النجمة السوداء آندرا دي لـ«القدس العربي»: الولايات المتحدة وقفت ضد مطرب
[wpcc-script type=”a18fdb9fe268487057b5cead-text/javascript”]

لوس أنجليس – «القدس العربي» : صنعت آندرا دي تاريخاً الأسبوع الماضي عندما فازت بـ«غولدن غلوب» أفضل ممثلة في فيلم درامي، لتصبح ثاني امرأة سوداء تفوز بها بعد ووبي غولدبرغ، التي كُرّمت بها عن أداء دور سيلي في فيلم ستيفن سبيلبرغ «اللون الأرجواني» عام 1986. آندرا نالت الجائزة عن تجسيدها دور أسطورة موسيقى الجاز «بيلي هوليداي» في فيلم لي دانييلز «الولايات المتحدة ضد بيلي هوليداي» وهو أول أداء تمثيلي لها، وبالتالي فإن تغلبها على ممثلات عريقات في فئة أفضل ممثلة في فيلم درامي مثل فيولا ديفيس وفرانسيس ماكدورماند وكاري ماليغان يعتبر إنجازاً هائلاً.
وفي حديث معها كشفت لي أن ذلك الأداء كان أكبر الجهود التي توجب عليها بذلها في حياتها. «أنا امرأة مؤمنة لهذا تطلب الأمر الكثير من الصلوات كي أشارك في هذا العمل».
لكن الجهد الأكبر كان إقناع دانييلز بقدرتها على أداء الدور، وهو الذي رفض في البداية مقابلتها أو حتى اختبار أدائها. وكانت تدرك أن أبرز ممثلي هوليوودي يتنافسون للعمل معه؛ فهو أول أمريكي أسود ينتج فيلماً، وهو «كرة الوحش» يفوز بجائزة أوسكار وهي جائزة أفضل ممثلة لهالي بيري، التي ما زالت تعتبر الممثلة السوداء الوحيدة التي فازت بجائزة أوسكار أفضل ممثلة. وتلاه بإخراج عدة أفلام من ضمنها «ثمين» الذي رُشح لستة جوائز أوسكار و»رئيس الخدم» و»موزع الصحف» فضلاً عن تأليف وإنتاج مسلسل «إيمباير».
«استمريت في لقاء الممثلات وكنت أعلم أنني لن أصور الفيلم إذا لم أجد الممثلة المناسبة» يقول لي دانييلز عندما التقيت به عبر زوم. «وكنت على وشك أن أعين ممثلتين عظيمتين، لكن حصل أن التقيت بآندرا وتماهيت مع روحها».
فضلاً عن ملامحها المشابهة لبيلي، آندرا أيضاً مغنية محترفة، نالت ترشيحات لجوائز الغرامي عن ألبومها «تشيرز تو ذي فول» وأغنيتها «رايز أب» عام 2015 بالإضافة إلى نيلها ترشيحاً لـ«الغولدن غلوب» عن أداء أغنية الفيلم «تايغريس أند تويد» وهو ما ساعدها على تقمص شخصية بيلي وأداء أغانيها بنفسها.
«الغناء كان جزءاً من الأداء» توضح آندرا. «فأنا أفهم الشعور وما تتطرق إليه عندما تكون على المسرح وتتفاعل مع الجمهور. وكان ذلك مختلفاً بالنسبة لها عما هو بالنسبة لي، وانطلاقاً من تلك النقطة أصبح الأمر حول تقمص صوتها، وليس نبرة صوتها وحسب، بل وأيضاً السبب في أن نبرتها كذلك، والقصة التي كانت ترويها نبرتها وصوتها الغنائي».
أبرز مغنيات الجاز
تعتبر هوليدي من أبرز مغنيات الجاز في النصف الأول من القرن العشرين، إذ تميزت بأنغامها وصوتها الحنون ومهارتها الارتجالية وقدرتها على الإبداع الموسيقي.
وما زالت تعتبر مصدر إلهام لموسيقيي الجاز، وتتمتع بشعبية عالية بين عشاقه. وقد طرحت سيرة حياتها في عدد من الكتب وفي فيلم «سيدة تغني البلوز» حيث جسدتها مغنية السبعينيات الشهيرة ديانا روس. لكن دانييلز لم يكن معنياً بطرح سيرة حياتها وحسب، بل أراد أن يبث من خلال الفيلم رسالة تردد أصداء الأحداث المعاصرة.
«هذه دعوة لحمل السلاح» يقول المخرج ابن الثالثة والستين. «نحن اليوم في وقت خطر للغاية، وقد شعرت بذلك قبل عام ونصف العام عندما كنت أصنع الفيلم، علمت ما ستؤول إليه الأمور، أخبرتني روحي أننا سنكون على هذه الحال وبالتالي شعرت أننا نحتاج إلى أشخاص أكثر كبيلي ومحاربين أكثر كبيلي».
تدور أحداث «الولايات المتحدة ضد بيلي هوليداي» في أربعينيات القرن الماضي، إذ يسلط الفيلم الضوء على استهداف مكتب التحقيقات الفيدرالي «أف بي آي» لبيلي من أجل منعها من أداء أغنية «ثمار غريبة» التي تناولت ظاهرة شنق الحركات العنصرية آنذاك للسود على الأشجار، كعقاب لهم على جرائم وهمية أو كرياضة ترفيهية. تلك الأغنية كتبها مؤلف أغان يهودي شيوعي يدعى آبيل ميروبول، مستلهماً إياها من صورة لرجلين أسودين مشنوقين عام 1930 بينما يرقص حولهم الرجال البيض. وعندما تقرأ بيلي كلماتها عام 1939 تقرر أن تقوم بأدائها في «كافي سوسيتي» في نيويورك، التي كانت آنذاك الحانة الوحيدة المختلطة الأعراق. وسرعان ما ذاعت شهرة هوليداي بالأغنية، فصار يطالبها الجمهور بغنائها أينما ذهبت، ما أثار مخاوف مدير «أف بي آي» حينها جي ايدغار هوفر فقرر إسكاتها خوفاً من إشعال غضب السود وتمردهم على الحكومة، ودعمهم لحركة الحقوق المدنية الجديدة، التي صارت تستخدم الأغنية لتسليط الضوء على جرائم البيض ضد أبناء شعبهم.
«بينما كنت أشاهد الأخبار أثناء قضية جورج فلويد هنا في أمريكا، رأيت فتاة واقفة على سطح سيارة، تغني تلك الأغنية وسط كل هذه الفوضى، وظننت أنه أمر غريب. كلمات بيلي هوليوودي ما زالت مهمة حتى اليوم» يعلق دانييلز، الذي يصر على أن استهداف «أف بي آي» لبيلي كان عنصرياً، مع أن الكثير من الفنانين البيض الليبراليين كانوا عرضة لملاحقة أجهزة الأمن الأمريكية، التي كانت تلاحق كل من تشك بكونه شيوعياً، من ضمنهم مؤلف الأغنية، ميربول. وقد سميت تلك الفترة على اسم السيناتور مكارثي، الذي قام بتأسيس لجنة تحقيق اتهم فيها، دون الاستناد إلى أية أدلة، الكثير من الفنانين والأدباء الأمريكيين بالتجسس لصالح الاتحاد السوفياتي، ما أسفر عن تدمير مسيراتهم المهنية.
«استهدافها كان عنصرياً لأنها لم تكن تتحدث عن الشيوعية أو الاشتراكية،» يقول دانييلز. «بل كانت تسلط الضوء على جرائم عنصرية داخل الولايات المتحدة. كما أن ضابط المباحث، هاري اسلينغر، الذي يقود الحملة ضدها كان يفتخر بعنصريته وكراهيته للسود».طارد اسلينغر بيلي الى كل النوادي التي تغني فيها؛ في البداية كان يضغط على أص
حاب النوادي لمنعها أداء «ثمار غريبة» لكن بيلي كانت ترفض الاستجابة لهم، فلجأ اسلينغر لاستخدام القوة، ودفع ضباط الشرطة لجرها من على المسرح عندما بد
أت بالغناء. ومع ذلك استمرت بيلي بأداء الأغنية. فبحث اسلينغر عن خطة أخرى لإسكاتها إلى الأبد، ووجد ضالته عندما اكتشف أنها مدمنة على المخدرات.
رية التعبير
«لم يتمكنوا من اعتقالها بسبب الأغنية بسبب حرية التعبير وبالتالي استغلوا إدمانها على المخدرات» يقول دانييلز. «مع أنها كانت تحاول أن تقلع عن المخدرات».
«على الناس أن يفهموا أولاً أن تعاطي المخدرات مرض وليس رذيلة بالضرورة» تضيف آندرا. «وأظن أنها كانت تحتاج إليها. بصراحة لا أعتقد أنه كانت لتكون لدينا بيلي هوليودي أو أنها ستتمكن من العمل وصعود المسرح أو كتابة الأغاني ومحاربة الحكومة بالطريقة التي قامت بها دون ذلك».
