عريب… شادية البلاط الملكي
[wpcc-script type=”417b50d7143b030a871148a8-text/javascript”]
كان للمرأة في تاريخ العرب دور كبير في حركة الغناء والأدب ومجالات مختلفة في المجتمع، وقد تركت لنا كتب التراث إرثا كبيرا لمغنيات وشاعرات وعازفات وراقصات برعن في مجالات شتى، والغريب أن الجواري كان لهن حظ أكثر وفرة في تلقي العلوم المختلفة من بنات الذوات والعوائل العريقة، وأتوقف هنا قليلا عند عريب المأمونية إحدى الفتيات اللواتي امتلكن الموهبة والإبداع والتي قال فيها الأستاذ البارع والذائع الصيت في تاريخ الموسيقى إسحاق الموصلي: ما رأيت امرأة قط أحسن وجهاً وأدباً وغناءً وضرباً ولعباً بالشطرنج والنرد من عريب، وما تشاء أن تجد خصلة حسنة طريفة في امرأة إلا وجدتها فيها.
ولدت عريب سنة 181 هجرية، وبلغت غاية في الرفعة والمجد والشهرة لم تصل لها جارية قبلها، على الرغم من صعوبة طفولتها وتعاستها، وصلت إلى أن يتنافس على الاحتفاظ بها الملوك والأمراء ودفع أثمان باهظة لشرائها، كانت تلقب وتوصف «شادية البلاط الملكي».
كانت أمها فاطمة ذات حسن وبهاء يسلب القلوب وكان سيدها يحيى البرمكي، ولما شاهدها جعفر بن يحيى طار صوابه وتعلق قلبه بها وأرادها فتمنعت، وزاد جنونه وهيامه بها، لكن فاطمة الصغيرة الجميلة شعرت بالخوف كونها تعرف مكانتها في البيت الكبير، واستعصت عليه خوفاً على مصيرها وغضب سيدها، لكن التمنع زاد جعفر تعلقاً بها، فطلب من السيدة أم عبد الله سيدة أمرها يدها، فوافقت وتزوجها فولدت عريب، لكن يحيى البرمكي لم يعترف بالزواج وانتقامه كان كبيراً من ولده ومن فاطمة، لتجاوزهما الخطوط الحمراء في زواج غير متكافئ، ثم عذبها إلى أن ماتت، حينها بدأت رحلة جديدة مليئة بالمفاجآت لأجمل الفتيات عريب.
حملها أبوها سراً إلى سيدة نصرانية، أصبحت مربيتها، وبقي يتحمل نفقتها إلى أن حدثت واقعة مذبحة البرامكة، ومات يحيى وبقيت الطفلة بلا معين، ما اضطر السيدة لبيع الطفلة إلى رجل اسمه سنبس، والأخير باعها إلى المراكبي الذي سافر بها إلى البصرة، وكانت البصرة آنذاك تضم خيرة العلماء في النحو والشعر والعلوم والغناء والخط، وكان كل هؤلاء أساتذتها في سابقة لم تتوفر إلا لقلة من نظيراتها، وسرعان ما برزت في كل تلك الفنون والعلوم، بل وبرعت في معظمها، ثم أصبح معجبوها في كل مكان يتداولون أخبارها ووصل خبرها إلى الخليفة الأمين، الذي أشتراها فور سماعها، وحين قُتِل عادت لمولاها المعروف بالمراكبي، ورحب بعودتها إلى أن طلبها الخليفة المأمون بخمسين ألف درهم، وما أن التقت عيناها بعيني الخليفة حتى أغرما ببعضهما، كان المأمون أكثر الخلفاء علماً وأدباً وفقهاً وثقافة، ونسي كل ذلك الوقار والجاه أمام الفن والجمال ونزل أمام عدد من ضيوفه، وهي تغني ليقبّل قدميها وكان غراماً جميلاً على أثره لقبت بعريب المأمونية، نسبة للخليفة المأمون.
وحين توفي المأمون طلبها واشتراها الخليفة المعتصم بمئة ألف درهم وهكذا كان، كل خليفة جاء بعده وصولاً إلى الخليفة المعتز.
هذا يعني أن كل الخلفاء كانوا على مستوى ذوق عال كونهم أجتمعوا في الرغبة على امتلاك عريب والحرص على منحها امتيازات ومكانة وحضورا لم تحصل عليها غيرها من المطربات.
ما يميّز عريب إتقانها العزف على العود ببراعة، يقول الأصفهاني في كتابه «الأغاني»، «كانت عريب مغنية محسنة، وشاعرة صالحة للشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية الحسن والجمال والظرف، وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب، وليس لها نظير».
ومثل كل المواهب الكبيرة تظهر موهبة عريب في سن مبكّر حين كانت ابنة أربعة عشر عاماً، حيث بدأت بصياغة أفكار غنائية، وقامت بتلحين عدد لا بأس به من الألحان وكانت تسمى (أصوات) وتوصف كل تلك الألحان بالبديعة، وقام علي بن يحيى بجمع ألف أغنية من أغانيها، ولها ما يقارب الألف ومئة وخمسة وعشرين صوتاً فيها من الجودة وأحكام الصنعة والإحساس الفني العميق الكثير، وظلت ألحانها يتناقلها المغنون بحب واهتمام وتقدير، وبقيت لمستها واضحة على جيل من الأصوات، وكانت تنافس الخليفة الواثق الذي يُعد أول خليفة مارس الموسيقى والتلحين بشكل علمي، وحين ينتهي من تلحين بيت من الشعر ويعجبه يطلب من عريب سماعه وتعيد تلحين البيت نفسه بتمكن أكبر في الصنعة والأداء والإتقان وسرعان ما ينتشر لحنها، ومن أشهر ما ذاع صيته من الأصوات التي عارضته فيها كان: لم آت عامدة ذنباً إليك بلى أقر بالذنب فأعف اليوم عن زللي فالصفح من سيد أولى لمعتذر وقاك ربك يوم الخوف والوجل .
وحين شاهد الخليفة المتوكل جارية له قد نقشت اسمه على خدها فأعجبه الأمر وطلب أن ينشد الحدث نظماً ملحناً فانطلقت شاعرة القصر عريب تغني بصحبة عودها، لئن أودعت خطاً من المسك خدها فقد أودعت قلبي من الوجد أسطرا.
منحت المبدعة الشاملة عريب الأذن التي كانت محظوظة بسماعها ذوقاً رفيعاً في الغناء والشعر والتلحين، يُعد درراً نفيسة في سجل موسيقانا، ويظهر مكانة المرأة المتعلمة والمثقفة والمبدعة كيف تصبح محل تنافس، والتقرّب اليها لتلك الصفات التي تبقى محط أعجاب الناس في كل زمان ومكان.
وقفتي هذه مع عريب ستتلوها وقفات كثيرة مع نساء تميزن في الذوق والإبداع وصنعن بأسمائهن تاريخا احتفظت به الكتب.
وقد آسرتني شخصيا سيرتها كمبدعة ودفعتني لأبدأ بحثا يتناول دور المرأة في الإبداع عموما وفي الموسيقى على وجه الخصوص.
هذه سيرة مبدعة وجدت أنه من الضروري أن أتوقف عند سيرتها لانتباهي إلى أن غالبية من القرّاء غابت عنهم سيرتها وإبداعها.
موسيقي عراقي
نصير شمه