دور العود في تطور مسيرة الموسيقى الشرقية
[wpcc-script type=”ca742cd1bf658d5e677ac96c-text/javascript”]
مالئ الدنيا وشاغل الناس
آلة منحنية مثل حضن أراد علماء وموسيقيون كبار أن يبلغوا الكمال من خلالها، وبعضهم استطاع فعلا أن يحقق الكثير من خلال هذا الصندوق الخشبي المعتّق الذي يحتوي أسرار الشرق وأسرار الإنسان القديم.
هذه الآلة التي لا يتجاوز زندها 19 سم أو 21 سم استطاعت أن تظهر أساليب متعددة على هذه المساحة الضيقة، وأن تخلق مساحات عزفية تتنوع من بغداد إلى اسطنبول إلى مصر والمغرب العربي إلى إيران وأذربيجان, وكل ينطق بلهجته من هذه المساحة التي تتسع رغم ضيقها لكل مشاعر الإنسان وما يستطيع أن يلتقطه من تأثيرات الطبيعة والآخر عليه. العود ليس أوتارا وخشبا فحسب، هو تاريخ من العشق ومن الحكايا والجمال الذي لا يبوح بسره إلا لمن يتمكن من اقتياده وإجباره على البوح، لذلك يمضي العازف معه عمرا كاملا وقد يتحقق له التميّز أو لا يتحقق.
العود تاريخ وحضارة
عُرفت آلة العود في الحضارات القديمة وأولها بابل وآشور في العصر الأكدي في عصر أرجعه الباحثون إلى 2500 قبل الميلاد. وقد كانت الأبحاث التي نشرت حول موطن العود الأول وتاريخه كثيرة جدا، وهناك من ذكر في أبحاثه أن العود سومري، وآخرون ذكروا أنه تركي وغيرهم أرجعه لقدماء المصريين وباحثون رأوا أن أصله تركي وآري. فيما رأى الباحث الموسيقي العراقي الدكتور صبحي أنور رشيد أن الباحثين الأوروبيين اهتموا بتاريخ العود وأصله كثيرا، ويرجع هذا حسب رأي رشيد إلى أن هورنبوستل وكورت زاكس اللذين عملا على تصنيف الآلات الموسيقية علميا، اتفقا على أن أغلب الآلات الموسيقية تدخل تحت آلة العود، سواء كان العزف يتم بريشة أو بواسطة القوس مثل، الكمان. ويرى رشيد أيضا أن أقدم ظهور لآلة العود كان في بلاد ما بين النهرين، وذلك في العصر الأكدي 2300- 2170 قبل الميلاد، وعُرف العود في بلاد الشام في القرن الثامن عشر قبل الميلاد ومنها دخل مصر في القرن السادس عشر قبل الميلاد.
وكان العود أول الآلات الوترية التي عرفتها الحضارات المتتابعة، واستمرت هذه الآلة بالتنقل بين مختلف الحضارات وفقا لقياسات ودساتين ورقبات وأوتار مختلفة.
وكان لهذه الآلة نصيبها الكبير في الحضور في المجالس الدينية التي اعتبرتها آلة جليلة
تستطيع أن تضفي أجواء من القدسية على الفعل العبادي الديني.
في ما بعد وعبر رحلة طويلة تطورت آلة العود وأنتقلت إلى الفراعنة والفرس ومن ثم الأتراك ولغاية اليوم فإن العود في حالة تطور مستمر على صعيد الشكل والتقنيات والمساحات الصوتية. وقد وضع كبار فلاسفة العرب والفرس نظرياتهم الموسيقية قياسا بالعود، الذي كان ملازما للحكماء والفلاسفة، إذ كانت الحضارات القديمة ترفض أن يكتمل عالم ويحصل على لقبه من غير أن يتم دروس العلوم الموسيقية، وكان العود هو الآلة الموسيقية التي وضع من خلالها عدد كبير من الفلاسفة والحكماء نظرياتهم مثل الفارابي والكندي والأرموي وابن سينا وغيرهم.
