العقل والموسيقى

تعتبر الفلسفة أحد المصادر المهمة التي رفدت الموسيقى عبر الأزمان بروافد ثقافية عميقة، ووضعت لها أسسها الإنسانية لا بوصفها مجرد أصوات طربية أو أنغام جميلة. ومنذ فجر التاريخ الثقافي للإنسانية كان هذا العقد القوي بين الفلسفة والموسيقى.

العقل والموسيقى

[wpcc-script type=”77a3b38e8a574fbf6bf2ccc5-text/javascript”]

تعتبر الفلسفة أحد المصادر المهمة التي رفدت الموسيقى عبر الأزمان بروافد ثقافية عميقة، ووضعت لها أسسها الإنسانية لا بوصفها مجرد أصوات طربية أو أنغام جميلة. ومنذ فجر التاريخ الثقافي للإنسانية كان هذا العقد القوي بين الفلسفة والموسيقى.
كبار الفلاسفة الذين عرفناهم، كما كبار المفكرين كانوا يهتمون بالموسيقى بل كان بعضهم يعزفها ولا يكتفي بسماعها، والأمثلة كثيرة جدا، فالوشائج الثقافية بين صنوف الإبداع ظلت ركيزة للمبدع تميزه عن غيره من المبدعين، وإلى جانب الفلاسفة اشتغل المتصوفة أيضا على الموسيقى بوصفها الطريق الأقرب إلى الله، على عكس ما نراه اليوم من بعض المتشددين الذين يرون فيها حراما لأنها تدفع إلى المجون، حسبما يرون. وقد كتب شمس الدين التبريزي، وهو المعلم المباشر لمولانا جلال الدين الرومي: «لا أظن أن الله منحنا الموسيقى – لا الموسيقى التي نصنعها بأصواتنا وآلاتنا حسب، بل الموسيقى التي تغلف كل أشكال الحياة، ثم حرّم علينا أن نسمعها. ألا يرون أن الطبيعة برمتها تغني؟ فكل شيء في هذا الكون يتحرّك بإيقاع: خفقات القلب، ورفرفة أجنحة الطير، هبوب الريح في ليلة عاصفة وطرقات الحداد وهو يطرق الحديد، أو الأصوات التي تغلف الجنين داخل الرحم.. كل شيء يشارك في انبعاثها، بحماسة وتلقائية، في نغم واحد رائع. وما رقصة الدراويش إلا حلقة في تلك السلسلة الدائمة. وكما يحمل ماء البحر في داخله المحيط برمته، فإن رقصتنا تعكس أسرار الكون وتغلفها».
وكان هذا الربط بين حركة الكون وأنغام الموسيقى ربطا توافق معه كل المتصوفة عبر الأزمان، فالموسيقى قادرة على تحريض الإنسان لإخراج الجانب الأكثر عمقا فيه، وهو الجانب الذي يرتبط بسؤال الوجود نفسه وسط هذا الكون. ولم يختلف مولانا الرومي عن معلمه أبدا، فقد رأى أن «الموسيقى غذاء كل المحبين» وكان من أسس «المولوية» أو رقص الدروايش، وهي الرقصة التي يعتبرها المتصوفة حالة عميقة من الوصول إلى الله عبر الحركات الإيقاعية والدوران، في طقس يوصف بالرقص الكوني، لأنها تدور في نقطة باحثة عن حالة اتصال عليا ومنفصلة عن الواقع الأرضي، ضمن هندسة دقيقة للدائر الدرويش، الذي يرتدي الملابس البيضاء ليرمز إلى الكفن، فيما يضع معطفا أسود يرمز إلى القبر، واقفا على بساط أحمر كإشارة إلى لون الشمس عند رحيلها في المغيب، وما أن يبدأ الدرويش بحركاته الدائرية ويقارب إحساسه بالانفصال عن الدنيا حتى يرمي معطفه الأسود كعلامة على وصوله إلى نقطة الخلاص من الدنيا والتطهر مما فيها.
وتندرج فلسفة الرومي ضمن نطاق واسع لكل ما يشمل الكون من خلال رقصة الدراويش هذه، حيث الرقصة في النهاية تمثل حركة الكواكب حول الأرض، وارتباطها بمفاهيم وقيم راسمة كل أشكال الحياة منذ الولادة إلى لحظة الموت وارتفاع الروح إلى الله، وتذهب أيضا إلى ما بعد الموت، حيث القيامة، ومفهوم الروح وقد وصلت إلى الله بعد أن تطهرت من الأرض.
هذه المفاهيم التي تدور في فلك صوفي فلسفي، أثرت على كل من جاء بعد الرومي من متصوفة، لذلك رفعوا مقام الموسيقى وجعلوها حافزا أساسا للوصول إلى نقطة التواصل، التي أرادوها منذ بدء البحث عن نقطة صغيرة في الأرض تكبر بدوران الدرويش وتتوسع إلى حلقات وحلقات حتى تصبح عالما متكاملا وغنيا بمطالب الروح بعد أن تتخلص من مطالب الجسد.
على الجانب الآخر أيضا، كان الارتباط الوثيق بين الفلاسفة الذين حدثوا وأثروا في مسار الفكر الفلسفي حتى اليوم من أمثال نيتشه وفاغنر الذي قارب الفلسفة بالموسيقى، وعلاقتهما معا أيضا، وارتباط الموسيقى الألمانية نفسها بخط الفلسفة العميق عبر روادها. وقد كانت لنيتشه نفسه محاولات عديدة للتأليف الموسيقي باءت كلها بالفشل وكانت سببا لغيرته من فاغنر، ومن ثم لمرارة أليمة أفصح عنها بكلماته حين كتب: «تَصوّروا أنه إلى حدّ الآن، منذ فترة شبابي الأولى، عشتُ على أكثر الأوهام جنونا، وتذوّقتُ كثيرا من الغبطة من موسيقاي، صَدّقوني إن موسيقاي الأخرى، هي أكثر إنسانية، أعذب وأنقى… أنتم قد أعنتموني كثيرا (هذا اعتراف أقوله بتألم كبير) مثل الأطفال الصغار الذين اقترفوا بعض الحماقة أقول لكم: «لن أفعلها أبدا». وبالفعل اقتنع نيتشه أن الموسيقى قد تكون محفزا فكريا كبيرا له لكنه لن يستطيع بعد الآن أن يفرض نفسه في عالمها كمؤلف موسيقي لامع.
لم تكن علاقة الموسيقى بالفلسفة والتصوف علاقة حصرية، بل امتدت هذه العلاقة لتبني وشائجها بين الموسيقى، وكل ما هو فكري أو محرض للعقل، وعلى عكس تعامل غالبية من الجمهور مع الموسيقى بوصفها أداة للترفيه، ووضعها في برامج وأطر ترفيهية، فإن الموسيقى كانت المحرض الأساسي في كل صنوف العلوم التي تعاملت مع العقل ومع الروح، فلا تخلو فلسفة روحية من الموسيقى لا كشيء ثانوي بل كأساس مثل اليوغا، مثالا لا حصرا، واكتملت العلاقة عندما وضعت أسس علم النفس الحديث التي وجدت في الموسيقى دواء للعديد من الأمراض النفسية سواء بالسماع لها أو بعزفها.

٭ موسيقي عراقي

العقل والموسيقى

نصير شمه

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *