ومن ثم كانت الثقافة الأدبية واللغوية واحدة من أهم الثقافات اللازمة للداعية لزوم غيرها من الثقافات بل ربما أشد.
واللغة بمفرداتها ونحوها وصرفها لازمة لسلامة اللسان، وصحة الأداء، وجودة التعبير… فضلاً عن حسن أثرها في السامع، فالأخطاء اللغوية -إن لم تُحَرِّف المعنى، وتشوّه المراد- يمجّها الطبع، وينفر منها السمع.. وشر ما يكون ذلك إذا كان اللحن في كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر القرطبي في تفسير الآية الثالثة من سورة براءة أن أعرابيًّا قدم المدينة المنوّرة فقال: من يُقرئني مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى الآية الكريمة: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[التوبة:3] فقرأها عليه بالجر (رسولِه)، فقال: وأنا أيضاً أبرأ مما برئ الله منه!! فاستعظم الناس الأمر وبلغ عمر – رضي الله عنه- فدعاه فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال يا أمير المؤمنين: قدمتُ المدينة فأقرأني رجل سورة براءة، فقلت: إن يكن الله بريئًا من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال عمر: ما هكذا الآية يا أعرابي قال: فكيف يا أمير المؤمنين؟! فقرأها عليه بالضم “ورسولُه)، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ألا يُقرئ الناس إلا عالم بلغة العرب.
والأدب بشعره ونثره وأمثاله وحِكمه ووصاياه وخطبه… مهم جداً للداعية، يثقف به لسانه، ويجود أسلوبه ويرهف حسه، ويوقفه على أبواب من العبارات الرائقة، والأساليب الفائقة، والصور المعبرة، والأمثال السائرة، والحكم البالغة، ويفتح له نافذة على الروائع والشوامخ، ويضع يده على مئات بل ألوف من الشواهد البليغة التي يستخدمها الداعية في محلها فتقع من القلوب أحسن موقع وأبلغه… وفي طليعة ذلك القرآن الكريم المعجز للبشر في أسلوبه وبيانه، وكذلك السنة النبوية التي تحاكي إعجاز القرآن الكريم في جمال تعبيرها وبلاغتها….
ومما يؤكد هذه المعاني الشواهد التالية:
جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود: “إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة”، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر من أكثر من شاعر، واستجاده واستزاد منه، وكان من أصحابه شعراء معروفون مثل: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة… رضي الله عنهم، وأذن لحسان – رضي الله عنه- أن يذود عن الإسلام بلسانه وشعره، ويردّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجو شعراء قريش، وكان يقول له: “اهجُهم وروح القدُس معك، إن كلامك أشدّ عليهم من وقع النبْل”
وروى مؤرخو الأدب كثيرًا من الشعر للخلفاء الراشدين، وخصوصًا لعليٍّ كرٍّم الله وجهه، فقد روى عنه كثير من الشعر الجيد البليغ، كما رووا أيضًا لكثير غيرهم.
ومن لم يقل الشعر منهم فقد رواه ورغّب في روايته:
فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل، وروّوهم ما جمل من الشعر). وقالت عائشة رضي الله عنها: (روُّوا أولادكم الشعر، تعذب ألسنتهم).
وقال المقداد بن الأسود: (ما كنتُ أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشعر ولا فريضة (علم المواريث) من عائشة رضي الله عنها).
وكان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- من أروى الناس للشعر، حتى حكوا أنه كان يحفظ رائية عمر بن ربيعة، وكان يستند إلى الشعر في تفسيره للقرآن، كما يعرف ذلك مما يروى من محاورته لنافع بن الأزرق.
ويروى أن زيادًا بعث بولده إلى معاوية -رضي الله عنه- فكاشفه عن فنون من العلم، فوجده عالماً بكل ما سأل عنه، ثم استنشده الشعر فقال: لم أرْوِ منه شيئًا، فكتب معاوية إلى زياد يقول له: ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ ليرويه فيبرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل….
وهذا يدلنا على مقدار ما للأدب عامة، وللشعر خاصة من تأثير في النفس البشرية، كما يدلنا على أن العناية بالأدب، والتضلع منه، والاطلاع على مصادره، والحرص على ترديد فوائده، والاستفادة منها عند الحاجة أمر لازم للداعية الناجح الموفق.
ولنضرب على ذلك مثلاً:
هب أنك تتحدث إلى الناس عن حقوق القرابة، وصلة الرحم، وذكرت من الشواهد ما تيسّر من الكتاب والسنة، أفلا يكون مما يوسّع أفق حديثك، ويزيده تأثيرًا أن تذكر بعض ما حفلت به كتب الأدب في ذلك من شعر ونثر…
فمن ذلك: قول علي رضي الله عنه: (أكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير).
وقول طرفة في معلّقته:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة.. … ..على المرء من وقع الحسام المهنَّد
وقول الآخر:
أخاك أخاكَ إن مَنْ لا أخـًا له.. … ..كسـاعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عمِّ المرء فاعلم جناحُه.. … ..وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقول الحماس:
وإن الذي بيـني وبين بني أبي.. … ..وبين بني عمِّي لمختلف جــدّا
إذا أكلوا لحمي وفَرتُ لحومهم.. … ..وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ.. … .. وليس كبير القوم مَنْ يحمل الحقدا
وقول الآخر:
قومي هُمُ قتلوا أُمَيْـمَ أخي.. … ..فإذا رميتُ يصبني سهمي
فلئن عفوتُ لأعفَونَّ جَلَلاً.. … ..ولئن رميتُ لأُوهننَّ عظمي
حتى الطرائف والمُلح الأدبية يجد الداعية الموفق لها مكانها ووقتها، فينتفع بها، ليثبت بها معنى معينًا، أو ليروّح بها عن سامعيه.. كما قيل: “إن القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة”.
وكثيرًا ما استعار أهل المحبة لله أشعار المدح والثناء.. فاستعملوها في أغراضها الربانية، ولم يلتفتوا إلى المناسبة التي قيل بها الشعر..
وقد أنشأ أبو فراس الحمداني أبياتًا من قصيدة يخاطب بها أميره وابن عمه سيف الدولة، فنقلها الصالحون إلى مخاطبة الحق جلَّ جلاله، وهي قوله:
فليتك تحـلو والحيـاة مريرة.. … ..وليتك ترضى والأنام غضـاب
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ.. … ..وبيني وبين العـالَمين خـرابُ
إذا صحَّ منك الوُدُّ فالكلُّ هينٌ.. … ..وكل الذي فوقَ التُّرابُ تُرابُ
ولكن على الداعية أن يتجنب أشعار الفُحش، وطرائف الغيبة، ومُلَح التعريض بالناس؛ حتى لا يقع في مخالفات شرعية، أو يثير في النفوس أحقادًا نفسية، أو يسبب في الأمة انقسامات اجتماعية.