في العصور اللاحقة كان للعود الدور الأساس في المجالس الاجتماعية والدينية والثقافية، ثم أصبح مجالا للتنافس بين الجواري في عصور الخلفاء الإسلاميين، حيث كان على الجارية أن يكون صوتها وأداؤها للغناء حسنا، بالإضافة طبعا إلى إتقانها العزف على العود.
واستمر العود ليكون الحاضر الأول في المجالس الكبرى، وفي كل تخت موسيقي شرقي، ولينتقل من بيت إلى آخر، ثم جاء زرياب الذي نشأ في بغداد ليضيف إلى العود وترا ويصنع مسارا جديدا له، واستطاع زرياب من خلال إتقانه العزف على آلة العود أن يكون سببا في معرفة الموشح واختراعه؛ والمعروف أن الموشح جاء رغبة في التفلت من قيود الأوزان الشعرية التي كانت سائدة آنذاك، كما أن زرياب وضع الكثير من المقامات الموسيقية التي لم تكن معروفة، بالإضافة إلى أنه افتتح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر, وكان أول من وضع أسس مدرسة تعليمية للغناء من خلال وضعه للقواعد التي تحكم الغناء للمبتدئين، ومن ثم أسس مدرسة لتعليم الموسيقى والغناء في الأندلس ولغاية اليوم أيضا تجري محاولات مستمرة للتحسين في صناعة العود وأدائه.
وكان زرياب في عصره من ألمع الذين عزفوا على العود فأطربوا الأذن شدوا وعزفا، وقد اعتبر إمام الغناء العربي وسمته المراجع الموسيقية بزرياب العظيم.
لن نتوقف طويلا عند تاريخ هذه الآلة العريقة، بل سنحاول من خلال هذه الدراسة الوقوف على المحطات المهمة في الدور الذي لعبته هذه الآلة في تطور الموسيقى الشرقية.
العود هوية الشرق
عندما كان المستشرقون يقومون بزيارة العالم العربي فإن أول ما كانوا يريدون أن يتعرفوا عليه هو آلة العود, وهكذا نقلوا في لوحاتهم الاستشراقية دائما جواري وغلمانا يعزفون على هذه الآلة، وأصبح العود رمزا ملازما لعالم الشرق، فبمجرد حضوره في لوحة ما كان يشير إلى الشرق بمباهجه وفتنته، كما رسمه الفنانون المستشرقون, وكان هذا قبل أن ينتقل العود إلى أوروبا ليصبح مختلفا إلى حد ما وليسمى اللوت، مع بعض الاختلافات التي اضيفت إليه (وليس المقصود الإضافات التحسينية، إنما الاختلافات في الشكل وعدد الأوتار وطول الزند والرقبة) ثم كان الغيتار الذي هو من عائلة العود، ويعتبر الغيتار آلة مميزة للثقافة الموسيقية الغربية الحديثة.
وكبرت عائلة العود، الذي ظل يرفض أن يتزاوج، وعلى الرغم من هذا أنجب عائلة كبيرة لم يصبح أبدا جدها الهرم، بل ظلّ جدها الأكثر شبابا بفضل العمل على تطويره المستمر، هكذا جاء الغيتار والبزق والمندولين ..الخ. وهناك من يعدّ أصل الآلات الوترية كلها آلة العود، خصوصا بعض الباحثين الأوروبيين.
