صباح فخري… ياسمينة الشام
[wpcc-script type=”17a1c8221adb9bfe3a1b0149-text/javascript”]
حالة متفردة في الغناء العربي بحضورها وخصوصيتها وتألقها، ظاهرة خاصة استطاعت أن تحقق حضورها الفاعل والمتألق المختلف لأكثر من نصف قرن.
مطرب لا نستطيع أن نمنحه لقب مطرب ونتوقف، فحضوره أكبر من نقطة، كما أكبر من أي فاصلة. صباح فخري، الاسم الذي نُقش في عالم الأغنية ليشكل مسارا خاصا، وأسلوبية لا تتكرر، حتى عندما تكرر نفسها، تقفز من قلب دائرة التكرار لتبني من داخل أسلوبيتها منحى جديدا. عذوبة الدرجات الصوتية في حنجرته جعلت المتلقي في كل أرجاء العالم العربي يصاب بالذهول، حنجرة مطواعة تتلاعب «بشقاوة» سليمة الأبعاد موسيقيا وروحيا أيضا، لدرجة أنها لا تعرف سوى أن تكون في أقصى مناطق الطرب للروح والعقل والقلب، أما عن المساحة الصوتية لحنجرته في مرحلة تألق صوته فقد كانت تقارب الاوكتافين ونصف الأوكتاف، والأوكتاف ثماني درجات وكل درجات حنجرته سليمة لم تعرف الضعف.
أعطى للقدود الحلبية وهجاً وبريقاً من الصعب أن يخفت حتى بعد مرور سنين من توقفه عن الغناء، علماً بأن هناك العشرات من الأصوات المهمة التي جايلته أو سبقته أو ظهرت على منواله، ومع ذلك لم تتمكن من زحزحة مكانته قيد أنملة.
إن حالة الكبير صباح فخري تشبه إلى حد كبير حالة إضافة الحياة للمقام العراقي من قبل الراحل ناظم الغزالي، وربما تتلاقيان في بعض المراحل.
صباح فخري يشكل دهشة لمن حضر حفلاته كونه يتصرف باحتراف، وفي الوقت نفسه بحميمية وطفولة ساحرة، خصوصا عندما يشعر بأن الجمهور قريب منه، لذلك تمتد حفلاته أحياناً لأرقام قياسية في الزمن، وفي عدم تكرار القفلات أو الجمل الموسيقية أو الكلمات بطريقة غير مسبوقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر في جملته الشهيرة «ردي عليّ» نجده يلّون عشرات المرات متنقلا بين طبقات صوتية مختلفة، كأنما به يبلغ حالة انتشاء روحي، وكذلك جمهوره لا يمل أبدا التكرار، بل كان يصعد بمعيّة صباح فخري إلى قمم عالية من نشوة روحية تقف في المنتصف بين حالة من التصوف وحالة من الطيران داخل اللحظة والجملة.
صباح فخري الملوّن بطاقات ممنوحة له من درجات السلم الموسيقي يبدو وكأنه هو نفسه حالة قوس قزح يظهر في السماء بعد يوم كثيف المطر لينشر ألوانه ويصيب الناظر بدهشة اللوحة.
يشكل صباح فخري مع صوته حالة متكاملة من غناء كامل يقود المستمع إلى طلب المزيد والمزيد، لا يريد الجمهور مغادرة المسرح أو الخروج منه، ولا يريد الفنان أن يختم، فهو يبادل الجمهور حالة بحالة، كأنما يوقع عقدا مستديما بينه وبين من يستمع له، وكان لي حسن الحظ أن أحضر بعضاً من تلك الليالي الساحرة في دول عربية وغربية، أن ارى طفولته وهي تخرج من حركات جسده وأصابعه عندما يدور ويدور، وهو واقف في مكانه كأنما يفلت العالم كله بين أصابعه كلعبة «البلبل» التي كنّا نلعبها في طفولتنا.
جاء من حلب، وأي حلب هذه، حلب الحضارة العريقة، والروح الآسرة بتاريخها الذي ينبض من جدرانها، وعندما غنى لم يبتعد عن نبض الجدران، وصار اسمه لصيقا بحلب كما لم يلتصق اسم باسم. غنى حلب حتى عندما لم يُسمها، فقد حضرت عراقة المدينة بعراقة الصوت، وبالحدود البديعة. مر زمن الآن، وصباح فخري بالتأكيد يبكي الشوارع التي حفر فيها اسمه، ويبكي الجدران التي سطر عليها تاريخه، حلب العريقة التي يُتنازع الآن عليها، حلب الشهداء والموت اليومي المسجل في شوارع من رعب. ومع هذا، ما زال صوت صباح فخري يشق سكون البيوت ذات غفلة عن أصوات المدافع، كما يتردد في كل مكان من العالم ناقلا معه حضارة شعب فنان.
يعيش اليوم فناننا الكبير في قلوب الملايين، لم يبتعد كثيراً عن الشام حبيبة كل من زارها، اختار أن يكون في بيروت التي سجلت معه قصص الحب والطرب اللامتناهي، المدينة التي أحبها اختارها واختارته، والتي يشعر فيها بمكانته الحقيقية. مدرسة صباح فخري ستتواصل كمعمار حلب الذي وإن تهدم جزء كبير منه لا يمكن محوه، كنتُ كلما أزور حلب أسمع أصواتاً جميلة جداً تنتمي برغبتها لمسار أحدثه صباح فخري، وأحياناً يحاول الكثير من أصحاب الأصوات الجميلة أن يصنعوا طريقهم بنصوص وألحان جديدة، وما أن تسمعهم حتى تشعر بأن سلطة صباح فخري واضحة، كما حصل في تجربة وتأثير الشاعر الصديق الراحل محمود درويش على جيل كامل من الشعراء. نحتفي بالفنان على قدر ما منحنا من سعادة، ولكن هل حقاً بإمكاننا أن نسعده كما كنّا نحلق بفضاء جمال روحه؟
إن ما حققه صباح فخري بطريقة أدائه عبر عقود ماضية يُعد أعلى سقف حققه مطرب بنوع من الغناء كهذا الذي يعتمد على حنجرة مدربة ومصقولة وعذبة، من دون أن يظهر في حالة ضعف مطلقاً، كما حصل للعديد من الكبار، وأيضاً رفع مستوى المنافسة بنوعية غناء راق وقوي وحساس ومتدفق، أي يشعر المستمع أن النغمات تفيض من حنجرته، من دون عناء أو تقلصات للحنجرة أو وهن، من كل هذا تحقق مشوار مبدع استثنائي استطاع أن يزرع فنون بلده الأصيلة في كل سمع، إنه من القلة النادرة من الفنانين الذين يرسم جغرافيا بلده في عيون وقلوب محبيه من المشرق إلى المغرب.
كاتب عراقي
نصير شمه