تجارب وثائقية من الأرض المحتلة … لعبة الانتقاد والتباكي

بخلاف الأفلام الروائية التي تتناول الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الأرض المحتلة، والتي تجعل منها إطاراً للعمل الدرامي الذي تتحرك فيه شخوص الفيلم، يأتي الفيلم الوثائقي ليحاول كشف جوانب أخرى للحياة المتوترة فوق هذه البقعة من الأرض. وسنقتصر على الأفلام التي قام بها كل من الجانب العربي والإسرائيلي، دون التجارب الكثيرة التي قام بها فنانون أجانب ناقشوا الكثير من جوانب الحياة في الأرض المحتلة. وأول ما نلاحظة على هذه الأعمال .. هو تراوحها بين الانتقاد الحاد للوضع الراهن من جانب فناني إسرائيل، مقابل التباكي والتأسي لذكريات يخشى أصحابها ضياعها، وهو السمة الأكثر لدى الفنان الفلسطيني.

تجارب وثائقية من الأرض المحتلة … لعبة الانتقاد والتباكي

[wpcc-script type=”92926044983fb0be02e36420-text/javascript”]

بخلاف الأفلام الروائية التي تتناول الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الأرض المحتلة، والتي تجعل منها إطاراً للعمل الدرامي الذي تتحرك فيه شخوص الفيلم، يأتي الفيلم الوثائقي ليحاول كشف جوانب أخرى للحياة المتوترة فوق هذه البقعة من الأرض. وسنقتصر على الأفلام التي قام بها كل من الجانب العربي والإسرائيلي، دون التجارب الكثيرة التي قام بها فنانون أجانب ناقشوا الكثير من جوانب الحياة في الأرض المحتلة. وأول ما نلاحظة على هذه الأعمال .. هو تراوحها بين الانتقاد الحاد للوضع الراهن من جانب فناني إسرائيل، مقابل التباكي والتأسي لذكريات يخشى أصحابها ضياعها، وهو السمة الأكثر لدى الفنان الفلسطيني.
لعبة ترميم الذاكرة
الملاحظ على فيلمي ناهد عواد ‘5 دقائق من بيتي 2008 ‘ وليانة بدر ‘القدس مدينتي 2010’ أنهما قد دارا حول ذكريات متآكلة، تحاول كل منهما القبض عليها، كجزء من تاريخ يغيب سريعاً، أو غاب بالفعل. فالبحث عن الماضي من خلال اللحظة الحالية، وحالة التناقض المأسوي هما الخط الدرامي للفيلمين، رغم صيغة التهكم والسخرية السوداء في الموضوعين. فالتشابه يبدو واضحاً من خلال لعبة البحث عما فُقِد، ومحاولة مستميتة لإحياء ذكريات انتهت إلا من مخيلات أصحابها. وعن طريق ما كان وما هو كائن بالفعل تبدو حالات التأسي، وإن شابها درجات متفاوتة من السخرية.
يتم السرد السينمائي للفيلم الوثائقي ‘5 دقائق من بيتي’ عن طريق تداعيات لصور فوتوغرافية قديمة تعود إلى مطار القدس، ومنها تبدأ حكايات بعض مَن عاصر تلك الفترة. فالمطار الذي يقع على بُعد 5 دقائق من رام الله، والذي تم احتلاله من قِبل القوات الإسرائيلية عام 1967، أصبح اليوم نهاية لطريق مسدود في وجه غالبية سكان الضفة الشرقية، بعدما كان مكاناً يسمح للفلسطينيين بالتنقل عبر العالم، في خمسينات ومنتصف ستينات القرن الفائت.
ولم يتبق منه إلا مَعْبَر ‘قلنديا’ الذي يتطلب العبور منه إلى القدس تصاريح خاصة لا تعطى إلا للحالات المرضية أو لموظفي المؤسسات والهيئات الدولية.
ومن خلال الذكريات التي يعيد حكيها الكثير من الأشخاص، سواء من الطبقة الوسطى أو البسطاء، من نساء ورجال، ارتبطت ذاكرتهم بالمطار في مرحلة زمنية سابقة تبدو الآن كحلم بعيد، كما ارتبطت بتاريخ احتلال يريد محو المكان والذكريات من العقول، لكن هذه الذكريات تنتقل أيضاً وتنقلنا معها، عبر الصور الفوتوغرافية العديدة التي تستخدمها المخرجة، وشهادات الشهود الذين عاصروا الماضي، إلى تأمل ما وقع من تغير أيضا على صعيد البنية الاجتماعية الفلسطينية نفسها.. كيف كانت صورة المرأة وكيف أصبحت، وكيف أصبح الناس أكثر تعصباً، وأكثر قلقاً وانعداماً للثقة في ما يجري حولهم.
بينما
تبحث ليانة بدر في ‘القدس مدينتي’ عن أيام طفولتها، من خلال الصور الفوتوغرافية للمدينة قديماً، وما تسجله الكاميرا لحال المدينة الآن، وقد أصبحت تحيطها المستوطنات من كل جانب، بالإضافة إلى السور الإسمنتي والبوابات الضخمة، التي يخضع عندها المواطن الفلسطيني إلى تفتيش دقيق، وتصريح خاص للعبور. وتتوسل المخرجة وكاتبة السيناريو بمحاولة تذكّر أغنية قديمة سمعتها في عيد ميلادها الرابع ــ أغنية تفضلوا معي اليوم عيدي، ليسري جوهرية وألحان سلفادور عرنيطة، من الأغنيات الشهيرة في الخمسينات ــ لتقابل أصدقاءها القدامى، وتتحدث معهم عما كان، بينما تستعرض الكاميرا الوضع الحالي للمدينة التي تحولت إلى سجن كبير. فمنزل طفولتها والشوارع والأزقة التي كانت تعرفها أصبحت تعلوها الأعلام الإسرائيلية.
وبالمقارنة نجد أن الفيلمين بهما الكثير من خطوط الالتقاء، وأن الحكاية العادية والمتوقعة في ‘القدس مدينتي’ تعلو عليها حالة ‘5 دقائق من بيتي’ من خلال تكنيك السرد وطريقة بناء السيناريو، فالأسلوب السردي ابتعد تماماً عن التوثيقية المباشرة، والكليشيهات السياسية المعروفة، بل قام بدمج التوثيق بالخيال، أعطى الفيلم بعض من الحياة لهذه الذكريات، بدلاً من التباكي عليها، وإقامة علاقات متناقضة مباشرة، كما في فيلم ليانة بدر. وقد ساعد ناهد عواد أنها تحكي عن مكان وعلاقة شخصياته المتعددة به، كالطيارين والمضيفات، أو الموظفين سواء بالمطار أو في وكالات للسفر، إضافة إلى حكاياتهم الشخصية ولحظاتهم الفارقة أثناء عملهم كالحب والزواج أو ماشابه من لحظات هامة في حياة الإنسان، وهو ما ساعد على خلق تواصل ولو بدرجة مقبولة، بين التاريخ الخاص والعام للمكان، والحالة العامة التي يعاني منها الفلسطينيون الآن.
لكن الذي يميز الفيلمين بالفعل هو الحس الفني في تناول موضوع كل منهما، فكل من المخرجتين ابتعدتا عن المشاهد المتداولة في وسائل الإعلام والفضائيات التي تعرض ليل نهار الطبيعة المادية للصراع، بل تعمّق حسهما إلى حقيقته، وهو ضياع الذاكرة/التاريخ، وهو ما تحاول العسكرية الإسرائيلية محوه بشتى الطرق، من تغيير أسماء الشوارع، وتشويه البنايات، وهدمها. وإن كانت نجحت نسبياً في السطو على الجغرافيا، فإن الفيلمين أدركا بوعي شديد جدوى الاحتفاظ بالتاريخ حياً يتواتره الناس في جلساتهم، حتى ولو كانوا داخل سجن كبير يدعى وطنهم.
تذكارات مصيرها المتاحف
على النقيض من الفيلمين السابقين، يأتي فيلم ‘2048’ ليارون كفتوري عام 2010، ليسرد المستقبل من خلال استقراء نقدي للحاضر، وبينما كانت الذاكرة الفلسطينية تحاول البقاء حيّة، إلا أن ذاكرة المخرج الإسرائيلي تبحث عن النسيان. فقط مائة عام هي كل عُمر دولة إسرائيل (1948 ـــ 2048) وستصبح أثراً من آثار التاريخ، مجرد ذكرى مُشوّشة في عقول مَن عاصروها. ليتحول حلم تيودور هرتزل إلى وثائق مُتربة تتحدث عن دولة كانت، ومقابر مندثرة في أماكن متفرقة، ولاجئين في دول العالم يحلمون من جديد بالعودة إلى الأرض الموعودة. هكذا يرى الفيلم مصير الكيان الإسرائيلي، فإسرائيل ستأكل نفسها، وستصبح مجرد عاديات أثرية في متجر رجل فلسطيني يحكي عن تاريخ قديم لم يعرفه أحد، وقد عاد الفلسطينيون إلى أراضيهم وإقامة دولتهم، حسب دورة التاريخ وحتميته. فالكيان الصهيوني القائم على المجازر واحتلال الأراضي الفلسطينية، وجهاز مخابراتي يحكم دولة تدّعي الديمقراطية، بالإضافة لجرائم الاغتيالات المنظمة لكل مناهضي ومعارضي هذا الاحتلال داخل وخارج إسرائيل .. كل هذا جدير بزوال هذا الكيان المسمى دولة.
فالفيلم يرى أنها دولة بوليسية في الأساس، كما أن مشكلاتها الداخلية المتأصلة، والتي لا تحب إسرائيل ذكرها وكأنها من التابوهات، هي التي ستقوّض هذا الكيان وتفنيه .. كفساد الفئة الحاكمة، والنزاع ما بين الأصوليين والعلمانيين، والتفاوت الطبقي الصارخ، كلها أسباب كافية لتدمير إسرائيل ذاتياً، ليصحو العالم ذات يوم ويبحث عن اسم إسرائيل في متحف التاريخ، بعد مائة عام من كابوس ثقيل كان يجثم على ضمير هذا العالم.
من خلال خيال توثيقي يحاول مخرج إسرائيلي (يوجو نيتزر) في عام 2048 البحث عن إسرائيليّ الشتات الجديد، بعدما دُمرت إسرائيل وانتهت تماماً، ولم تعد باقية فقط إلا في ذكريات مَن شهدوا نهايتها وعاصروها.
وعن طريق حوارات مُتخيّلة يحاول الفيلم اكتشاف أسباب ما حدث، وشعور هؤلاء بعد زوال دولتهم. وهنا لا يوجد إلا قِلة من الناس تروي حكاياتها عن كيفية طرد العرب لليهود، وإقامة الدولة الفلسطينية. وشهود العيان هؤلاء، والمشتتين في عدة أماكن، استشعروا خطر زوال دولتهم، ففروا هاربين، ليواصلوا حلماً قديماً .. فقط العودة إلى أرض الميعاد، والعيش كأقلية مسالمة وكرعايا في الدولة الفلسطينية.
تبدأ حكاية الفيلم بعثور المخرج الشاب في عام 2048 على شريط لفيلم وثائقي، قام جده بتصويره عام 2008، في الذكرى الستين لتأسيس الكيان الصهيوني، وما كان عليه من صلف وتعنت، ليسرد الواقع الإسرائيلي الحالي من وجهة نظر الماضي، وبالمقارنة بالعام 2048 اللحظة الراهنة للمخرج، وبالمقابل لا يجد من إسرائيل التي كان يشاهدها كما صوّرها جده سوى .. مقابر تشهد على وجودهم في ما مضى، وبعض الجرار الفخارية التي تحتفظ برماد موتاهم، وقسم مهجور للدراسات الصهيونيّة في مكتبة برلين يعلوه التراب ولا يقتربه أحد، وكأنهم لا يريدون تذكّر هذا التاريخ البائد. إضافة إلى متجر لبيع التذكارات في فلسطين، حيث يقوم فلسطيني ببيع السائحين آثار تاريخ كان ولن يعود.