ولأن آلة العود سهلة الحمل، ويسهل معها التنقل من مكان إلى آخر، فقد أسهمت من خلال العازفين عليها في انتشار الغناء العربي في أماكن كثيرة من العالم، ويكفي أن نتأمل موسيقى التروبادور في فرنسا حتى نكتشف اتصالها الواضح وتأثرها بالموسيقى الشرقية والعربية، وقد أثبت أكثر من باحث مثل علي بالشوك تأثر موسيقى الفلامنغو بالموسيقى العربية، وقد كان للاحتلال العثماني في العالم العربي الأثر الأكبر في ترويج الموسيقى العربية، لأن الأتراك بروحهم كانوا يحبون الموسيقى والغناء عامة وكانوا يحتفظون ببيوتهم دائما بالمغنين والجواري الذين يحسنون الغناء، وكانت النظريات الموسيقية المطبقة عند العثمانيين هي نفسها النظريات الموسيقية التي يستند إليها العرب.
كما أن الترجمات الاستشراقية التي قام بها مستشرقون كثيرون تأثروا بالحضارة العربية وأحبوها مثل، ترجمات كتب الفيلسوف الفارابي، أسهمت في انتشار الموسيقى العربية وأسسها ومدارسها، وكانت الكثير من الكتب التي تعنى بالموسيقى تنظيرا وفلسفة قد ترجمت إلى اللغة اللاتينية قبل ترجمتها إلى لغات كثيرة في ما بعد.
وإن كان تطور آلة العود في البدايات جاء على يد مفكرين وفلاسفة، فإن التطور اللاحق سحب هذه المهمة من تحت أقدام المفكرين، الذين أصبحت قلة منهم فقط تهتم بالموسيقى وتدرسها كعلم ملازم لثقافتها المعرفية، وهكذا كان دور التطور الجديد مناطا بالعازفين وصنّاع العود المميزين، ولم تعد صفة العالم الشمولي هي التي تطّور، بل صار التطوير أداة مستحبة ورغبة دائمة عند أجيال متعاقبة من العازفين.
وإن كان الغرب قد وضع الكمان والغيتار والبيانو في مكان متقدم من تطور الموسيقى الغربية، فإن الشرق وضع العود محل اختلافات كثيرة، وربما لم يختلف على آلة في تاريخ الموسيقى مثلما اختلف على تاريخ آلة العود وشكل تطورها، ومن الذي أدخل التحسينات عليها، وفي هذا السياق نجد أننا حتى اليوم ما زلنا في سجالات موسيقية حول التطويرات التي دخلت على هذه الآلة.
ويمكن القول إن العود كان وما زال الآلة الأكثر حضورا في الشكل الموسيقي الشرقي، خصوصا أنه حمل مفردات وأشكال الموسيقى الشرقية. في تاريخنا الأجد أبدع الموسيقيون والملحنون الذين استطاعوا أن يتركوا بصماتهم المهمة في تطور الموسيقى الشرقية عبر آلة العود، فكان القصبجي، محمد عبد الوهاب، السنباطي، زكريا أحمد وسيد مكاوي وغيرهم الكثير ممن وضعوا أعذب الألحان وصاغوا أجمل الجمل اللحنية عبر العود، وهكذا نلاحظ عازفي العود، ثم جاء دور العود ليصبح السيد بمفرده، وهذا تطور مهم على صعيد الموسيقى الشرقية، إذ انتقل من مرحلة التطريب وإن لم يتخل عنها إلى مرحلة التأمل، ثم التصوير، وليصبح أيضا أداة قائمة بمفردها بعيدا عن جلسات الغناء، فوقف العود وحده مع مجموعة من الموسيقيين المتميزين مثل، الشريف محيي الدين وجميل بشير ومنير بشير، ومن ثم جيل تبعهما ليصبح عزفا منفردا تقام له حفلات كاملة وتختص به وحده من غير استعانة بأي آلات موسيقية أخرى أو أصوات خارجية.