ولدت بيلي لوالدين مراهقين، تركاها عند عمتها لرعايتها. وفي سن الرابعة عشرة، انتقلت للعيش مع أمها التي كانت تعمل كبائعة هوى في بيت للدعارة في نيويورك، فوقعت هوليودي فريسة لاستغلال تجار الجنس وعنف الرجال إلى أن اعتقلت وزجت في السجن، ما ترك أثراً قوياً عليها طاردها حتى بعد تحقيقها شهرتها ونفوذها القوي، ففي الفيلم تظهر بيلي ضعيفة أمام الرجال، الذين يستغلونها جنسياً ومادياً ويعاملونها بقسوة وفظاظة.
«عندما تكون في سن الحادية عشر وأنت لا تعرف إلا الرجال السيئين والسلبيين الموجودين حولك، فإن هذا هو كل ما تعرفه. وبالتالي عندما كبرت بيلي انجذبت لما فهمته وهم الرجال السيئون. ومن ثم تعاملت مع ذلك كله من خلال المخدرات لتساعدها على تخطي الألم الذي كانت تعانيه، لكن يمكنك أن تكون مليئاً بالعيوب وتكون في الوقت ذاته زعيماً للحقوق المدنية، وهو ما يعطي مصداقية للعيوب الموجودة في الناس وهم ما يزالون يقومون بأشياء عظيمة».
مدركاً ضعف هوليدي أمام الرجال، قام اسلينغر بتجنيد موظف «أف بي آي» أسود طموح، يدعى جيمي فليتشر، للتغلغل في محيطها وضبطها وهي تتعاطى المخدرات. وهكذا نجح في إدانتها أمام المحكمة وسجنها.
وفي حديث مع الممثل ترفينتي رودس، الذي يجسد دور فليتشر، قال إن فليتشر كان يعتقد أنه يحارب المخدرات وأنه أراد أن يثبت نفسه كموظف أسود في «أف بي آي»: «يمكنني أن أقول لك إنك من أجل أن تنجح كرجل أسود، يحاول الناس أن يحرضونك ضد الأشخاص الذين هم مثلك مدعين أنه يجب أن يكون هناك واحد فقط. بصراحة لهذا السبب ترى ذلك في الأحياء، الكثير من الأولاد يقتلون بعضهم في محاولة للهروب، لأن تلك هي العقلية السائدة حول الأمر. هذا عبث بالعقول».
لكن عندما أدرك فليتشر أن اسلينغر كان يجبر عشاق بيلي على دس المخدرات لها في ملابسها لكي يلفق لها تهمة تعاطيها، وأن السبب الحقيقي وراء استهدافها كان منعها من أداء أغنيته المفضلة لها وهي «ثمار غريبة» تمرد عليه واعتذر لبيلي وتحول إلى مؤازرتها بدلاً من ملاحقتها. فوقعا في حب بعضهما البعض.
«فليتشر أدرك أن رجال السلطة لا يريدون أن يُشاهد الفن الأسود لأنه يبث الفهم، والفهم هو القوة والمعرفة هي القوة، وبالتالي إذا فعلت ذلك فإنك ستفقد السلطة على الناس الذين تحاول أن تحافظ على سلطتك عليهم. ولا زلنا نفعل ذلك اليوم».
المثير هو أنه خلافاً للفنانين البيض، الذين استهدفهم مكارثي، سيرة بيلي المهنية لم تتحطم، فقد استمرت بالغناء على المسرح وفي تسجيل أغانيها حتى آخر أيامها. لكن دانييلز يصر على أن حملة «أف بي آي» حطمتها وعجلت من وفاتها في سن الرابعة والأربعين بسبب مرض التليف الكبدي نتيجة إفراطها في شرب الكحول.
«لقد حرموها من العلاج لكي يستمروا بتلفيق تهمة تعاطي المخدرات لها» يرد دانييلز. «إذا كنت مدمناً على الهيرويين فإنك بحاجة إلى الميثادون ليساعدك على الإقلاع عنه. لقد أبعدوها عن ذلك المخدر، وإلى حد كبير قلتها ذلك، وبالتالي لا أظن أنها نجت لكن أظن أن موسيقاها تنجو».
لهذا تلقب هوليداي بجدة حركة الحقوق المدنية، التي قامت بحملات سياسية وقضائية واجتماعية استعادت من خلالها حقوق السود المهضومة في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات. وليس عجيباً أن تخشى السلطات في كل أنحاء العالم الفن الناقد، فتحاول أن تسكت أو تسترضي مبدعيه، وتكرم من يمدحونها في فنهم. أما آندرا فباتت أقوى المنافسات على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة بعد فوزها بالـ«غولدن غلوب».


