أبواب ومفاتيح
[wpcc-script type=”b47c40be4550216e16b6609b-text/javascript”]
منذ فترة انتهيت من تسجيل اسطوانة جديدة، تضم أعمالا مختلفة، أستطيع القول إنها مختلفة في الشكل والمضمون عن الأعمال التي ضمتها اسطواناتي السابقة، لكن بالطبع لا تشكل قطيعة مع الروح التي نسجت كل ما كتبته من تأليف موسيقي منذ بداياتي وحتى الآن، فالروح التي تقوم بعمل الأشياء لا تتغير، قد تنحرف في مسارها، أو تجرب طريقا جديدا، لكنها في النهاية تبقى على حالتها ولا تتغير، كما أنها لا تتقادم بفعل الزمن.
ما أن انتهيت من تسجيل الاسطوانة حتى وجدت أمامي السؤال الصعب، ما عنوانها؟ الآن مضى شهر كامل وأنا استبدل العناوين وأضع عنوانا في الليل واستبدله في النهار، حيرة العنوان ليست حيرة سهلة، فالعنوان مدخل ليس فقط لما تحتويه الاسطوانة، بل أيضا مدخل لقراءة الأعمال الموسيقية مجتمعة أو متفرقة، هي دليل المستمع لينحاز قلبه إلى اتجاه ما، وهي أيضا دليل الروح لصياغة اسم يجمع في كلمة أو كلمات بسيطة ما استهلك ربما زمنا طويلا لعمله.
قبل هذا، كنت ذات يوم أعزف في منزلي كعادتي دائما، عندما أتت ابنتي ليل وقالت لي: «بابا هذه اسمها «عالم بلا خوف»، هي عبرت عن العنوان بكلمات بسيطة بالإنكليزية، ولامسني العنوان فعلا، إذ أن إحساسها بالموسيقى لم يختلف عن إحساسي وأنا أؤلف المقطوعة الموسيقية، كان حلمها في عالم طفولي، ليس فيه محل للخوف أو الألم هو تعبيرها عن أمنية لا تجتمع معي فقط، بل تجتمع عند أغلب من يقطنون الكرة الأرضية، وبالفعل سميت المقطوعة بالعنوان الذي اختارته ابنتي.
منذ أيام قليلة قررت أن استعين بها أيضا في بحثي عن عنوان جديد، واستمعت ليل إلى المقطوعات كلها، وجلسنا جلسة عائلية حميمة تقرأ روح الموسيقى وتحاول أن تتحاور معها، ومع هذا لم نصل إلى عنوان، فلم تتشابه لحظة تأليف مقطوعة مع لحظة تأليف المقطوعة التي تجاورها.
حيرتي ما زالت تستبد بي، فالعنوان ليس مجرد مدخل، كما ذكرت، هو معرفة أيضا، وهو حصيلة تجارب وحياة، هو مفتاح وباب أيضا، ولكن هل يصح أن يتشارك أحد معنا في عنوان يصوغ مشاعرنا نحن؟ أقصد أن يشاركنا أحد في عنونة حالة تخصنا؟ هذا يحدث أحيانا، ففي حالات معينة قد يأتي العنوان قبل المقطوعة الموسيقية نفسها، بل يجر المقطوعة خلفه ويجمع حالتها كلها في كلماته، إذ يجلس المؤلف الموسيقي إلى آلته ليصوغ حالة معينة أو ليعبر عن لحظته التي يعرفها جيدا، كما يعرف عنوانها، لكن أحيانا كثيرة أيضا تخرج المقطوعة الموسيقية من حالة إحساس عميق ومع ذلك فهو احساس خفي، أو على الأقل غير مكشوف لصاحبه، قد يبدو مكشوفا للآخرين المحيطين به أو القريبين منه، كحالة قلق مثلا، قد يشعر بها من يرافقنا ومع هذا قد لا نجد نحن لها صفة القلق، لأننا لا ندرك أن كل ما نقوم به من حركات يدل على قلقنا.
وقد يقودنا نص ما نقرأه إلى عنوان يمثل حالتنا نحن في لحظة معينة، وقد يكون هذا العنوان هو الأكثر تمثيلا لحالتنا الشعورية التي لم نستطع نحن أن نضع لها اسما.
العناوين حيرة كبيرة، فأنت في لحظة واحدة وفي كلمة أو كلمات قليلة تريد أن تجمع تاريخا كاملا من المشاعر والأحاسيس والتبدلات، تريد كلمة تلخص كل شيء، وكل ما استهلك الكثير منك، كلمة أو ما لا يتجاوز الأربع كلمات، كمعدل طبيعي لعنوان، تلخص دربك الطويل، وفي الوقت نفسه تدل الآخرين إلى المسار الذي سيمشون فيه وهم يستمعون للحظتك.
المقطوعات الموسيقية ليست كلها متساوية عند المؤلف لحظة تأليفها، فمنها ما قد يكون لحظويا، أي وليد اللحظة حتى لو كانت هذه اللحظة مشبعة بتاريخك الشخصي، وأحيانا قد تكون عملا تراكميا ونتيجة لحصاد طويل من تجارب ومعرفة ومشاعر.
كما أن الأعمال التي توصف بأنها ابنة اللحظة بشكل كامل، ليست دائما أعمالا خالدة بمعنى البقاء، ومنها ما قد لا يعيش طويلا إن لم يكن مسنودا بزمن ينطوي على معرفة وخبرة. ومن تجاربي الشخصية فإن كثيرا من الأعمال التي وضعتها ضمن فكرة معينة، أي أنني بحثت عن القالب الذي يلخص فكرة عندي أريد بلورتها، أو عنوانا أريد المشاركة به ضمن حدث معين، أشعر بها ليست الأعمال التي أنتمي إليها بشكل كامل، وطبعا هذا ليس كلاما تعميميا، فهناك ما صغته ضمن عنوان وبناء على حدث أريد المشاركة به أو التعبير عن إحساسي به، ظل في داخلي كموسيقي يرسم مؤشرا عميقا عن علاقتي بالمقطوعة، وفي حالات أخرى ظلت مقطوعة ما بعيدة عني، ليس بالمعنى الكلي، بل بالمعنى العميق لمشاركة لحظة قد تكون لم تختمر بما يكفي في داخلي. فاختمار اللحظة حالة ضرورية للمؤلف الموسيقي، بل لأي مبدع بشكل عام، وبدون اختمار اللحظة قد يعكس العمل نفسه بشكل سطحي لا يلامس العميق والداخلي.
أختم إذن بحيرتي.. ما زلت أقلب العناوين، وما زلت في رحلة بحث عن كلمة تقول كل ما أردت قوله من كلام كثير، وكلمة واحدة تكفيني.. فإن كان لدى أحدكم طريق يشابهني فليأخذني معه أو ليدلني على طريقه لعلي أجد به طريقي.
٭ موسيقي عراقي
نصير شمه