وفي هذا تطور كبير استطاع أن يضيفه العود إلى الموسيقى الشرقية، ففي حين ظلّت الموسيقى الشرقية عبر فترات ماضية تعتمد على الصوت الغنائي المصاحب للموسيقى، أو تنحو نحو التطريب أو الإيقاع الذي يحرك الجسد، أي ظلّ اللحن الموسيقي مصاحبا للأداء، نرى أن تطورا كبيرا دخل على الموسيقى الشرقية عبر اتجاهها نحو موسيقى التأمل أو الموسيقى التي تحمل معنى البعد الروحي أو التصوفي، بعيدا عن الأغنية وهذا ما قدمته للموسيقى مجموعة من عازفي العود الذين كان أولهم الشريف محيي الدين حيدر حين دأب على إقامة حفلات موسيقية تحتفي بالعود كآلة مفردة من غير أي مظاهر خارجية. وإن كانت البداية صعبة حيث كان الجمهور لا يتقبل أن يحضر العود بمفرده كسيد الموقف بشكل كامل، أصبح الآن وبفضل بعض عازفيه يستقطب الأسماع وانتشر عازفون مختلفون يعزفون على العود بشكل منفرد.
وتبعا لهذا فقد أصبح العود وسيلة ليست للتطريب فقط، بل للتأمل الروحي والراحة النفسية، انطلاقا من أن الفهم العام للموسيقى بماهيتها الكاملة أنها ليست للتطريب فقط أو الانتشاء لوقت معين، بل أنها خلق من الوجود للإبداع، كما أن التأمل والطيران الذي يمنحه الاستماع إلى الموسيقى الصافية يجعل المرء قادرا على المزيد من مختلف الإبداعات.
تجربتي مع العود
ومن هذا المنطلق قد يكون من المفيد الحديث عن تجربتي الخاصة مع العود كوني التزمت منذ البداية بأن يكون العود في أعمالي هو السيد الأول، منطلقا من العود كأساس للتعبير عن مواضيع كثيرة، وكان أن أردت أن يصبح العود مثل الكاميرا التي تلتقط الأشياء والمناظر بحس شعري عال، وأن يصبح الوتر هو العدسة التي لا تكتفي بتصوير المشهد الخارجي فقط، بل ارتداداته في النفس وتفاعلاته معها، وربما كانت بدايتي الحقيقية في التصوير عبر الوتر منطلقة من معزوفة «رقصة الفرس» التي ومن دون أن أعلن عن اسمها حين عزفها أجد الجمهور يتمايل كما لو أنه يمتطي خيلا.
هذه التجربة التي جعلتني على الصعيد الشخصي أنتقي مسلكا خاصا يرى في العود آلة تعبيرية عالية لا تقل أهمية عن الريشة في يد الرسام، أو القلم في يد الكاتب، نقلتني هذه التجربة إلى البحث عن آفاق جديدة لهذه الآلة التي أصبح لها حضور محبب في نفوس مجموعة كبيرة من الشباب التي انصرفت عن العود لفترة طويلة واتجهت نحو الآلات الغربية مثل الغيتار.
وكانت تجربتي مع افتتاح بيت خاص للعود تحت اسم «بيت العود العربي» هي المحك الرئيسي الذي جعلني على تماس كامل مع أعمار وأجيال وجنسيات مختلفة، وبالتالي أفادتني هذه التجربة في الاطلاع على ما أصبح يشكله العود في ذائقة جيل كان قد انصرف عنه.
ومن خلال هذه التجربة أستطيع أن أقول إن جيل الشباب في بيت العود العربي الذي تربى تبعا لمدارس مختلفة في العزف، أصبح مهتما بشكل رئيسي بمتابعة حفلات عازفي العود من مختلف أنحاء العالم، وأصبحت لهؤلاء الشباب آراء مهمة في انتقاء أو نقد أو اصطفاء أو رفض لتجربة عزفية ما، وفقا لذائقة تلمست كما ذكرت مدراس مختلفة وأساليب مختلفة في العزف على آلة العود.
ومن خلال تأسيس أوركسترا بيت العود العربي التي تعتمد فقط على آلة العود وإن كنت طورت في ما بعد فكرة أن أمزج آلات أخرى من عائلة العود مع الأوركسترا- فقد استطعت تبعا لردود الأفعال التي جاءت بعد عروض مختلفة في العالم، أن أؤسس لمذاق خاص يتمتع بالعود في أوركسترا مثل أن يتمتع شخص ما بالأوركسترا الكاملة، بل أن صفاء الصوت الذي يأتي من آلة واحدة يضفي إحساسا بالتشبع بالنغم والصوت الذي يسير وفق خطوط متعددة وبآلة واحدة، هذه التجربة قد تمتد إلى أن أؤسس معها ما يمكن أن يقدم في الغناء، أي أن يتم الإنشاد والغناء بحضور آلة واحدة فقط هي آلة العود عبر أساليب جديدة أقوم بالإعداد لها مترويا.
من إيمان شخصي وجدت أن العود الذي كان أداة تطريبية وحسب، أضاف لمهامه مهام كثيرة أخرى، وهذا ما جعل الموسيقى الشرقية كلها تحاول أن تحذو حذوه فصرنا اليوم نجد تجارب كثيرة تحاول مثلا أن تجعل حضور آلات أخرى مثل، الناي والقانون حاضرة بقوة وبشكل منفرد، أو ما يسمى بـ (صولو)، وبالتالي فقد أصبحنا نستمع إلى موسيقى صافية من غير أصوات تطريبية، وتوسعت التجارب الموسيقية، وكان العود دائما فيها محورا مهما، فصار العود حاضرا في حوارات موسيقية، وأذكر بهذا الصدد أنني كنت أحد الذين حضرت تجاربهم في مختلف بقاع العالم عبر الحوار مع آلات غربية أو شرقية (من الشرق الأقصى) أو شرقية عربية أخرى. كما استطاع العود أن يحضر في العزف حتى عبر الأوركسترا السيمفوني، من حيث استطاعته أن يقوم باضافات خاصة. وعبر هذه الرحلة التي قطعتها هذه الآلة ما زلنا نجد في كل يوم اختراعات جديدة أو اكتشافات تخصها مثل، العود المصنوع من الجلد الذي سمعت عنه ولم يصادفني الحظ أن أراه، والذي صنعه صانع الأعواد العراقي ثابت البصري، أو المحاولات المتتالية من قبل العازفين والصانعين إلى إدخال تطويرات جديدة على الآلة من حيث عدد الأوتار على سبيل المثال، أو من حيث طول الزند أو الرقبة أو حتى نوعية الخشب نفسه ومدى تعتيقه وقدمه.
وفي حين أصبح الغيتار علامة مميزة للهوية الغربية في العزف وفقا للموسيقى الغربية الحديثة، في حين كان البيانو هو المؤشر على ما يعرف بكلاسيكية الموسيقى، فلم تكن هناك أوركسترا قادرة على الاستغناء عن البيانو في عزفها. على ضفة مغايرة كان العود مؤشرا على الموسيقى الكلاسيكية الشرقية، إذ كان يكفي حضوره حتى نعرف أننا أمام أجواء موسيقية شرقية خالصة، فإن محاولات التجديد والبحث المستمر في العود جعلته آلة تحضر بقوة في الموسيقى الشرقية الحديثة، أي أن دوره لم يختلف بل ظلّ حضوره ضروريا في أساسيات ما يعرف بالتخت الموسيقي الشرقي أو في الأوركسترا الشرقية لاحقا.
تطور صناعة العود
فيما ظلّت الآلات الموسيقية المتعددة تراوح مكانها من حيث الصناعة، أو تتطور ببطء، فقد حظي العود بإسهامات متعددة من صناع كثر يتنافسون في ما بينهم ليقدموا الأحسن. ومن الملاحظ أن كل مدرسة عزفية في العود استطاعت أن تخلّق صناعها وفقا لمتطلباتها، فالمدرسة العراقية على سبيل المثال استطاعت أن تطوّر صناعة العود وفقا لرغبة في الصوت الحاد والقوي، على أساس أن أغلب العازفين العراقيين بدأوا بالتوجه نحو العزف المنفرد، وبالتالي فقد كان لا بدّ للعود أن يسند العازف في حضوره كصوليست على المسرح.
