لوحات سحر الحسني… شِباك واهنة تغطي وجوهنا الزَّرقاء
[wpcc-script type=”62465178dbd2b9d72ef749e5-text/javascript”]
شِباك العنكبوت ليست الأوهن دوماً، فهي متينة عندما تكون محاورَ لوحةٍ من لوحات الفنانة اللبنانية سحر الحسني المليئةِ بالتجارب التي اختبرتْ بسمتها ودمعتها، وانطلقت لتكتب رسائل الألم والفرح على سطوح اللوحات، محاولةً إحياءَ هذه الأصنام المسطحة وانطَاقَها من خلال مشاعر حقيقية تُغزل خيوطها بمهارة عنكبوت ما بين أعماق الفنانة سحر ولوحاتها، فتجعل قلوبنا تنبض بنبض إنسانيتها وعمقها.
يقول بيكاسو: ” إن اللوحات لا تُرسم من أجل تزيين المساكن، إنها أداة للحرب ضد الوحشية والظلمات». وتقول سحر كذلك حيث ترى أن أعمالها ليس مؤداها أن يعرضها هاو في ردهة منزله، فلوحات الحسني قاسية لا تعرف المجاملة ولا آداب الصالونات، وكأنّها صفعة على وجنة العالم، حيث تقوم ريشتها بتعرية بؤس البشرية وتستعرض جسد الحرب المشوّه وتفضح الموت النائم في داخلنا، تمسح ألوان حياتنا الزائفة فلا مكان للون وما يحمله من فرحٍ وحياة ضمن هذا الخراب، وتختزل لوحاتها بخطوطٍ غير واضحة متماهيّة مع الجو العام للعمل، وبعددٍ محدود من الألوان وأحياناً بلونٍ واحد فتعطي بذلك كلمةً لا رجعةَ فيها، وحضوراً لا يضاهيه حضور، لذاك نجد ان اللون الأزرق غالب- فيتجلى بلوحاتٍ تشابه المرحلة الزَّرقاء عند بيكاسو، التي امتدت لأربع سنوات 1900-1904، على الرغم من أن الرمزيين سبقوا بيكاسو في استخدام لون واحد لخلق مزاج أو انفعال معيّن، مونيه وسيزان أيضاً رسما لوحات ذات لون واحد، وكانت مثل هذه اللوحات تروق كثيرا للشعراء الرمزيين مثل، بول فاليري، لكن أثر بيكاسو هو العالق في النفس والذّاكرة البشرية في ترسيخ البؤس والخيبة المرافقين للون الأزرق، والظاهرين بوضوحٍ فاقع في أعمال سحر الحسني، فالأزرق عندها رمزٌ للوحشة والحزن والخواء، وأحيانا للتأمّل الصامت في ما وصلنا إليه وما ينتظرنا.
إن استعمال هذا اللون كلونٍ وحيد يدل على نوعٍ من الكآبة وفقدانِ الأمل في الرسوم التعبيرية في أوروبا الغربية، ومثل هذه السمات لا تغيب أيضاً عن عالم الحسني الكئيب الحزين، الذي يشبه إلى حدٍ ما دراسةً بصريّة عن الحزن في محاولةٍ منها لتسليط الضوء على الأشخاص الضعفاء المتعبين الذين يدفعون الثمن مضاعفاً دوماً، فالمعاناة شيء أساسي في الحياة والفنّ هو الابن الشرعي للحزن كما يُقال.
ونقطة التّشابه الثانية هي التّعبير البارع عن التدهور الجسماني والمعنوي للشخصية البطلة في اللوحة، حيث تبدو بملابسها الرثّة وجسدها المنهك وقد تمددت بهدوء بجانب عنكبوتٍ تارة، أواتخذت وضعيّة جلوسٍ قلقة غير مريحة خلف بيت العنكبوت تارةً أخرى – بيت العنكبوت الذي تستخدمه الحسني رمزاً للألم الذي يعلق فيه الإنسان ولا يستطيع الخروج منه إلا بصعوبة، من دون أي ارتباط مباشر بالحرب، بل بالإنسانية وحدها- تجلسُ شخصيات اللوحات بخوفٍ وقلق على خطوط الحياد الجليديّة، كما لو أنها لا تنتظر أيّ عزاء أو إشادة من العالم المحيط بها، وكأنّ الحياة تسربت من أجسادها النحيلة وحان وقت موتها الأبدي. ضمن سكون هذا الموت هناك أشياءٌ تلمع في اللوحة عند سحر الحسني وتلفت النظر إليها مثل، نسب الشخوص حيث يتساوى حجم العنكبوت مع المرأة تقريباً داخل بعض اللوحات، في محاولةٍ لإظهار حجم الخطر المحيط بنا من دون أن نحتاج لأن نصرخ إلا على الورق، وجعله يغطي مساحة كبيرة من اللوحة في سبيل ذلك.
ومن اللافت الآخر في أعمالها هو تسلل اللون الأحمر إلى رتم الألوان الباردة وكسر جمودها وإذابة جليدها وسرقة الأضواء منها، مع المحافظة على الحزن المنقوش في صدر العمل، فهو دمٌ منثورٌ في أرجاء اللوحة يلطخ الضمائر الصاحية عندنا، وتتسلل أحياناً كتابات وكلمات تزيح الغموض عن بعض الضحايا في اللوحات بطريقةٍ فنيّة مدروسة.
في اللوحات ثمّة إحساس واضح بالمسؤولية وإحساسٌ واضح بالفقد والألم، لكن طبيعة المأساة ليست واضحة، فالشعور الصادق هو الدافع والمحرّض الأساسي والوحيد للرسم عند سحر الحســـني وليســت الأحـــداث، وهـــي تقوم بتحويله لمســـاحة تعبير مختلفة بأفكار إنسانية طاغية عبر أساليب عديدة، فهي لا تعتنق مبدأ دون غيره.
سحر الحسني فنانة تشكيلية لها حضورها في العديد من ميادين الفن التشكيلي، تسعى دائمًا إلى أن يكون فنها معاصرًا، ولوحاتها غير عادية، أدوات التعبير عندها مفتوحة وخياراتها واسعة، حيث تقول «إذا أحسست أني أريد التعبير بأداة مختلفة فلن أتوقف، بل سأستخدمها واثقة الخطوة، ألبسها الفكرة التي تراودني، لتخرج غريبة الأطوار، لكن بأبهى صورة».
٭ تشكيلية سورية
بسمة شيخو