الأغنية الاحتجاجية في تاريخ المغرب… «نماذج وتجارب»
[wpcc-script type=”83e98a0d86ccef6288b53f5a-text/javascript”]

يشكل البحث في تاريخ الأغنية الاحتجاجية في المغرب، نافذة لإعادة قراءة تاريخ المغرب السياسي والاحتجاجي، من زاوية تستحضر الموروث الفني، باعتباره شكلا فنيا، برز في سياقات تميزت بالاحتقان على المستويين السياسي والاجتماعي.
والواقع أن البحث في تاريخ الأغنية المغربية بشكل عام، والأغنية الاحتجاجية بشكل خاص، ما زال من الدروب البحثية التي لم تلق بعد العناية اللازمة، على الرغم من أهميتها في الكشف عن جوانب مهمة من تاريخنا السياسي والاجتماعي، لما تكتنزه من مضامين ورسائل تعبر عن الهموم المجتمعية المعاصرة، والتي حاولت المرافعة عنها ومواجهة مختلف أشكال الاضطهاد والبؤس والقمع، من خلال تبني ما يعرف بالفن «الملتزم»، وترسيخ الوعي الفني الهادف والطموح نحو التغيير، ومقاومة كل مظاهر التعسف والاستبداد.
من هذا المنطلق تسعى هذه المحاولة، إلى الوقوف على بعض النماذج من تاريخ الأغنية الاحتجاجية في المغرب، بدءا بفن «العيطة» من خلال نموذج «خربوشة» أواخر القرن 19، مرورا بتجربة «ناس الغيوان» خلال السبعينيات من القرن الماضي، وانتهاء بأغاني الملاعب، أو ما يعرف حاليا بأناشيد «الألتراس».
«خربوشة»: المرأة الثائرة
يندرج البحث حول هذه الشخصية الفنية، ضمن مبحث يعنى أساسا بتاريخ المهمشين ومن لا تاريخ لهم، والحديث هنا عن المرأة والمسألة النسائية في تاريخ المغرب، فمن الأبعاد المهملة في حركة الاهتمام بقضايا المرأة هناك البعد التاريخي، الذي ظلت خلاله المرأة مغيبة عن الاعتراف بصنع أحداثه لا غائبة عنها. تبدأ قصة «الثائرة خربوشة»، مع انتفاضة أفراد قبيلتها «أولاد زيد»، في منتصف سنة 1895 ضد التعسف الضريبي والقهر والاستبداد الذي كان يمارسه القائد عيسى ابن عمر، وهي انتفاضة دعمتها «خربوشة»، من منطوق الكفاح الأدبي والفني، فقد الهمت قصائدها (العيوط) الثوار، وهجت من خلالها تسلط القهر المخزني في شخص القائد عيسى بن عمر، انتشرت قصائدها بين قبائل عبدة، ما أعطى لهذه الثورة دعما معنويا كبيرا، وجعل من خربوشة شاعرة الانتفاضة، إذ غنت فزلزلت الأرض تحت أقدام ظالميها، فتحولت إلى رمز وأسطورة، عبر إشهارها الرافض للقرار الذكوري بالاستعباد والقهر. نهاية قصة هذه المرأة الثائرة، ستكون بعد هزيمة أفراد قبيلتها ولاد زيد، ووقوعها في الأسر، لتسجن في دار القائد عيسى بن عمر، ليمارس عليها شتى أنواع التعذيب…وتقتل في النهاية!
إن الهدف من الوقوف على هذا النمط الغنائي، هو التأكيد على أهمية فن العيطة ودور المرأة في التاريخ، من خلال استحضار بعض أمجاد وبطولات المرأة المغربية، ولعل النموذج «خربوشة» خير دليل على دور تاء التأنيث في تشكيل مسار الحدث التاريخي، الذي عكسته لنا الذاكرة الشعبية من خلال فن «العيطة» كوعاء دونت فيه «خربوشة» ملحمة شعبية، تنطق في حكم بعض الباحثين، بكثير من الدلالات والقيم والآمال.. مما غنت:
خربوشة ماشي قصارة وركزة
خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الحزة
فينك أعويسة وفين الشان والمرشان
تعديتي وخسرتي الخواطر وظنيتي القيادة على الدوام
ناس الغيوان: تجربة فريدة في مسار
الأغنية الاحتجاجية في تاريخ المغرب المعاصر
من الثابت تاريخيا أن تجربة ناس الغيوان الغنائية، التي انطلقت مع بداية السبعينيات، قد شكلت لحظة تحول حاسمة في المشهد الفني، الذي ظل طيلة القرن العشرين يعاني من الركود والاجترار لفترة طويلة، كما كانت نقطة جذب جماهيري قوية، عبر اقتراح البديل النوعي المتسم بالالتزام بقيم التمرد والرفض. ففي سياق الاحتقان السياسي، والبؤس الاقتصادي والاجتماعي، انبثقت تجربة ناس الغيوان، التي سرعان ما لقيت احتضانا شعبيا، واجتذابا من طرف الغاضبين من الابتدال الفني، والناقمين على الوضع السياسي، معتمدة في ذلك نهجا فنيا ملتزما، ومعبرة بذلك على صوت الفقراء والمقهورين، الذين عانوا من مختلف أشكال القمع، في فترة زمنية اتسمت بطابع التضييق على الحريات (سنوات الجمر والرصاص)، كما واكبت هموم الأمة العربية ومآسي القارة الإفريقية.
غياب دور الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والنقابية، في تأطير الحركات الاحتجاجية في المغرب الراهن، قد أسهم في ظهور فضاء جديد، انتقلت من خلاله جماهير واسعة من التشجيع الرياضي والكروي، إلى صياغة أناشيد تعالج هموم الشارع.
أنتجت المجموعة، عشرات الأغاني، التي كانت بمثابة ترجمة لواقع مغربي متسم بالاضطهاد السياسي والمجتمعي، ولعل أبرزها أغنية «غير خودوني» و»مهمومة»، التي يمكن اعتبارها من أهم الإنتاجات الفنية التي نحتت من خلالها مجموعة «ناس الغيوان»، اسمها في تاريخ الغناء المغربي، وسنقف في هذا الصدد على أغنية «غير خودون» لما تكتنزه من دلالات ومعان فريدة ومتفردة.
«غير خذوني»: صرخة
غنائية لقلب يعتصره الألم
«غير خذوني»، بمعنى «فقط خذوني»، هي لوحة فنية نسجت في تزامن مع صراع المعارضة والسلطة في المغرب، حيث شهد المغرب خلالها أشكالا متعددة من القمع والتضييق. تبدأ الأغنية بموال يبوح بكل معاني الألم والحزن والمعاناة:
سيل سيل يا الدم المغدور
تراب الأرض محال ينساك
وحوش الغابة ترهبات منـــك
السم ف الصحارى جافل منك
دم المغدور ما نْسْلّمْ فيــــــــه
حق الظلوم أنا مـــا نــــدوزه
يا طاعني من خلفي… موت وحدة هي
غير خودوني … لله غير خودونــــــي
إنها كلمات تتحدث عن الدم المغدور، وعن القلب الذي يئن من ضربات الحداد، كما تحمل معاني الحزن والفراق والموت والألم واليأس؛ هي في المقام الأول صوت الشعب وما يحمله من آهات ومحن. لقد أصبحت هذه الأغنية، وما زالت، إلى جانب أغان عديدة، تشكل ترجمة لواقع مغربي معاش، ساد فيه الفقر والاضطهاد، كما تشكل تلك الرغبة في التحرر من كل أشكال التعسف التي شهدتها مرحلة زمنية مهمة من تاريخ المغرب.
ثالثا: أغاني «الألتراس»: حين تخاطب الجماهير الكروية السلطة!
يقودنا رصد مسار تطور الأغاني الاحتجاجية في تاريخ المغرب، إلى الوقوف على نمط جديد وراهن، برز على ضوء استمرار مظاهر الإقصاء والحيف الاجتماعي، ألا وهو نمط أغاني الملاعب، أو ما يعرف بأناشيد «الألتراس». والواقع أن غياب دور الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والنقابية، في تأطير الحركات الاحتجاجية في المغرب الراهن، قد أسهم في ظهور فضاء جديد، انتقلت من خلاله جماهير واسعة من التشجيع الرياضي والكروي، إلى صياغة أناشيد تعالج هموم الشارع، باعتبارها صوت الفئات المهمشة، وفضاء لتفريغ الاحتقان الذي تعيشه فئات مجتمعية واسعة. من أهم الأغاني التي لقيت انتشارا واسعا، ليس فقط على الصعيد المحلي، بل امتدت إلى باقي بلدان العالم العربي، نجد نموذجين متميزين، هما: «في بلادي ظلموني» التي ترجع إلى مشجعي نادي الرجاء البيضاوي و»قلب حزين» التي تعود إلى مشجعي نادي الوداد البيضاوي. وهي أغان تمثل معاناة الشعب المغربي، حيث صدحت حناجر المشجعين المقهورين لتبعث رسائل معبّرة ومباشرة وواضحة للمسؤولين، وبصوت تقشعر له الأبدان، عن ألم وغضب شديدين مما آلت إليه أحوال الوطن. ومن أهم كلمات»فبلادي ظلموني» نذكر:
فهاد البلاد عايشين فغمامة طالبين السلامة…نصرنا يا مولااانا
صرفو علينا حشيش كتامة خلاونا كي اليتامى نتحاسبو فالقيامة
مواهب ضيعتوها بالدوخة هرستوها… كيف بغيتو تشوفوها
فلوس البلاد كع كليتوها للبرّاني عطيتوها… جينيراسيون قمعتوها.
وخلاصة القول، إن البحث في تاريخ الأغنية الاحتجاجية، يعد نافذة لإعادة قراءة تاريخ المغرب الاحتجاجي، عبر الاستعانة بأنماط الأغنية الاحتجاجية، كوثيقة تاريخية، تعكس كلماتها حالة الاحتقان التي عرفها المغرب في مراحل تاريخية معينة.
٭ باحث في التاريخ ـ المغرب