واختلفت الأعواد فمنها الأعواد التي يحاول البعض زيادة أوتارها وفقا لقياسات معينة، ومنها، على سبيل المثال، العود المزدوج الرقبة أو العود ذو الظهر المنحني أو ذو الانحناء البسيط، واختلفت التجارب في اختيار أنواع الخشب المستخدم وطرق تعتيق هذا الخشب، وأيضا اختلفت الأوتار التي كانت تصنع من خيوط أمعاء الحيوانات، وأصبحت غالبا اليوم تصنع من النايلون، كما اختلفت الريشة نفسها، ويذكر أن العازفين الصوليست كان لهم الدور الأساس في صناعة آلة العود.
هذه المنافسة جاءت دائما لصالح هذه الآلة الموسيقية مقارنة بنظيراتها من الآلات الموسيقية الأخرى المختلفة، وقد جاءت أول وثيقة في صناعة العود للفيلسوف الكندي، التي وضعها في العصر العباسي في رسالته التي ألفها وحملت عنوان «رسالة الكندي في اللحون والنغم»، كما ضم كتابه ما يمكن أن يوصف بأنه أول من كتب تمارين للعزف على آلات العود في الرسالة نفسها.
ويذكر أن صفي الدين الأرموي البغدادي ذكر أن أشهر الآلات الموسيقية وأثمنها هي آلة العود.
وفي كتابه «تاريخ الموسيقى العربية» يذكر الباحث صبحي أنور رشيد الذي أعتمده في مراجعي كثيرا، لكونه لا يذهب بالأهواء في أبحاثه، بل يعتمد على الوثائق الأثرية والأبحاث المستمرة، يقول رشيد إن مخطوطة «وصلتنا في القرن الخامس عشر الميلادي تحمل عنوان «كشف الهموم والكرب في شرح آلة الطرب» لمؤلف مجهول» ذكرت في فصل العود أن العود ينقسم إلى أنواع تبعا لعدد أوتاره «فمنه عود ذو أثني عشر وترا ومعشر ومثمن، والعود ذو الأثني عشر وترا حكمه على حكم البروج الأثني عشر، وعلى حكم الأنغام الأثني عشر، والأثني عشر مقسومة على حكم الستة أوزان. فلكل وتر منها ثلاثون عرقا، وهي مقسمة على الأنغام الدائرة في الفلك، وله حكمه في الساكن والمتحرك. أما إذا كان العود معشرا فحكمه يختلف وأول من صنعه الفارابي – فيخص كل وتر ستة
وثلاثين قسما، ولها حكمها في الساكن والمتحرك، وللعود المثمن أحكامه في الساكن والمتحرك، وقسمة الأنغام على أوتاره كسابقيه، وللعود فرخة بستة أوتار تسمى (الششتة) وهي الطربرب، وحكمها على حكم الأوزان الستة».
وتظلّ آلة العود واحدة من ألمع الآلات الموسيقية عبر العصور، وأكثر الآلات سجالا أيضا، ولو ذهبنا في رحلة قصيرة عبر الإنترنت إلى المواقع المختصة بالموسيقى الشرقية سنكتشف ببساطة الحضور الهائل لآلة العود التي أصبحت ترمز لهوية الشرق، ولانتبهنا إلى اهتمام الجيل الجديد من الشباب بها وبرموزها من العازفين، ولرأينا الكم الهائل من الشباب الذي يتصارع على اختلاف المدارس والنظريات.
ومثله مثل المتنبي سيظلّ العود مالئ الدنيا وشاغل الناس.
كاتب وموسيقي عراقي
نصير شمه