عوالم الموسيقى
[wpcc-script type=”496df3da3e06b71448e4ec59-text/javascript”]
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الموسيقى وكيف من الممكن أن تصبح جدارا حاميا للعزلة، وفي الوقت نفسه قادرة على لم شمل هذه العزلة، بحيث تصبح مأهولة بأصدقاء جميلين نستحضرهم مع الموسيقى، وسأتابع اليوم حكاية هذا الجدار وكيف يصبح دربة للروح في مواجهة الحياة.
من تجربتي الشخصية وعندما أستغرق في الموسيقى لحظة وحدتي، أشعر دائما بأنني أبني منازل داخل روحي، منازل بوسعها أن تصبح لها حدائقها وشموسها وأقمارها وستائرها، البناء أحد افعال العزلة المصحوبة بالموسيقى، وفي البناء عالم رائع نبنيه وفق ما نريد، وعندما نجلب اليه الأهل أو الأصدقاء او الاحباء فإننا سنختار الاجمل من بينهم، لأن حضور الموسيقى يؤهل حضور الجمال ويؤخر حضور البشاعة، إن لم يقف في وجهها جدار ضخم بل سور لا يمكن اجتيازه.
تستطيع الموسيقى أن تبني عالما داخليا روحيا غنيا ونابضا بالحياة، بل تستطيع أن تختلق حياة موازية أكثر غنى من الحياة الواقعية، وهذا ما يؤكده علم النفس وجميع العلوم التي تهتم بالنواحي الروحية أو النفسية، أو حتى الجسدية. للإنسان أهميته في حياتنا اليومية، فالضغوط المستمرة من الحياة العجولة لا تضع أمامنا إلا خيارات الاستعجال والركض وبالتالي الضغط النفسي والتوتر، وكل هذا دواؤه البسيط يكون بالموسيقى.
عندما نضع أنفسنا داخل سُوَر الموسيقى وجدارها العازل فإننا لسنا في سجن أبدا، بل على العكس من هذا نحن في قلب الحياة الأكثر حياة، فلا موت داخل هذه العزلة، ولا نوافذ مغلقة بل إن كل شيء مفتوح إلى الهواء والشمس الخفيفة، وقد يجتمع الشمس والقمر والنجوم بل الكواكب كلها لتلتحم في حياة خاصة داخل هذا السور.
لكن ما الذي نستمع له في هذه العزلة، وكيف يمكننا أن نستقبل ما نريد لأرواحنا أن تستقبله في هذا الإطار؟ فنوع الموسيقى هو الذي سيحدد مسار وقتنا معها وعالمنا في حضورها، قد نختار أن يكون عالمنا راقصا، فتختار من الموسيقى إيقاعاتها البسيطة فنرقص ويرقص معنا من نريد ونقيم حفلا صغيرا، وعندما نخرج منه سنكون أكثر قدرة على حضور الحياة ومراقبتها بجمال. وقد نختار موسيقى تنقلنا إلى داخل أنفسنا بحركة هادئة فنجد أننا نبدأ في الاستغراق فلا نعود نرى في عزلتنا غير عوالم داخلية غنية، وقد لا نستحضر إلى هذه العزلة أحدا ونكتفي بما تقوده إلينا الموسيقى فنرتفع إلى سموات لم نعتقد بوجودها من قبل.
منذ حضارة بابل كان الملك يتخذ قراراته المصيرية وهو يستمع للموسيقى متأملا وداخلا في عوالمها، فقد كان الملك يأمر بحضور عازف العود، وكان كاهنا وهو الأعلى مرتبة بين بقية حاشية الملك، ومع عازف العود كان يأتي عازف الناي وعازف الدف، ويبدأون بالعزف ويبدأ الملك في الاستغراق والتفكير بقراره، فقد كانت الموسيقى تساعده على التركيز بصفاء، والأهم ربما أن عالمها الجميل سيدفعه إلى العدل بقراراته، بل والرأفة، فعالم الموسيقى يدفعنا إلى الاعتزاز بالجمال.
مضى زمن طويل منذ حضارة بابل وما سبقها وما تبعها، واختفت أشياء كثيرة من حياتهم عن حياتنا اليوم، وتغير الكثير، لكن الموسيقى ظلت بلا منازع صوت العزلة الأجمل، وساعدتنا التقنيات الحديثة على الاستغراق أكثر في العزلة بلا وجود موسيقيين يعزفون، ولا انتظار حضورهم، إذ يكفي أن نضغط على زر صغير لتملأ الموسيقى الأمكنة.
كنت دائما أفكر في الماضي الذي حرم الإنسان من متعة أن يكون مع الموسيقى وقت ما يشاء، فمن الناس من عاشوا بلا قدرة على العزف أو استحضار العازفين، وكنت أتساءل كيف كانت تبدو حيواتهم، هل كانوا يكتفون بتلك الموسيقى التي يصدرها الشجر بينما يمر الهواء بين أوراقه، أم بصوت البحر الذي يبدو احيانا مخيفا؟
منحتنا التقنيات الحديثة العديد من الأشياء والاختراعات التي جعلت حياتنا أسهل، وصار بوسعنا أن نستمع مثلا إلى الموسيقى ونحن في الشارع أو بينما نتمشى داخل حديقة عبر سماعات وتسجيلات، أو أن نستمع لإذاعة ما تبث الموسيقى فنتعرف إلى الجديد منها دائما، وصار بإمكاننا أن ننتقي الموسيقى الأقرب لنا فنجمعها على جهاز «أي باد» صغير ونتنقل به حيث نشاء.
الموسيقى ليست رفاهية أبدا، ولا شيئا تستغني عنه الحياة أبدا، هي حاجة فعلية لمقاومة الحياة والاستعداد لها بطريقة غنية.
موسيقي عراقي
نصير شمه