عز الدين نجيب: الحركة الثقافية المصرية معزولة عن الشارع والمثقفون ليسوا أبرياء

القاهرة ــ «القدس العربي»: الفنان التشكيلي والناقد والقاص عز الدين نجيب حالة متفردة في الحياة الثقافية المصرية، ومن القِلة الذين قاموا بممارسة الفن من خلال الوعي الشعبي والمجتمعي.. مُنخرط في تفاصيل وهموم المجتمع، ويرى في الفن سبيلاً لأبناء الشعب وعاملاً من عوامل تنامي الوعي العام. وقد احتفت بالرجل وتجربته مؤخراً «مؤسسة بيت الوادي للدراسات والنشر» تقديراً لمشواره الفني والسياسي والاجتماعي، الذي تكلل بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الفنون هذا العام، ليسرد الرجل تجربته الغنية في الفن والحياة والسياسة، وهو الذي وقف دوماً في صفوف المعارضة، فتعرّض للسجن والاعتقال، وأصبح لزمن طويل في عِداد المغضوب عليهم من قِبل السلطات الرسمية، بداية من انقلاب يوليو 1952، وحتى عهد المخلوع الذي انتهى بثورة 25 يناير.

عز الدين نجيب: الحركة الثقافية المصرية معزولة عن الشارع والمثقفون ليسوا أبرياء

[wpcc-script type=”f77edda57217023964b54848-text/javascript”]

القاهرة ــ «القدس العربي»: الفنان التشكيلي والناقد والقاص عز الدين نجيب حالة متفردة في الحياة الثقافية المصرية، ومن القِلة الذين قاموا بممارسة الفن من خلال الوعي الشعبي والمجتمعي.. مُنخرط في تفاصيل وهموم المجتمع، ويرى في الفن سبيلاً لأبناء الشعب وعاملاً من عوامل تنامي الوعي العام. وقد احتفت بالرجل وتجربته مؤخراً «مؤسسة بيت الوادي للدراسات والنشر» تقديراً لمشواره الفني والسياسي والاجتماعي، الذي تكلل بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الفنون هذا العام، ليسرد الرجل تجربته الغنية في الفن والحياة والسياسة، وهو الذي وقف دوماً في صفوف المعارضة، فتعرّض للسجن والاعتقال، وأصبح لزمن طويل في عِداد المغضوب عليهم من قِبل السلطات الرسمية، بداية من انقلاب يوليو 1952، وحتى عهد المخلوع الذي انتهى بثورة 25 يناير.
من أين أبدأ؟
يقول نجيب إنه تخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1962، وكان وقتها يتم إيفاد الدارسين إلى بعثات داخلية ــ ليست خارجية ــ فتم إيفاده إلى مرسم الأقصر، الذي كان له تأثير بالغ في حياته، ولفت نظره واقع مذهل، فبجوار مهد الحضارات تغيب الحضارة تماماً عن قُرى الأقصر ونواحيها، وقد توافق هذا مع اهتمامه السياسي .. «فمنذ كنت في الجامعة كان لي اهتمام سياسي، فمشروع تخرجي كان عن القرية من منظور رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، حيث يتمثل الاتجاه الأدبي والسياسي معاً في فن الرواية». ويستكمل نجيب كمن يبحث وقتها على أرض يقف عليها .. «وكان السؤال الذي يشغل تفكيري وقتها هو من أين أبدأ؟ هل أبدأ من الحضارة الفرعونية القديمة؟ أم أبدأ من المدارس الفنية الحديثة؟».

تجربة قصور الثقافة وفشلها

في عام 1966 بدأت فكرة قصور الثقافة على يد ثروت عكاشة، يقول نجيب وتقدمت ــ وقد استهوتني الفكرة ــ للعمل في هذا المشروع، لكنني تخوفت من تحولي إلى موظف حكومي بدلاً من كوني فناناً حراً يفعل ما يشاء، من دون أي قيود رسمية. وانتهيت إلى خوض التجربة، مع وضع تقديم استقالتي كالباب الخلفي للفرار في أي لحظة، وبناء على طلبي ارتحلت من أسوان إلى الإسكندرية إلى بورسعيد، لأكتشف مدى بؤس الواقع، وعلى الرغم من تعاملي مع فئة المثقفين، باختلاف توجهاتهم الفكرية، ظل في تفكيري الفئة البعيدة عن الفنون، وكيفية الوصول إليهم. وبعد فترة أصابني اليأس مما أفعل ومن المشروع بأكمله، فعلى الرغم من مثالية الفكرة المقتبسة من فرنسا، التي قامت بتحويل قصور الإقطاعيين إلى مراكز ثقافية لعامة الناس، من أجل النهوض بالبلاد، ومن أجل المشروع الفرنسي للتنوير، إلاّ أن التطبيق في مصر فشل فشلا ذريعاً.

الصامتون

ويستشهد عز الدين نجيب في كتابه «الصامتون» بتجربته مع نشر الوعي الثقافي بين الفلاحين ــ الجمهور الذي كان يبحث عنه نجيب ــ من خلال توليه مسؤولية قصر ثقافة كفر الشيخ، فيقول «بدأت في كفر الشيخ بالتواصل مع الفئات البعيدة تماماً عن الحركة الثقافية، فكان هدفي هناك هم الفلاحين، ولأول مرة يدخل الفلاحون أحد قصور الثقافة، وعبر المؤتمرات الجماهيرية خرج الفلاح عن صمته للمرة الأولى، وأصبحت تجربة قصر ثقافة كفر الشيخ يتم تدريسها، فقصر الثقافة تحول من مجرد مبنى أصم، إلى مكان تواصل للناس كلها، بمن فيهم الفئات البعيدة عن الحركة الثقافية، وكان من ضمن مشروعي أن يكون في كل قرية من قرى كفر الشيخ مئة كتاب، تتبادلها مع القرية المجاورة بعد أن تتم قراءتها، كحلقة من حلقات التواصل بين أهالي هذه القرى، ونتيجة لهذا بدأت الأجهزة الأمنية في التدخل لوقف هذا المشروع، كان هذا عام 1967، فتبادل الكُتب بين القرى أثار قلقها، كما أن التواصل بين الفلاحين وخروجهم عن صمتهم المعتاد أثار قلق ممثل السلطة إبراهيم البغدادي، مُحافظ كفر الشيخ آنذاك، إلا أن عبد الناصر تدخل شخصياً آمراً بعدم التعرّض لتجربة كفر الشيخ.

كُن مُخبراً تخدم وطنك

ويوضح نجيب مشواره السياسي وتبعاته.. منذ كنت في الجامعة وكانت لي توجهاتي السياسية، وعلى الرغم من أنها كانت تعارض سياسات جمال عبد الناصر، إلاّ أنه لم يتم اعتقالي مُطلقاً في عهد عبد الناصر، بل تم اعتقالي لثلاث مرات، مرتين في عهد السادات، ومرة في عهد المخلوع مبارك.
قبل اعتقالي بفترة، حصُلت على منحة دراسية في لندن لدراسة المتاحف، وكان يجب الحصول على موافقة الأجهزة الأمنية على السفر، وفوجئت باستدعائي من قبل أحد الضباط، وهو ثروت قدّاح، فذهبت إليه في مكتبه، وبعد دردشة طويلة احتوت على الكثير من تفاصيل حياتي التي يعرفها هو جيداً، اكتشفت أن الملف الضخم الموضوع أمامه على المكتب ما هو إلا الملف الأمني الخاص بي، وعرض عليّ قدّاح العمل مع الأجهزة الأمنية، كعين على المثقفين المصريين في لندن ــ حين أسافر للمنحة ــ وعلى المصريين في القاهرة قبل سفري وبعد عودتي، نظراً لوجودي بين فئات المثقفين كواحد منهم، فكان ردي عليه أقل ما يوصف به هو الوقاحة، وانفعلت انفعالاً شديداً مستنكراً ما يطلبه مني، ساخراً من بيع البلد مقابل منحة ستة أشهر، فأجابني بحدة بدوره بأنه ليس في حاجة إلى «مُخبرين»، فلديه الكثير منهم، وقام بركل واحد كان يلمّع له الحذاء وقتها، وقال «ما ده مثلاً مخبر»، وحاول إقناعي بأنه يريدني أن أخدم الوطن بدافع شعوري الوطني كفنان ومثقف على وعي بما يحيق بالوطن من مخاطر، ونتيجة لردي عليه تم حرماني من المنحة، ولم يوافق لي على السفر بالطبع.

قلبتُ نظام الحُكم مرتين

يستطرد نجيب.. اعتقلتُ للمرة الأولى في عهد السادات عام 1972، وبالطبع كان الاتهام هو قلب نظام الحكم، والتحريض على التظاهر، وقتها كان الضغط الجماهيري في أوج قوته من أجل الحرب واسترداد الأرض المسلوبة، فتم اعتقالي من ضمن الكثيرين الذين تعرفت عليهم في المعتقل. أما المرة الثانية فكانت عام 1975، حيث بدأت المظاهرات التي مهدت الطريق إلى المظاهرات الكبرى التي اندلعت عام 1977، التي عارضت سياسات السادات. كوَّنتُ مع الكثير من الأصدقاء ــ المُعتَقَلين سابقاً ــ جماعة «كُتَّاب الغد»، وقام يوسف السباعي بكتابة تقرير أمني يتهم فيه الجماعة بأنها واجهة لحزب يساري جديد، وبالفعل تم اعتقال أفراد «كُتَّاب الغد»، واستمرت فترة الاعتقال خمسة أشهر كاملة. أما المرة الثالثة والأخيرة فكانت عام 1997، في عهد المخلوع حسني مبارك. وقتها ثار الفلاحون اعتراضاً على القوانين الخاصة بالشؤون الزراعية، وبالفعل تم القبض على حمدين صبّاحي كمحرض على تظاهرات الفلاحين، وقام الأمن بضربه وتعذيبه وحلق شعر رأسه، فيما يطلقون عليه «حفل الاستقبال»، وتحمل حمدين ما يحدث له، إلى أن تمكن من تهريب مقال من محبسه، نشره إبراهيم عيسى في جريدة «الدستور الأصلي»، يصف فيه كل ما حدث له، من تعذيب ومن تلفيق للتهم، ولقد تسبب المقال في دعم الجميع لموقف حمدين صباحي، وشكلت بعض الجمعيات الحقوقية جبهات ضغط على النظام الحاكم، الذي لم يكن يريد وقتها أي تصادمات، فأفرجوا عنه بالفعل. وأصبحت مشكلة الأمن في وجوب وجود بديل لحمدين، وإلا فلن تكون هناك قضية من الأساس، ويجب أن يكون المُحرض على المظاهرات ذا تاريخ يساري بالطبع، وله سوابق في مثل هذه الأمور، وتم إخراج اسمي من السجلات، وألقوا القبض عليّ بالفعل، وكنت ساعتها في مرسمي الخاص، ليواجهني وكيل النيابة باتهام التحريض على المظاهرات، وأنهم ألقوا القبض عليّ من وسط المظاهرات، وأنني أعمل على قلب نظام الحُكم، فكانت إجابتي «هذا شرف لا أدعيه»، وأثناء التحقيقات مع ضباط المباحث توقفوا طويلاً أمام مهنتي، فحين وجه الضابط سؤاله عن عملي وأجبته «فنان متفرغ»، اندهش هو وزملاؤه الضباط، وقال لي أحدهم باستنكار شديد: «ده اسمه إستنطاع .. قاعد فاضي، والدولة بتصرف عليك، وقاعد تِفِن».

الناقد الفني

في أثناء حُكم السادات، تولى لطفي الخولي رئاسة تحرير مجلة «الطليعة» ــ ذات التوجه اليساري ــ وبدلاً من حلَّها وجدها السادات فرصة مثالية لجعل المجلة «حظيرة» تجمع اليساريين، ليحادثوا فيها أنفسهم، وتكون بمثابة مكان لتفريغ آرائهم وأفكارهم، وهم تحت السيطرة. وحين تولى فاروق عبد القادر الإشراف على الملف الفني والأدبي، كمُلحق للمجلة السياسية، قررت أن أخوض تجربة النقد الفني، وأسعدني كثيراً رد الفعل لما قمت بنشره، لأستمر في هذه المهمة. ولقد تعلمت من رمسيس يونان وكامل التلمساني ــ قبل أن يتوجه الأخير إلى المجال السينمائي ــ الفصل التام بين مُعتقدي الخاص كفنان، ودوري كناقد يعمل على تقييم أعمال الآخرين، فكان يلزم التجرد تماماً من «الأنـا» كي يتم نقد أعمال الفنانين الآخرين، وكان محمود سعيد بك هو الأيقونة والنموذج لكل منهما.

المثقف وعلاقته بالسلطة والشارع

الثقافة الآن ما هي إلاّ مُجرد «ديكور»، مبان عظيمة لكن فارغة، وسائط كثيرة من دون تواصل حقيقي مع الناس، بينما في عهد عبد الناصر كان الهدف هو تنوير الناس، من أجل دعم وتأييد مشروعه القومي، بالطبع وفقاً لمشروعه السياسي. وهذه الحالة على العكس تماماً عن مشروع «محمد علي»، فلقد كان مشروعه من أجل التنوير ذاته، وليس من أجل دعم توجه سياسي ما، كما هو الحال في حالة عبد الناصر، فكان يعمل رفاعة الطهطاوي بعيداً عن السُلطة بحرية تامة، وعلى الرغم من ذلك اصطدم مع محمد علي، وذهب إلى السودان. ولقد ازداد الأمر سوءاً في عهد السادات، فكانت الناس تُعرِض عن أي مُثقف، فما بالكم بـ»الفنان التشكيلي»، الذي يقتصر فنه على النخبة، وأعترف بأننا لم نقاوم إبعادنا عن الناس، الذي كرَّس له السادات، إلى حد الإشارة إلى المثقفين في خطاباته بـ «شوية الأفنديات». فالحركة الثقافية معزولة تماماً عن الشارع، فهي في واد والناس في واد آخر، والسبب في ذلك يرجع إلى النظام الحاكم، وإلى المثقفين أنفسهم، فالنظام يريد ويعمل على عزل المثقفين عن الناس لمد سلطاته أكثر وأكثر، أما المثقفون فعلى الرغم من انتقادهم لـ»الحظيرة الثقافية» التي عملت على إنشائها السلطة، إلاّ أنهم في الوقت نفسه يتسابقون للدخول إلى هذه «الحظيرة»، مما يبعدهم عن الناس أكثر وأكثر. وأطلق على الحركة الثقافية مصطلح «حركة الاتنين كيلومتر»، وأعني بها المساحة الضيقة للغاية التي تتركز في وسط البلد والجزيرة، حيث يتجمع الصفوة، بمعزل عن باقي الناس.

سبيل الخروج من الأزمة

لا أرى سبيلاً للخروج من هذه الأزمة المزمنة عن طريق «الترقيع» كما جرت العادة، فلقد «اتسع الرتق على الراتق»، ولابد من قميص جديد، لذلك أرى أن نبدأ من المدرسة، لإنشاء جيل جديد يعرف الفن والأدب ويدرك قيمتهما، ويمكنه إعمال عقله في كل ما يراه وما يحدث من حوله، وبالطبع يتطلب هذا تغيير المفهوم والمنهج التربوي تماماً. ولقد طرحت مشروعاً مؤخراً ــ أشك كثيراً في تنفيذه ــ وهو يُعني بتثقيف الناشطين الثقافيين، كنواة لهذا المشروع، مع إعادة تعريف مفهوم الثقافة، ليقوموا بعد ذلك بالتعامل مع الفئات البعيدة عن المجتمع الثقافي، مثلما حدث في كفر الشيخ، فلم أكن أتعامل هناك مع «الأمي» على أنه أمي، بل كمثقف بالفعل، كي يتفاعل ويخرج عن صمته المعتاد.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *