الموسيقى والسياسة: قصور في الهواء وقصور مدمرة على الأرض

هذا سؤال قديم اسأله لنفسي دائما، لكن أثاره في نفسي هذه الأيام ظهور الفنان الموسيقار هاني شنودة أمامي على تويتر. تحدث أكثر من مرة بجمال فائق وأدب إنساني عالٍ عن علاقته بالفنانين والفرق الموسيقية، منذ دشن أول فرقة حديثة في مصر هي فرقة «المصريون» في النصف الثاني من السبعينيات، وبعدها تتالت الفرق مثل «الفور إم» […]

الموسيقى والسياسة: قصور في الهواء وقصور مدمرة على الأرض

[wpcc-script type=”1204d2ba5fcf11a68690eeb2-text/javascript”]

هذا سؤال قديم اسأله لنفسي دائما، لكن أثاره في نفسي هذه الأيام ظهور الفنان الموسيقار هاني شنودة أمامي على تويتر. تحدث أكثر من مرة بجمال فائق وأدب إنساني عالٍ عن علاقته بالفنانين والفرق الموسيقية، منذ دشن أول فرقة حديثة في مصر هي فرقة «المصريون» في النصف الثاني من السبعينيات، وبعدها تتالت الفرق مثل «الفور إم» و»الأصدقاء» و»طيبة»، وعشرات الفرق التي تجاوزت المئة، ونقلت الغناء من الطرب الفردي إلى الأداء الجماعي، القائم على تعدد الأصوات والهارموني بينها، وأضيف أنا أن ما فعله ومن تبعوه، أنهم فتحوا الباب المغلق للأداء الجماعي، الذي كان الطرب الفردي، الذي ساد بعد موت سيد درويش، وراء اختفائه كثيرا، وما فعله ومن تبعوه وصل إلى ما شاهدناه من فرق جديدة بعد ثورة يناير/كانون الثاني من الشباب، مثل فرقة «وسط البلد» و»مسار إجباري» و»بساطة» و»كايروكي» وغيرها، التي بدأ بعضها قبل ثورة يناير وبعدها ذاعت، رغم أنه أغلقت أمامها المسارات الرسمية، حتى سميت بفرق «الأندر غراوند»، أو تحت الأرض، وزاد عددها وكانت في أكثرها تجمع ما بين التراث والمعاصرة من موسيقي الجاز وغيرها.
أنا مغرم بالموسيقي وسماعها كل يوم منذ كنت في حوالي العشرين من عمري. وبالمناسبة كان السبب أني استمعت صدفة لأنيس منصور في برنامج إذاعي وسألته المذيعة عما يحب أن يسمع من موسيقى، فقال لها أنه يحب سماع البرنامج الموسيقي دائما. لم أكن أعرف بالبرنامج الموسيقي، فذهبت إليه في الراديو في المساء، وفي الليل حيث أسهر في القراءة والكتابة حتى الصباح، ووجدت أنه يذيع مقتطفات من الطرب العربي أحيانا تستمر لساعة، ثم يكون أكثر ما يذيعه موسيقي كلاسيك في الليل بعد الساعة الثانية عشرة، وبعد الثانية صباحا تبدأ مقطوعات موسيقية مختلفة، كونشيرتات وسوناتات وأجزاء من سيمفونيات وموسيقي تصويرية لأفلام أجنبية، وأهم ما يحدث أنه بعد الساعة الثانية صباحا يختفي صوت المذيع بين المقطوعات حتي الساعة الخامسة صباحا.. أي أن المقطوعات الموسيقية تتوالي بدون فواصل. ولأن أكثرها موسيقى تصويرية لأفلام أجنبية سبق أن رأيتها أو رأيتها مع الزمن، فكانت تتجسد أمامي الأفلام والصحاب الذين رأيتها معهم، وغير ذلك مما تقلّبه الذكريات. كذلك كان فيها البرنامج الأسبوعي لحسين فوزي عن الموسيقى الكلاسيكية، فكان أعظم باب دخلت منه للتذوق والمعرفة الفنية.
هكذا لم تفارقني الموسيقى أنا الكائن الليلي في كل ما كتبت، لكن هذا ليس موضوعي. ما فكرت فيه كثيرا وأنا أرى القبح حولي في الشوارع منذ السبعينيات والبنايات الجديدة، والعشوائيات، وردم البحيرات، والاعتداء على المدن القديمة تحت اسم التطوير لإقامة أبراج ومولات وكباري وغير ذلك هو، لماذا حقا لا يتم إعطاء دروس للمحافظين ومديري الأحياء في الفنون، قبل أن يمارسوا مناصبهم، لا بد أن ذلك سيجعل راية الجمال أمام أعينهم قبل راية المال والعائد المادي، بل يمكن أن تتاح لهم زيارات للأوبرا لحضور بعض عروض البالية وزيارات أخرى لمعارض الفن التشكيلي. وأزيد في التفاؤل وأقول ساخرا من نفسي، ودعوتهم إلى مشاهدة ولو لمدة أسبوع لأفلام تجريبية من مصر والعالم، والحديث عن أهمية الصورة الفنية. طبعا هي أحلام الفتى الطائش الذي صار العجوز الطائش، لكن الموضوع توسع مني وثار سؤال، هل لو أدرك السياسيون الكبار عبر التاريخ هذا الحديث، واستمعوا إلى الموسيقى وشاهدوا الفنون ستكون قرارات الحرب بهذه السهولة، التي لا يبدو أن وراءها أطماعا فقط لكن شهوة؟ هل لو كانوا منذ فجر التاريخ أحسوا بهذا الجمال كانت الحروب قد اندلعت بلا طائل ووصل الأمر بها إلى تدمير مدن كاملة، فضلا طبعا عن البشر؟ السؤال الحقيقة مربك لأن كثيرين من حكام مصر في العصر المملوكي مثلا تركوا وراءهم فنونا رائعة من العمارة التي هي تجسيد للموسيقى لكنهم رغم ذلك شنّوا حروبا كثيرة، وتوسعوا وقمعوا المصريين قمعا فائقا، لكن بقليل من التفكير يمكن أن تتصور أن هذا الحاكم الذي أمر ببناء القصر أو المسجد أو الخانقاه، أو حتى السبيل أو غيره، وخصص له أفضل المعماريين وأعجبه في النهاية، لم يشعر بذلك الجمال يتسلل إلى روحه. كان سعيدا بالإنجاز الذي سيحمل اسمه لا أكثر.

يمكن أن أغفر للحكام القدامي حروبهم لأن الحضارات القديمة كانت حين تقوى تبحث عن مجال حيوي لها في البلاد المجاورة، وبعضهم رغم كل شيء ترك خلفه مدنا عظيمة، كما فعل الإسكندر الأكبر.

الأمر نفسه حين نتذكر حاكما مثل هتلر الذي كان إعجابه فائقا بفاغنر، ولا أظن أن هذا الإعجاب كان لذاته، لكن من تأثير أفكار نيتشه المولع بفاغنر وفلسفته، التي كانت مدخلا للنازية، ففاغنر الذي يخترق حدود الموسيقى بفردانيته هو ما استقر في روح هتلر الذي كان بالمناسبة فنانا تشكيليا فاشلا، ومن ثم لا أظن أنه كان يشعر بالرضا مع الفنانين، بل ما أكثر من دفعوا ثمن فردانيته السياسية من الأدباء والفنانين هجرة أو اعتقالا. الأمر نفسه مع ستالين الذي خلّف وراءه من بين ما ترك عمارات سبعا في موسكو تضاهي الكرملين ظانا أنها طبعا ستحمل ذكراه، هو الذي فتح المعتقلات لكل معارض كاتبا أو فنانا أو شخصا عاديا. هكذا كان إنجاز هذا النوع من الحكام عبر التاريخ هو للذكرى أكثر منه حبا للفن، لأن من يحب الفن يحب الحياة ولا يكرهها لغيره.
يمكن أن أغفر للحكام القدامي حروبهم لأن الحضارات القديمة كانت حين تقوى تبحث عن مجال حيوي لها في البلاد المجاورة، وبعضهم رغم كل شيء ترك خلفه مدنا عظيمة، كما فعل الإسكندر الأكبر، أو فتح الباب لعصر جديد كما فعل نابليون في مصر، لكنني أتحدث عما حولي الآن وبالذات في عالمنا العربي، الذي استبدت به حروب عبثية لا يبدو أنها ستنتهي، رغم الدمار الذي نراه حولنا كل يوم ولا ينتهي وكأنما صار الدمار هدفا في ذاته، وهنا تقفز فكرة الجمال الغائب عن السياسيين. لم يعد للبشر قيمة حقا أمام أهداف تجعلها الشعارات عظيمة، ثم ما نلبث أن نكتشف عقمها. أنظر إلى أكبر وأشهر القادة القدماء، الذين شنوا الحروب على ما حولهم وانظر إلى ما بقي منهم. بعض قصور وبنايات دمّرها ويدمرها من يقوم بالغزو بعدهم، ولا تنفي أبدا من تم قتلهم أو نفيهم أو تعذيبهم. هل بقي من الاحتلال البريطاني لمصر غير ما فعله أهلها من نهضة في مواجهته، وحتى لو بقيت في البلاد التي تعرضت للاحتلال مثل دول المغرب العربي آثار ثقافية ومعمارية من أيام الاحتلال، فلن تغني هي أو غيرها في كل الدول، التي تعرضت للاحتلال، عن ذكرى الملايين من الشهداء. هي إنجازات لم تكن بنت السياسة، إلا كمحاولة للخداع. وتستطيع أن تمشي مع التاريخ والحاضر فستجد أن السياسة أفسدت كل مظاهر الجمال، كان ولا يزال شن الحروب أسهل من البناء والغناء.
ظهور الفنان هاني شنودة أمامي على تويتر ذكّرني بما اقتنعت به دائما ونسيته تحت ضغط الحياة وهو، ماذا كان سيحدث في العالم لو كان للساسة عبر التاريخ حس بالفنون والجمال. أعرف أن هذا لن يحدث رغم سهولته، لكن سأظل أحلم بغلبة الجمال على قبح السياسة، وسيظل حلما يعيننا على الحياة. الموسيقى تبني قصورا في الهواء يعيش بها الحالمون، والسياسة تدمر القصور على الأرض فلا نوم ولا أحلام.

٭ روائي من مصر

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *