عنترةُ وعبلة وأبوزيد الهلالي: على صهوة لوحات الفنان التونسي عادل مقديش

الأساطير والقصص الشعبية، حكايات الأبطال بموروثها الثقافيّ التّاريخيّ، لم تمت ولا يمكن لها ذلك لأننا في أي لحظةٍ نستدعيها من رقادها، فها هوعنترة العبسي يمتطي صهوة الأبجر بصحبة عبلة، وهذه ولّادة والقُبل تحوم حول صحن خدها، وبلقيس وحيدة دون سليمان وهدهده المسافر عنبر، والجازية الهلاليَّة ملّت قيادة الحملات الحربيّة، وذاك أبوزيد الهلاليّ، وتلك الأميرة ذات الهمة تركت حكمها، وعليسة لم تنحر الثور قرباناً عندما رست على الساحل.

عنترةُ وعبلة وأبوزيد الهلالي: على صهوة لوحات الفنان التونسي عادل مقديش

[wpcc-script type=”519947945998b1cbd9442b78-text/javascript”]

الأساطير والقصص الشعبية، حكايات الأبطال بموروثها الثقافيّ التّاريخيّ، لم تمت ولا يمكن لها ذلك لأننا في أي لحظةٍ نستدعيها من رقادها، فها هوعنترة العبسي يمتطي صهوة الأبجر بصحبة عبلة، وهذه ولّادة والقُبل تحوم حول صحن خدها، وبلقيس وحيدة دون سليمان وهدهده المسافر عنبر، والجازية الهلاليَّة ملّت قيادة الحملات الحربيّة، وذاك أبوزيد الهلاليّ، وتلك الأميرة ذات الهمة تركت حكمها، وعليسة لم تنحر الثور قرباناً عندما رست على الساحل.
تلك قصص أندلسيّة وأحلام إفريقيّة، تعود إلينا في محاولة لصياغةٍ روائيةٍ جديدة لأحداثها والنظر في تفاصيلها كحدثٍ ذي أبعادٍ فنيّة. فبعد بدايةٍ تجريديّة جنح الفنّان التونسي عادل مقديش إلى الرسم السرياليّ بحضورٍ مكثّفٍ لتلك الشخصيات الأسطوريّة، مشكّلاً بذلك منعطفاً في تجربته الفنيّة الممتدة على ما يفوق الثلاثين عاماً. رسمَ عادل مقديش فضاءات الذاكرة الجماعيّة والشخصيّة كذلك، وجمع شخوصه في حلم يعبر أزماناً مضت وحروباً انتهت، وكأن الحكواتي الذي يسكن المقاهي الشعبيّة عادةً قد نزل عن كرسيه وأمسك ريشته وراح يرسم لوحات بصيغةٍ سرديّة تحلّق في مدارات ذاكرته البصريّة المتخيلة المتواترة. يقول مقديش: «لـي ذكرى أليمة مع الروم والأتراك والإسبان وقبائل بني هلال الزاحفة ولي أيضا معاناة مع الإفرنج». ويضيف: «أرسم خصوبة عليســة على جلود البقر المقدّس، أنحت وجه جـوغرتا في أسواق الفرس البربرية، حفرت على جدران المعابد الإفريقية رسم السفن الساحلية وأشرعتها المنسوجة بشعر النساء، كل رسم لي ومضة برق في السماء الأفريقية، وأجراس الخيول الآتية تعزف خيوط الألوان لولبية على كف أندلسية في ليلة زفافها».
الموروث التاريخي الثقافي هذه المرة ليس كالحاً ولا مملاً، بل هو مليء بثنائياتٍ تغنيه وتمنحه الحياة، حيث تلتقي الأصالة مع الحداثة، الحقيقة مع الخيال، الواقعيّة مع السرياليّة في جمع لا يتقنه إلا فنانٌ ذو خبرة بتفاصيل الفن وحيثياته وذو معرفة بمفهوم الموروث والحفاظ على الهوية.
تبدأ الأشكال في لوحات عادل مقديش برموز وصور نابعة من الذاكرة الذهنيّة لشخص الفنان أو عن ذاكرة شعبية جماعية متخيّلة، لتنتهي بتصاوير تشخيصية نابعة من عمق التراث المحليّ مرةً ومن التّراث العربي الإسلامي مرةً أخرى. عالم تحكمه التصورات الغريبة غير المألوفة، تصورات سريالية في رسم أبطال الحكايات فلا يشبههم أحد، عيون واسعة تحكي القصة بكلّ تفاصيلها وشفاهٌ صغيرةٌ صامتة عن الكلام، أجسادٌ ممشوقة وأيادٍ متطاولة تمسك باهتمام المتلقي.
يقول مقديش: «أنطلـق في رسوماتي من مثيولوجيات ومن أساطــير شعبيـــة ومــن خرافات الطفولة ومن اللاوعي الجماعي، ومن فزع التمزق الذاتي بين الحلم والواقع وبين التقسيم الزمني في محاولة لتوحيدها في واقع واحد حيث تلتحـم كل مقومـات ومـدارك الـذات في تعاملها الديناميكي مع المحيط المتحرك».
تدخّل مباشر من المخزون التاريخي والحضاري شمل الحضارة الإسلامية، ويتجلى بوضوح من خلال الزخرفة التي تنبت في حقول لوحاته كأعشابٍ خضراء تمنح اللوحة ربيعاً أخضر لا يخيفه الخريف، انحناءات نابضة بالحياة ومدلولات فلسفية عمرها آلاف السنين، تتجدد في قلب كلّ لوحة. بالإضافة للحروفية حيث تتفرغ الكتابة من إمكاناتها الدلالية اللغوية لتغدو بذلك كياناً متجاوزا للغة، أي جسداً حرفياً مستقلاً بإمكاناته الحرة خارج كل منطق تعبيري مباشر، فيلجأ الفنان إلى محو الحدود بين تشكيله للحرف والأيقونة الزخرفيّة وبين تشكيله للجسد بطابع تأليفي وتفاعلي يحملهما على التغريد في مجال حركي واحد.
إن هذا الحضور «التشخيصي للحرف ليس أبداً حضورا للغة، بل تغييب لها بمعناها الحقيقي، واحتفاءً لا بجوهرها وإنما بجانبها المادي المحسوس بصرياً فالشخوص في اللوحات هم الرواة الوحيدين لما يجري داخل اللوحة.»
وهنالك الحضارة الفارسيّة وحضارة ما بين النهرين بمخزونهما الفني المتوافق مع الطلاسم والأيقونات السرياليّة أو ما فوق الواقعية أحياناً، حيث نجد أن الشبكة الرمزيّة التي ينسجها الفنان شائكة ومعقدة تدور التمائم والطلاسم فيها حول قضايا إنسانية وجودية، فتكون هذه الصور المجازيّة التاريخية في لوحاته محوراً يصل بين روح الحاضر وبين المادة الخام لهذه الأساطير.
الحكايات ملوّنة بعناية فائقة، سطوحٌ واسعة نقيّة كبحيراتٍ لونيّة متناوبة الحضور لا يحرك ركودها الهادئ سوى خطوط حادة لرسوم واضحة، فلا مكان لضربة ريشةٍ زائدة، ولا لتدرجٍ لونيّ يخفف من تأثير اللون المباشر، الألوان هادئة متآلفة مع بعضها ومع الأشكال بشكل مدروس لخلق سماء من المتعة فوق عالمٍ من الميثولوجيا والأساطير يثري العمل الفني في مجمله ويجعله منفتحا على مجال تأويلي شاسع فتبرز اللوحات كأحلام يقظة لتتحول إلى مفاهيم لا يحجبها حاجزٌ عن المتلقي الذي قد يتعامل معها كنفيسة من النفائس.
يصرّ الفنّان عادل مقديش على استقلاليته وتميّزه دون الحرج من المرجعية، فهو يقدم مقترحات تشكيليّة وجمالية ذاتيّة تنهل من الحلم ومن الأسطورة لتنجز مشروعاً متحرّكاً لفنّ تشخيصي غير استشراقي، خالقاً عالماً مختلفاً أرجله في التاريخ والتراث الشعبي، ورأسه يرتفع عاليّاً في العالميّة، متشبثاً بعدم تقييد المحلّي بوصفه قيّمة جمالية منفتحة، فالذّاتي مطلب ضمني أساسي للممارسة التشكيلية، لذا كانت أعماله موضع استحسان الغربي قبل المحلّي.

بسمة شيخو

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *