ثقافة الألم والمعاناة
[wpcc-script type=”3434c6c5c9e23485d6b3416f-text/javascript”]
دائما نتوقع من الموسيقي أن يكتب عن الموسيقى، ومن الشاعر أن يكتب عن الشعر، ومن السياسي أن يكتب عن السياسة، وهكذا..
أحيانا يصدمنا الشعراء عندما يتلبسون دور السياسيين، وقد لا نتقبلهم، وأحيانا يصدمنا فنان تشكيلي وهو يتحدث عن الوضع الاقتصادي لبلد ما.
من حسنات الربيع العربي وسيئاته أيضا، أنه جعل الجميع يتحدث في أغلب المواضيع حتى تلك التي لم يقترب منها قبلا. في الموسيقى والغناء بشكل خاص ظهرت مجموعات أو أفراد يغنون بطرق مختلفة، تعبيرا عن الأوضاع المأساوية التي يمر بها العالم العربي، فمن أغنية انتقادية ساخرة، إلى أغنية مباشرة، إلى أغنية مؤلمة تُبكي حتى الحجر، إلى أخرى تستنهض الهمم، أو تؤكد على قيم أصبحت شبه غائبة، غالبية الأغاني التي استمعت إليها خلال السنوات المنصرمة كانت لأصوات أسمعها لأول مرة، وأحيانا لملحنين شباب يخوضون تجاربهم الأولى. وتنوعت التجارب ما بين غناء تقليدي إلى غناء حداثي وما بعد حداثي أحيانا، وسادت تجارب شبابية قدمت مزجا بين أساليب موسيقية متنوعة كالجاز والراب وغير ذلك. التعبير عن الألم العميق في النفس كان نقطة التقاء هؤلاء جميعا، سواء أكانت الأغنية من العراق أو من سوريا أو من ليبيا أو من مصر أو من تونس أو غيرها من بلدان الربيع العربي، الألم جسده جيل شاب، وجد فرصته أيضا في التعبير، خصوصا في البلاد التي واجهت الحروب، حيث وجد عدد كبير من الشباب أن وسيلتهم لإعلان مواقفهم لا علاقة لها بالحرب الدائرة ولا بحمل السلاح، فانحازوا إلى أساليب أخرى، منها الأغنية أو الشعر أو السينما أو الفنون التشكيلية بكل أنواعها. ومثلما انتشرت عدوى الربيع العربي، انتشرت عدوى الثقافة التي خلقها هذا الربيع، هي ثقافة مغايرة بالتأكيد، سيفرزها الزمن لاحقا، أما الآن فهي ثقافة الجرح العميق، وثقافة الألم والمعاناة والوجع.
أتاحت لي الفرص أن استمع إلى عدد كبير من الأغنيات الشبابية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، وتشكلت لي صورة عن شباب مثقف ومتمرد عبّر عن تمرده ورفضه وكل ما يموج به من أحاسيس ومشاعر وأفكار عبر الموسيقى.
وقد لفتتني تجارب عديدة، ووصلت لقناعة أن ثورات الربيع العربي لم تكن فقط ثورات ضد الفساد أو الديكتاتورية أو الانتهاك، بل أيضا كانت ضد السائد والراسخ، كانت ثورات على الشكل المستبد الجامد المقولب، وجاء التعبير ليقفز إلى مناطق بعيدة، وعلى الرغم من أن بعض التجارب ما تزال طرية، أو لنقل أنها ما تزال تخطو بارتباك خطواتها الأولى، إلا أنها عبرت جميعها عن الرفض، فمن رفض الديكتاتوريات إلى رفض التقاليد، أو الأنماط إلى رفض لأشياء مختلفة يصعب حصرها، جاءت أيضا هذه التجارب لترفض وتسجل قطيعة أحيانا مع ما اعتادته الأذن العربية.
جيل جديد تفتحت مشاعره خلال الثورة أو قبلها بقليل، يحلم فيجد من يحاصر أحلامه، يحاول فيجد في طريقه من يجهض محاولاته، كلما همّ بالنهوض تكالبت ضده الظروف، فمن موت ودم إلى تشرد وبؤس إلى حلم يجب أن يستمر لأنه حلم حقيقي.
شباب لم يكن مشاهدا للدم من بعيد، بل الأسوأ أنه ملامس له، عاش تفاصيله المرعبة، وعاش فساد الواقع، وخرج ليعلن رفضه لكل شيء، ابتداء من الأهل الذين رضوا لسنوات طويلة عيشة الخنوع، إلى كل ما حوله، هذا الرفض تحول إلى ظاهرة في الموسيقى، واستطاع أن يشكل موجة جديدة لم تكتمل معالمها بعد، لكنها بدأت بالتبلور إلى حدّ ما.
خرجت الأغنية من عباءة الحبيب إلى الوطن الحبيب، أو الوطن الجريح، وحلّت السخرية مكان البكاء أحيانا، واختلط الحنين عند من هاجروا باكتشاف مناطق جديدة وموسيقى جديدة.
وكما اندلعت ثورات الربيع العربي بالصوت، تبعثر أيضا هذا الصوت، وصار بإمكان الدارس أن ينتبه إلى أن الهجرات والهروب الجماعي، خصوصا للشباب الرافض لحل الدم والسلاح، خلقت أيضا أنماطا مختلفة من الموسيقى، بل استقت أيضا من موسيقى دول الهجرات وبدأت تعكس ألوانا جديدة من غناء يقدم تراثه، في محاولة للتأكيد على هويته خصوصا في أوروبا، وفي الوقت نفسه يشكل قطيعة قوية مع هذا التراث، من خلال خلق مونولوج موسيقي غنائي كأنما هو تعبير حقيقي عن مونولوج داخلي في مكان جديد وغريب، يحاول فيه المرء أن يعلن وجوده بطريقة مغايرة، ليست كتلك الصورة النمطية الراسخة في أذهان الغرب، بل أيضا ليست منصهرة بهذا الغرب، هي حوارية جديدة تؤكد على الهوية وتستعيدها في مكان بعيد بروح حداثوية تستقي أيضا من المكان الجديد.
هذه الظاهرة تستحق الوقوف عندها، لأنها على ما يبدو ستضع بصمتها في مستقبل أغنيتنا، خصوصا أن غالبية كبيرة من الشباب المثقف والمحب للموسيقى والغناء أصبح الآن خارج أوطانه في رحلة قد تطول، مع ألم يجمع بين الم الارض الأم، والألم الشخصي في مكان مغاير وجديد. وكما يتأقلم البشر مع الأمكنة الجديدة، تتأقلم فنونهم أيضا لتشكل مسارا جديدا.
على ما يبدو أن الأحداث في المناطق الساخنة ستبقى لا تمنح الفنان فرصة للتأمل، بل تأخذه بتواصل لملاحقتها والتعبير عنها، ليبقى الفن العميق متواريا إلى حين ظروف مستقرة.
موسيقي عراقي
نصير شمه