اعتمد المخرج هنا خطاً توثيقياً ينتمي لعام 2008، وآخر خيالياً يسرد المستقبل عام 2048، فطريقة السرد هذه جعلته يلعب اللعبة بالعكس، يوثق للحاضر وكأنه حدث في الزمن الماضي، ويتخيل المستقبل روائياً، وبالطبع استعان بممثلين محترفين لتأدية أدوار يهود الشتات المستقبلي والحتمي.
لم نهلل للفيلم على اعتبار أنه يحلم معنا ولو سينمائياً بزوال إسرائيل، فالفيلم من الواضح أنه رسالة تحذيرية لساسة إسرائيل، حتى يغيروا من سياساتهم التي ستؤدي إلى انهيار هذا الكيان. فهو يُبشرهم بمصير العرب الآن، وأنهم سيعودون الى سيرتهم في شتات يحلمون معه بالعودة.
إلا أن ما يلفتنا في الفيلم شيئين ..
أولهما أن المشكلات التي تعانيها إسرائيل، والتي استعرضها المخرج تتشابه والمشكلات التي يعانيها العرب بفعل ساستهم الأجلاء، وهذا كفيل بالقضاء على أي شكل من أشكال هذه الدول. والصياح والدعاء ليل نهار على الولايات المتحدة، القائمة بدور الراعي الرسمي لإسرائيل لن يُجدي، لأنه الدور نفسه الذي تقوم به لمساندة أنظمة الحكم العربية في مواجهة شعوبها.
الأمر الآخر .. أن الفيلم حتى ولو دار في إطار الخيال ــ ونحن نتحدث عن عمل فني في الأساس ــ يدل على أن الجيل الجديد من المخرجين الإسرائيليين ــ بعضهم ــ لم يعد مفتوناً بخرافات الدولة اليهودية، ولم يعد يقدم أفلاماً دعائية عن ديمقراطية وهمية تتغنى بها وسائل الإعلام الصهيونية. فالحديث عن دولة دينية عنصرية لم يعد كما كان ــ لم يزل البعض من السينمائيين الإسرائيليين يروّج لهذه التفاهات حتى الآن ــ فحالة الانتقاد المتعالية أصبحت سمة من سمات السينما في إسرائيل. كما أن هناك الكثير من المقولات الوهمية الأسطورية قد سقطت، وبدلاً من مواصلة التزييف أصبحت مواجهته هي النغمة السائدة ولو بدرجات متفاوتة.
حُرّاس البوابة وفضائح ‘شين بيت’
‘حرّاس البوابة’ وثائقي للمخرج الإسرائيلي ‘درور موريه’، يتناول الممارسات الدموية لوكالة الأمن الداخلي الإسرائيلية، من خلال 6 رؤساء سابقين لها، كاشفاً دورها في الصراع العربي الإسرائيلي، وتدابيرها داخل إسرائيل وخارجها، بهدف الحجة الواهية التي تصدّرها إسرائيل للعالم، ألا وهي .. أمن إسرائيل!

حكايات من ‘شين بيت’
(شين بيت) هو اسم وكالة الأمن الداخلي الإسرائيلية، وعن طريق 6 من رؤسائها السابقين يبدأ سرد حكاياتهم ووجهة نظرهم في ما حدث، سواء من القضايا التي تولتها الوكالة بالتحقيق، أو التي عملت على تنفيذها.
فهؤلاء يسردون النجاحات والإخفاقات التي واجهوها .. بداية من جمع المعلومات حول الأعداء، ورصد حركات الناشطين المخالفين لسياسة إسرائيل، على حد سواء من الفلسطينيين والإسرائيليين، وأخيراً العمليات السريّة التي عملت على تصفية الكثير منهم .. كاغتيال فلسطينيين قاما باختطاف حافلة رُكاب، واكتشاف مخططي اغتيال إسحاق رابين، وهو سابق لمقتله على يد متطرف يهودي.
مبررات هزيلة
ما يلفت النظر في حوارات هؤلاء هو مبرراتهم التي يتفوّه بها كل مسؤول أمني، يتناسى القوانين والحقوق، ويردد كالببغاء أسبابه الواهية، التي مصيرها الحتمي هو الفشل. فأحدهم يُلقي بالمسؤولية على السياسيين، ويروي قائلاً .. ‘كُتب علينا أن نواصل القتال والقتل طوال الأجيال العشرة المقبلة وهؤلاء يجدون الدعم والتشجيع من هيئاتنا السياسية ــ ومن المحتمل أن يكون صعباً للغاية أن ينفتحوا ليروا وجهة النظر المختلفة بأنفسهم’. بينما يضيف آخر قائلاً ‘في الحرب على الإرهاب تُغفل الأخلاقيات’.
أما أحد رؤساء شين بيت السابقين، ويشغل الآن منصب وزير الداخلية فيقول إنه ‘لا يمكن إحلال السلام باستخدام الأساليب العسكرية’!
وتكتمل السخرية السوداء في عبارات أحد أعضاء البرلمان الإسرائيلي الحالي، وأحد الرؤساء السابقين لوكالة الأمن الداخلي، إذ يقول ‘عندما تترك شين بيت تصبح يسارياً إلى حدٍ ما’!!
ربما يختلف الكثيرون حول الفيلم ورسالته، فهو رغم انتقاده لمؤسسة هامة من مؤسسات إسرائيل، إنما يفعل ذلك تجنباً لانهيار الدولة التي أصبحت تتآكل بالفعل، كما رآها فيلم ‘2048’.
إلا أن ‘حرّاس البوابة’ يتحدث عن المشكلات المزمنة وشحن الرأي العام للضغط على السياسيين لحل هذه المشكلات، مؤكداً أن الاحتلال ليس عملاً أخلاقياً، لا جدوى منه، وعلى إسرائيل أن تنسحب من أراضي الضفة الغربية، وتعمل جاهدة على إقامة دولة فلسطين. وهي في النهاية رؤية وفكر صانع الفيلم، التي قد يختلف معها الكثيرون سواء من إسرائيل أو العرب.

‘شرقيّة’ … مآسي البدو في إسرائيل
في عام 2007 أطلق مُزارع إسرائيلي النار على أشخاص من البدو اقتحموا مزرعته في صحراء النقب، وقتل شخصاً وأصاب آخر. وفي عام 2008 أقرّ البرلمان بمبادرة من سياسيي اليمين المتطرف قانوناً يعتبر مثل هذه الأعمال دفاعاً عن النفس. وبذلك برّأت المحكمة عام 2009 المزارع الإسرائيلي لأن تصرفه هذا كان دفاعاً عن النفس، ولكنها حكمت من ناحية أخرى على البدوي المُصاب بالسجن عشرين شهراً!
هذه هي السياسة الإسرائيلية التي حاول الفيلم فضحها وكشفها، حتى أنه تم تصويره بالكامل خلسة، بعيداً عن أعين السلطات الإسرائيلية.
يتناول فيلم ‘شرقية’ للمخرج ‘عامي ليفني’ وكاتب السيناريو ‘جاي عفران’ الوضع المزري الذي يعاني منه البدو في إسرائيل. ويستوحي الفيلم اسمه من الرياح الشرقية التي يعتبرها البدو رياحاً شريرية، وهو اسم دال عن حالة الفناء التي يعانيها هؤلاء.
البداية كانت بحصول بعض البدو بعد 1948 على قطعة أرض، ولكن لم يتم توثيق ذلك بوثائق ورقية، بل شفوياً ومن خلال المصافحة. والآن تحاول الحكومة هدم هذه المخيمات، وتشريد ما يقارب سبعين ألف بدوي، ولكن هناك يهود من المنطقة يدافعون عنهم، وبلا فائدة. كما أن الحكومة لا تقدم لهؤلاء الناس الكهرباء والماء أو فرص العمل ويفقدون أراضيهم من خلال إعادة توطينهم المزعومة، ويفقدون بالتالي مصادر دخلهم، مما يُنذر بوضع خطر، يكاد ينفجر في أي لحظة.
يحاول الفيلم توثيق حالات هؤلاء عبر شخصية عدنان أبو وادي، وهو رجل يعمل بالحراسة في مصلحة السكك الحديدية، ويقف أمام الكاميرا للمرّة الأولى، ويعاني من المشكلة ذاتها، إذ يعيش هو وأسرته في قرية محكوم عليها بالزوال، ولا يجدون البديل، بحجة توطينهم أو إسكانهم في تجمعات بمناطق أخرى.
نعتقد أن الفيلم لم يُبد أية دعاية سياسية للسياسة الصهيونية، بل حاول فضحها، والوقوف ضدها في صراحة شديدة. ولكن الجدل الآن أن مناضلي العروبة يرفضون ويُتاجرون بموقفهم الرافض لعرض الفيلم في بلادهم، حدث هذا في مصر وتونس، إضافة إلى العديد من المحاولات في المغرب. كل هذه الحشود دون أن يُشاهد أحد الفيلم، أو يعمل عقله في ما يحاول الفيلم إيصاله من رسالة، بخلاف الحُكم الجمالي على عمل سينمائي، وليس من قبيل الدعاية السياسية!

حكاية الكاميرات المكسورة
‘عماد برناط’ مزارع من قرية ‘بلعين’، وبسبب الجدار العازل الذي اقتطع معظم أرضه، لم يجد سوى العمل من خلال الكاميرا، التي كانت هواية في بادئ الأمر، ثم تحولت إلى عمل احترافي، بأن يقوم ببيع اللقطات إلى وكالات الأنباء التي تشهد المظاهرات السلمية، في مواجهة جيش الاحتلال.
بدأ الرجل التصوير منذ عام 2005، وهو العام الذي ولد فيه ابنه الأصغر الرابع ‘جبريل’، الذي يدور جزء من أحداث الفيلم حوله.
وعن طريق تحطيم كاميراته الخمس، التي يستعرضها في بداية الفيلم، ويؤرخ بها فصوله، يقرر بمساعدة المخرج الإسرائيلي ‘جاي دافيدي’ ــ صاحب الخلفية والفكر اليساري ــ صُنع فيلم يعرض ما حدث ولم يزل، وأطلقا عليه ‘5 كاميرات مكسورة’.
يبدأ الفيلم بصوت عماد، الذي سيصبح الراوي للأحداث، ويظهر الخط الدرامي في الربط بين حياة ابنه جبريل وتطاول الجدار العازل، فالجدار يكبر ويعلو ويمتد مع عُمر الطفل، فأي مستقبل سينتظره هو وجيله، أمام جدار سيحجب عنهم الحياة.
الفيلم يوثق لمواجهات شبه يومية بين قوات الاحتلال وسكان القرية المناهضين لوجود الجدار العازل، بداية من الخروج في المظاهرات، وحتى الاشتباكات، بل يصل الأمر لتصوير مشهد قتل أحد شباب القرية، وتقديم واجب العزاء. إلى هذا الحد كان من الممكن اعتبار الفيلم وثائقياً.

ولكن …
المخرج لم يُدرك جيداً الفارق ما بين النهج التوثيقي والروائي. فقد تجمّعت لديه مادة مصوّرة نتيجة عمله لوكالات الأنباء العالمية، ثم جاء التفكير في عمل الفيلم، وبالتالي كان البحث عن كيفية جمع هذه المادة في خط درامي مؤثر. فكان الطفل ‘جبريل’ هو هذا الخط الذي سيتم التوسل به لسرد الأحداث. كل هذا لا يمثل أدنى مشكلة. إلا أن الفيلم ينتمي أكثر إلى الروائي منه للتوثيقي، كما كان من الممكن اعتباره على أقل تقدير من الدوكيودراما.
فالفيلم في أكثر الأجزاء منه أصبح إعادة إنتاج للحظات مضت، إضافة إلى المشاهد التمثيلية والمتكلفة ذات الدلالة الروائية، أكثر منها تصويراً لواقع حي … كأن يتقدم جبريل ويتخطى بوابة تفتيش، ويسير فوق الطريق بالقرب من الجدار الصاعد، ويمد يده بوردة إلى أحد جنود الحراسة!
كما اتضح عمل ‘دافيدي’ أكثر عند وضع الكاميرا ثابتة وبزاوية في غاية الحرفيّة، ليبدو تكوين مدروس للكادر السينمائي، فيظهر جزء من عربة البوليس في يمين الكادر ويصبح الشارع الطويل في العمق، ليتوافد من خلاله المتظاهرون نحو الكاميرا.
اللقطات التي صورها عماد عند مداهمة بيته، والبحث عن أخيه ــ وهو ما حدث من قبل وأعاد تصويره ــ فالرجل يفتح الباب للجنود وهو مُمسك بالكاميرا، فيعبرونه إلى الداخل وكأنه أحد أفراد القوة العسكرية، أو أنهم بعض الممثلين في الفيلم. إضافة إلى المشاهد المُفتعلة في حواره مع أفراد أسرته، خاصة زوجته، التي تنظر إلى الكاميرا وتتلعثم عدة مرّات ــ لا يمت الأمر إلى التلقائية ــ حتى أن أحد الأصدقاء لفت نظري بعد مشاهدة الفيلم .. بأن الزوجة كلما ظهرت كانت ترتدي الإيشارب، بالرغم من أنها في منزلها ومعها زوجها وأولادها فقط، مما يدل على التحضير مسبقاً لكل مشهد ظهرت به!
ملحوظة أخيرة بشأن الخمس كاميرات المكسورة، وما قامت بتصويره بالفعل، فالصورة في معظم أحداث الفيلم يبدو أنها تمت من خلال (كاميرا واحدة) حديثة نسبياً، بخلاف الكاميرا المكسورة/ضحية جنود الاحتلال، ولا يبدو اختلاف جودة المادة المصوّرة إلا في لقطات ‘جبريل’ وهو رضيع، فيبدو القِدم على المادة المصوّرة، أما باقي الأحداث فلا يبدو بها تباين عدة كاميرات انتهت حياتها تباعاً، بل كاميرا واحدة قامت بتسجيل كل شيء، وهو ما يتنافى واسم الفيلم وفكرته، ويؤكد وجهة نظرنا بأن الفيلم تم إعادة تصويره بالكامل وفق لقطات أشبه بالأرشيفية لأحداث مضت.
إلا أن المشكلة الأكبر ليست في كل ما سبق، ولكنها تتجلى أكثر في التعليق المصاحب للفيلم، والذي أدّاه عماد بصوته، وبالطبع من حق المخرج صياغة تعليقه كيفما شاء، ولكن أن يُثقل التعليق الأحداث ويحاول فلسفتها بأكثر مما تطيق أو أن تحتمله الصورة، فهو أمر مزعج فنياً لأقصى حد.
بالطبع لم نستخدم العبارة المجانية التي تقول ‘لو حدث ذلك لكان أفضل’ لأنها في البداية والنهاية رؤية صانع الفيلم، التي يجب قبولها أو رفضها أو التفاعل معها حسب الطريقة التي قدمها بها.
إلا أن ما يميز هذه التجربة أن الرجل حلم وحقق ما حلم به، وهذا يكفي
كما أنه تناول طبيعة هذا الصراع بعين مواطن فلسطيني في المقام الأول، شاركه في موقفه مخرج إسرائيلي، حاولا معاً بدون صخب أو كليشيهات إدانة وضع همجي لن يستمر بحال من الأحوال.

*كاتب من مصر

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *