السلام الموسيقي
[wpcc-script type=”feb5792995c65f6b6f8f3d77-text/javascript”]
ترتبط الموسيقى بالسلام ارتباطا وثيقا، فالباحث عن الموسيقى وصوتها كمن يبحث داخله عن السلام وصوته.
وللسلام صوت ككل الكائنات الجميلة، لكنه صوت لا يسمعه الخارج، بل يسمعه الشخص في داخله لأنه ينبع منه، والموسيقى أحد أقصر الطرق للوصول إلى الصفاء الذي يرسم معالم السلام. العالم اليوم يواجه حروبا شتى، قتالا داميا وعنفا، بعض هذا القتال يكون لأجل العيش، وبعضه لأجل امتلاك السيادة أو السيطرة، وبعضه سياسي لتحقيق أهداف لاإنسانية، وبعضه لزعزعة أمان الإنسان، ولست في صدد أسباب العنف ولا مسبباته، ولكنني أنظر دائما إلى الأجيال الجديدة التي تتربى على مشاهد العنف والقتل بوصفها أحداثا عادية تعتادها البراءة وتصبح كأنما هي بعض روتين الحياة. وتماما كما يتربى شخص على السلام يتربى آخر على العنف بوصفه الطريق الأقرب لنيل الحقوق، فيما يتبنى غيره السلام بوصفه سلما صاعدا لنيل الحق.
يلجأ المشتغلون باليوغا إلى الموسيقى لتهدئة النفس ورفعها إلى مراتب عليا من الصفاء، لأن الموسيقى بوسعها أن تبني حيّزا روحيا يستعيد عافية النفس من الخراب الخارجي، حتى أنها تشكّل رحلة عميقة في ممرات من ضوء داخلي يرى من خلاله الإنسان بعين ثالثة ما لا يراه في حالاته العادية، فهي تسحب البساط بسلاسة مما شاهده الإنسان في دورة حياته اليومية من دمار وموت وعنف، إن كان جسديا أو لفظيا، ولن ندخل في كيف تؤثر هذه المشاهد على الدمار الإنساني الداخلي، فكل منا باستطاعته أن يعرف أن مجرد مشاهداته حتى السريعة منها للأخبار اليومية أو لما تضعه الصحف في عناوينها الأبرز يشكل عبئا على النفس وضررا جسيما بها. الموسيقى رمز للسلام، ولو قيّض لي أن أكون من وضع رمز السلام الذي صاغته أصابع بيكاسو على شكل حمامة لكنت وضعت إحدى العلامات الموسيقية بوصفها الرمز الذي يشير إلى السلام، ولتكن علامة الري أو المي مثلا، أو مفتاح الصول نفسه، فالموسيقى من وجهة نظري الشخصية هي الرمز الذي يفكر به أي شخص حال تفكيره بالسلام.
كنت في إيطاليا أتابع بعض ورش العمل التي أقيمت لأجل بعض الشباب السوريين حول السلام، وهناك التقيت السيدة ليما غبوي التي نالت جائزة نوبل للسلام عام 2011 لعملها في وطنها ليبيريا أثناء الحرب الدامية التي حصدت الكثير من الأرواح خلال ثورة الشعب ضد الحكم، وقد تحدثت السيدة ليما عن الوسيلة التي اقترحتها آنذاك وبدأت في تنفيذها والتي أوصلت الشعب للإطاحة بالحكم بوسيلة سلمية، فقد بدأت بتجميع حلقات من النساء ينتمين إلى ديانات مختلفة، وبدأت تزرع في داخلهن روح السلم، وبعد أن بدأت الحلقات تنمو طرحت فكرة أن تمتنع النساء عن أزواجهن جسديا كعقاب لهم على الحرب، في البدء لم تكن الفكرة قابلة للتحقق، فكيف للنساء أن يوقفن الحرب بالامتناع عن أزواجهن؟ ولكن مع الوقت بدأ الرجال بالانسحاب من الحروب ورمي أسلحتهم حتى توقفت الحرب وعادت إلى مبتدأها ثورة شعب توجهت غالبيته إلى القصر الجمهوري معلنة العصيان، وانتصر الشعب وسقط الحكم، بالطبع واجه الحكم آنذاك الشعب بالرصاص، ومات العديد من الناس خلال توجههم للقصر، لكن ألا يموت الكثير منهم في الحروب أيضا، ألا تحصد الحرب من الأجساد أكثر مما يحصده السلم، فطريق الحرب طويل، وما ان يبدأ فإنه لن ينتهي أبدا، فالمقتول يسعى أهله للأخذ بثأره، فينمو جيل جديد على الانتقام، والانتقام لا ينتهي أبدا لأن حبله طويل وطول هذا الحبل قد لا ينتهي إلا عند حيّز انتهاء البشرية. قد تبدو فكرة الحائزة على نوبل للسلام فكرة خيالية غير قابلة للتحقق، ولكنها تحققت ونجحت وجعلت ليبيريا تتخطى الحروب والانتقام وتسعى إلى البناء، فيما لو تركت الأمور للحرب والقتل والعنف لاستمرت ليبيريا في حصد أرواح شعبها.
أفكار السلام قد تبدو أحيانا خيالية، لكن أغلب الحقائق في الحياة بدأت بالخيال. منذ أسبوعين ولمناسبة يوم السلام العالمي الذي أعلنته الأمم المتحدة يوما لوقف الحروب في العالم بدأت حملة كبيرة في العراق كنت قد مهدت لها عبر سنوات سابقة من خلال إطلاق حملات مختلفة، كانت الحملة بسيطة وجميلة، بدأها رياضيون من مختلف المناطق العراقية بالركض من محافظاتهم وهم يحملون شعلة رمزت للسلام، وكان اللقاء بينهم جميعا في بغداد وتحت نصب الشهيد الذي تحول إلى مهرجان محبة للوطن، وهناك أضاءوا معا شعلة السلام الكبيرة بشعلاتهم الصغيرة التي حملوها معهم، لم يكن هذا النشاط الوحيد، كانت هناك أنشطة كثيرة مختلفة تقام على مدى أيام كلها تحاول أن تزرع بذرة السلام في نفوس أدمتها الحروب المتتالية على بلد تبدد الأمان فيه وهرب الكثير من أهله بحثا عن حياة مطمئنة، وفي يوم السلام العالمي قدمت حفلا مع مجموعة موسيقية من موسيقيين عالميين لفرقة أسستها وحملت اسم «فرسان السلام»، وتوافد هؤلاء الفرسان إلى بغداد التي تئن تحت وطأة الموت والتفجيرات المتتالية التي لا تترك شيئا إلا وتستبيحه، وعلى خشبة المسرح الوطني أقمنا حفلا كبيرا حمل عنوان «قارات» وكان عنوانه الأكبر السلام.هذه الخطوة التي قد تبدو بداية لبلد تتالت عليه الحروب واستباحت دم أبنائه بلا تفرقة هي أول درجة في سلم طويل، ومع ذلك أثبتت لي هذه الخطوة أن الشعب العراقي شعب تواق للسلام، وأنه مستعد لبذل كل شيء لينعم أهله بالطمأنينة والأمان، فقد تضافر الجميع بلا استثناء لتبديد أي عراقيل واجهت المجموعة الجميلة التي عملت على تحقيق الفكرة، ونجحنا في أن نبني حيّزا آمنا وجميلا للسلام.
ومع السلام لن تكون هناك وقفة بل وقفات كثيرة لأنني أريد من هذا المنبر أن يكون درجة جميلة في درجات سلم السلام الموسيقي.
٭ موسيقي عراقي
نصير شمه