحياديّة، أو مدوّرةً بفعل دهشةٍ خانقة، مثل كعكة هشة لا تلبث أن تتحطم على كتف أول زائر، دهشةٌ لا تستثني حتى القطط من تأثيرها،. قططٌ تفغر أفواهها! نعم إنه أمرٌ مثيرٌ للسّخرية، «يوم بدون سخرية هو يوم ضائع» كما قال شارلي شابلن، والواضح أن الفنانة لم تُضع الكثير فالسّخرية لم تغب عن أعمالها حيث أن الواقع المخزي الذي نعيشه يحرضّ على ذلك خصوصاً القيود التي ترهق الأفراد في بلدها نساءً ورجالاً، فما كان منها إلا أن تناولت لوحاتٍ عالميّة لأهم الفنانين أمثال دافنشي ومايكل أنجلو.. وراحت تمنح أعمالهم هويّةً سعوديّة، و كأنهم دخلوا حلقةً من برنامجٍ تلفزيوني للتغيير، فالعذراء بمظهرها الجديد منقّبة و الموناليزا محجبة، المسيح يرتدي شماغاً، وحتى تمثال داوود منح جنسيةً سعوديّة.
أربكت أعمالها المتلقين و تركتهم مع ثرثرةٍ من الأسئلة عن نمط حياتهم، عن أزيائهم وطريقة ظهورهم، وعّتهم على الهوّة ما بين الحقيقي والمفروض، ما بين الواجب والمختار، صرخةٌ كصرخة مونك تخترق آذان المجتمع وآذان القضايا التي أرَّقتها مبكراً، تقول البقشي عن التجربة: «كنت أحاول أن أكسر الألفة بين المتلقي وبين فنون عصر النهضة، وذلك عبر الإرباك الذي تشعله السخرية من الهوية الظاهرية للأشياء، مثل الملابس. أعتقد أن الإنسان جوهر عميق وعلينا أن نلتفت له من هذه الزاوية».
يقول الكثيرون بأن وظيفة الفن هي كشف العلاقة بين الإنسان وبيئته، ومن بينهم ديفيد هربرت، وهذه العلاقة واضحة هنا في أعمال البقشي ولوحاتها التي تُخلق دون تصوّرٍ مسبقٍ عنها فهي ابنة الأفكار اللاواعية والطّاقات الكامنة في نفس الفنان والتي تتفجر مباشرةً على متن اللوحة، لا تسمح بالتحضيرات أن تشوه فطرتها التي تتجلى في لحظات وجود اللوحة الأولى لتكتمل بعد ذلك ولادتها بأبهى حلّة كما شاءت لها البقشي أن تظهر تماماً، ولادةٌ معاكسة لغيرها من اللوحات التي تبدأ بسكتشاتٍ سريعة تمهد للوحة، أما هنا فاللوحة أولاً و تتبعها السكتشات والدراسات، ويتبعها الكثير من التّفكير والوعي لندرك بأن ما نراه هو قمرٌ و ليس برتقالة… و»قمر وليس برتقالة» هو عنوان معرض البقشي الأخير!
بسمة شيخو