بعد أن سمعت الفتاة الفلسطينية الجامعية أحلام التميمي الحكم الذي نطق به القاضي الصهيوني: السجن المؤبّد 61 مرّة، أي 1584 سنة تقضيها في السجن قبل الإفراج عنها، مع توصية مشددة من هيئة المحكمة بعدم الإفراج عنها في أي عملية تبادل، نطقت حكمها مع ابتسامة مطمئنة :
size=3>
أنا لا أعترف بشرعية هذه المحكمة، أو بكم. ولا أريد أن أعرّفكم على نفسي، باسمي، أو عمري، أو حلمي. أنا أعرّفكم على نفسي بأفعالي التي تعرفونها جيداً. في هذه المحكمة أراكم غاضبين. في قلبي وقلوب الفلسطينيين غضب أكبر من غضبكم. وإذا قلتم إنه لا يوجد لدي قلب أو إحساس، فمن إذاً عنده قلب؟ أنتم؟.
size=3>
أين كانت قلوبكم عندما قتلتم الأطفال في جنين، ورفح، ورام الله، والحرم الإبراهيمي.. أين الإحساس؟!
في الأسابيع الكابوسية الماضية، وأنا أتابع عملية الصيد الوحشي التي يقترفها جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه في قطاع غزّة، أخذت في قصقصة صور الأطفال، والأشجار، والحقول التي صحّرت تماماً بعد أن كانت خضراء تسّر الناظرين، والبيوت المهدّمة، ولكن صور الأطفال صارت تتكرّر ملّحة على عقلي وروحي، بحيث نشأت علاقة غضب وحزن وقهر بيني وبين الأشلاء، والوجوه المعفّرة بالتراب، والعيون الصغيرة المشدوهة وهي تتأمل ملامح الأب، أو الأم، أو الصديق، الذي مزقّته شظيّة، أو اخترقت رأسه رصاصة..
size=3>الصورة الأخيرة للحبيب، للصديق، للبيت المهدّم، للأشجار تخلع من بيوتها العميقة في أرضنا وتسحل بالجرّافات إمعاناً في قتلها وتعذيب من غرسها شتلة وأكل من ثمرها فتيّة يانعة وارفة الظلال، وارتجل علي أغصانها مرجوحة لطفله وطفلته ..
في كتابه التوثيقي: أطفال فلسطين حصاد الدم والألم والبطولة والصادر نهاية العام 2003 يرصد الباحث نوّاف الزرو جريمة الإبادة المنظّمة للطفولة الفلسطينية، معتمداً على مراجع بالعبرية كتبها صحافيون، ومنظّرون، وتصريحات أدلى بها عسكريون وسياسيون صهاينة، وحاخامات، للبرهنة على أن قتل الأطفال الفلسطينيين لا يحدث مصادفة، ولكنه قتل متعمّد، ونهج إبادة يرمي إلى تدمير مستقبل الفلسطينيين، بقتل أطفالهم، وزرع الخوف في نفوسهم، والانتقام من بطولاتهم المعجزة، وتحويل المجتمع الفلسطيني المقاوم إلى مجتمع خائف يرتعد ذعراً لمجرد بروز بندقية جندي صهيوني أو مستوطن، أو سماع دوي طائرة آباتشي في السماء قريباً من أسطح بيوت الفلسطينيين، أو قريباً من أعمدة خيامهم التي لا تحتمل هبّة ريح.
هل يبالغ نوّاف الزرو المتابع للشأن (الإسرائيلي) والذي أغنى المكتبة العربية بكتبه الجّادة التي يعتمد فيها على مراجع ومصادر يكتبها أعداؤنا؟!
size=3>لا بدّ من استذكار ما قالته غولدا مائير قبل سنين بعيدة، دون أن تخشى من اتهامها بمعاداة السامية، والقبض عليها متلبسّة بالعنصرية: أحياناً يجافيني النوم عندما يخطر ببالي أن طفلاً فلسطينياً قد ولد. هي نفسها غولد مائير التي أدلت بتصريحها العنصري: الفلسطينيون! لم اسمع بهم.. لا يوجد شعب فلسطيني.
هذه التصريحات، والأمنيات المشؤومة تكملها الأمنية الصهيونية التي راهنت على النسيان: جيل الكبار من الفلسطينيين سيموت في المنافي، أمّا الصغار فسينسون…
size=3>في الانتفاضة الكبرى 87 ـ93 التي غدر بها اتفاق (أوسلو)، بلغت نسبة الشهداء والجرحى من الأطفال 34 في المئة أمّا في انتفاضة الأقصى فقد بلغت نسبة الشهداء والجرحى من الأطفال 35.4 في المئة. (حصاد الدم والبطولة لنوّاف الزرو).
يذكّرنا نوّاف الزرو بما كتبه خبير الشؤون الفلسطينية في مركز يافا بجامعة تل أبيب، تعليقاً على دور الفتيان الفلسطينيين في الانتفاضة الكبرى، أي ما سمي بانتفاضة الحجارة، عندما وصف أطفالنا بأنهم جنرالات الحجارة: إن الجيش (الإسرائيلي) ربّما يضطر لمواجهة جيل بعد جيل من المحاربين الفلسطينيين الصغار في الأراضي المحتلة.
size=3>
الإبادة بدأت من الفتاوى، ثمّ تغطّت بها، وهي في عمق التثقيف الصهيوني الذي يحض على إبادة العرب بعّامة، والفلسطينيين بخاصة،. نذكّر ببعض الفتاوى العنصرية الداعية للإبادة التي أطلقها حاخامات (رجال دين)، والتي تحرّض على اجتثاث الفلسطينيين، وتعتبرهم حيوانات كما صرّح (عوفاديا يوسف) ووحوش دمهم يختلف عن دم اليهود (الحاخام اسحق غيتربورغ). ومع هذا الغيض من الفيض العنصري الحقير المعادي للشرائع والنواميس وحقوق الإنسان، فإن بوش الابن وكي يضمن فوزه لدورة ثانية في رئاسة أمريكا، يصدر فرمانه الشديد العنصرية الذي يقسم العالم إلى معادين للسامية و.. من يستحق نيل بركات الصهيونية، متناسياً أن العرب هم الساميون الأقحاح…
size=3>
جنود الاحتلال يقتلون بدم بارد، وأحياناً للتسلية، فما أهمية قتل طفل عربي، أو اقتلاع شجرة، أو هدم بيت، ما دام (دافيد كاتس) حاخام مستوطنة يتصهار التي تحتل أراضي مدينة نابلس، يجهر بدعوته للقتل دون أن يخشى رميه بتهمة معاداة السامية: إن قتل العرب لا يشكّل مشكلة أخلاقية… (حصاد الدم لنوّاف الزرو).
size=3>جنود الرّب يعتبرون الطفل من هو دون الثانية عشرة، وهكذا فكّل طفل فلسطيني رسم الاحتلال ملامحه الشقيّة بحيث بدا أكبر من عمره يجدر قتله، الطفل الفلسطيني الذي ولدته أمه بعد اعتقال والده ببضعة أشهر، الطفل الفلسطيني الذي قتل زميله في الصف تحت ناظريه، الطفل الفلسطيني الذي رأي ارتعاش واختلاج جسد محمد الدرّة علي ركبة والده بينما الرصاص يخترق جسده النحيل ويسرق طفولته.. هذا الطفل مناسب جداً ليكون أضحيةً مع عدم الاهتمام بعمره، فهو طفل فلسطيني في كل حال، وقصف عمره مبارك بفتاوى الحاخامات الذين تبّز فتاواهم كتاب كفاحي لهتلر.
صورة الطفل خليل أبوناجي من مخيّم الشاطئ برأسه الملفوف بكوفية فلسطينية، وأخته الصغيرة وقد تعربشت بالنعش محاولة استعادته من الموت… لا تنسوا هذه الصورة.
size=3>صورة أطفال الشهيد محمد معروف من بيت لاهيا.. علقوها في ذاكرتكم، فالذاكرة الفلسطينية ـ والعربية ـ لها وظيفة واحدة: التذكّر دائماً، أمّا النسيان ففاصل قصير لتلقيم الذاكرة بما يجعلنا لا نغفر ولا ننسي…
إيمان الهمص الطفلة التي كانت تحمل حقيبة كتبها المدرسية والتي سدّد ضابط صهيوني محــــتل رشاشه فقـــتلها على الفور.. تذكّرنها يا نساء فلسطين حيثما كنتن في الوطن أو الشتات، وأنتن تمشطن شعر طفلاتكن، وازرعنها في الرؤوس الصغيرة بذرة للعقاب والحريّة…
size=3>
التلميذة إيمان الهمص لم يكتف الضابط الصهيوني برؤيتها تتمرّغ في دمها بل اقترب وأفرغ رصاصتين في رأسها مستمتعاً بقتلها.
حكموا على أحلام بـ61 مؤبّد!..كم مؤبّد يستحق هؤلاء الوحوش، قتلة أحلام أطفالنا؟!.
صحيفة القدس العربي 20/10/2004