وفاة ( خادم العلم ) الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري 14 ربيع الأول 1410 هـ (1989 م)
الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري أحد أعلام الدعوة والإصلاح والعمل الخيري، لا يوجد مجال من مجالات الخير إلا وهو سباق إليه، ولا باب من أبواب نشر العلم إلا وسارع إلى فتحه على مصراعيه، فكم من المعاهد والمدارس على يديه قد أنشئت، وكم من المكتبات بذخائره العلمية قد عمرت، وكم من الحوائج على يديه قد قضيت، وكم من مصاحف كريمة بإشرافه قد طبعت.
أحيا الله به التراث الإسلامي، وسعى بالكتاب إلى أيدي المسلمين ومكتباتهم العامة والخاصة وقد بلغت مجموع النفائس التي طبعها ونشرها مجانا أكثر من 218 كتابا في شتى أنواع العلوم العربية والشرعية.
نذر كل وقته وماله وجهده للعمل الخيري الإسلامي، وكان حريصاً على دعم ومساندة أي عمل خيري، لم يكن يعرف الراحة أو الاستقرار في مكان واحد، ينتقل من بلد إلى بلد، يشارك في المؤتمرات والندوات الإسلامية، يسهم بكل ما يستطيع في خدمة الجاليات الإسلامية في أي مكان من عالمنا هذا.
كان رحمه الله شعلة من النشاط في شتى الميادين التي تعود بالنفع على الإسلام والمسلمين، فهو خادم للعلم، ساع في الخير، عامل في حقل الدعوة الإسلامية، باذل للمعروف، مصلح بين الخصوم، جامع للقلوب، محب للعلماء، معين للفقراء، مشجع لطلبة العلم، ناصح لولاة الأمر.
شغل رحمه الله أكثر من منصب، وكلما حل في منصب أحيا كالغيث ما حوله ومن حوله، كان محببا إلى كل من عرفه من الناس وكان سر ذلك يرجع إلى سماحة نفسه وسعة صدره، وحسن خلقه، ورقة طبعه، فهو رجل سهل سمح، موطأ الأكناف، كريم النفس، مبسوط اليد، يألف ويؤلف، يُحبُّ ويُحَبّ، يرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويقري الضيف ويبذل للمحتاج ويعين على نوائب الدهر.
اسمه ونشأته:
اسمه :عبد الله إبراهيم عبد الله علي الأنصاري، يرجع نسبه الى سعد بن عبادة رضي الله عنه من بني ساعدة أحد فروع الأنصار رضي الله عنهم.
ولد في مدينة “الخور” بقطر 1340هـ، وكان أبوه قاضياً بها، وقد تلقى العلم على يديه ، حيث حفظ القرآن الكريم ولما يتجاوز الثانية عشرة، ثم انكب على علوم اللغة والشريعة فدرس كتب الفقه الشافعي، والحديث النبوي وعلم النحو واللغة وعلوم الميراث، وعلوم الفلك.
ورث عن أبيه خلقا كريما وشغفا بالعلم وسدادا في الرأي وقوة في الحق وبرا بأهله ووفاء لمجتمعه كما تميز منذ صباه بحضور البديهة وحسن التصرف.
و بسبب انشغال والده في أمور القضاء قرر الأنصاري الارتحال لطلب العلم، وكانت منطقة الأحساء بالمملكة العربية السعودية في تلك الأيام محطة من محطات العلم والعلماء، فرحل إليها وهو ابن ستة عشر عامًا، وهناك لزم حلقات الشيوخ، كالشيخ أبي بكر الملا والشيخ محمد الملا، والشيخ عبد العزيز بن صالح، وعبد الله بن عمير والشيخ عبد الله الخطيب، والشيخ عبد العزيز بن المبارك، وعليهم درس العديد من الفنون الإسلامية، كالفقه المالكي والمواريث والتجويد والنحو والتفسير.
وبعد ثلاث سنوات في هذا الجو العلمي عاد إلى مسقط رأسه بأمر والده الذي استأنف دراسته عليه سنة كاملة.
ثم قصد إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وكان طبيعيا أن يحضر بعض الندوات الدينية وبعض حلقات العلم، فطاب له المقام في ذلك الجو الذي يستقطب قلوب المؤمنين، فكتب إلى والده يستأذنه بالبقاء هناك ليأخذ بحظه من علماء البيت الحرام، ولم يضن عليه الوالد بالموافقة، فانتظم في الفترة الصباحية بالمدرسة الصولتية، التي أنشأها العلامة الشيخ رحمت الله الهندي مؤلف كتاب ( إظهار الحق ) رحمات الله عليه.
وكان من شيوخه في مكة الشيخ محمد عبد الرازق حمزة إمام الحرم الذي درس عليه في موطأ مالك، وكتاب التوحيد وصحيح مسلم، ومنهم الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع الذي قرأ عليه بلوغ المرام وزاد المستنقع ومفردات الإمام أحمد مع كتاب التوحيد أيضا والشيخ علوي المالكي الذي حضر دروسه في التفسير والأصول والبلاغة. وكذلك كان للشيوخ الأجلاء حسن المشاط ومحمد العربي التباني وعمر حمدان المحرسي أثرهم البالغ في بناء ثقافته الإسلامية والعربية.
وبعد خمس سنوات من الجد في طلب العلم في مكة المكرمة أصيب والده بفقدان البصر، فأسرع إليه ليكون بجانبه، فرجع إلى قطر.
حياته العملية البداية في المنطقة الشرقية
قصد الشيخ الدمام بنية العمل، وفيها تعرف على أحد فضلائها الذي صحبه إلى قريته ( دارين ) وما هي سوى فترة قصيرة حتى أقبل عليه محبو الخير والعلم. فكان يؤمهم في الصلاة، ويخطب فيهم الجمع، ويلقي عليهم بعض الدروس بالمسجد ، ثم أسندوا إليه إدارة أول مدرسة شبه رسمية تم افتتاحها في دارين، وفي هذه المدرسة بدأ دروسه في التفسير والفقه والحديث والعربية والحساب لمدة سنة، ثم استدعاه قاضي القطيف ليكون مساعدا له في عمله القضائي واستمر على ذلك سنة أخرى، ختمت بتعيينه مديرا للمدرسة الرسمية التي أنشأتها وزارة المعارف، وفيها قضى سنوات ثلاثا مديرا ومعلماً، مع استمراره على الإمامة والخطابة في المسجد الجامع، إلى جانب مهامه في معالجة الخلافات التي تحدث في دارين، وقيامه بإجراء عقود الزواج والبتًّ في قضايا الأحوال الشخصية ألأخرى.
العودة إلى قطر
في عام 1372هـ ورد خطاب حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني إلى الملك سعود بن عبد العزيز- رحمهما الله جميعا- يطلب السماح للشيخ الأنصاري بالعودة إلى بلده، فصدر الإذن الملكي بذلك، وعاد الشيخ إلى وطنه الأول ليهب له كل ما يملك من الخبرة والجهد، اللذين تجاوز أثرهما قطر إلى الكثير من مواطن المسلمين وشعوبها.
لقد بدأ رحلته العملية في قطر بالحصول على إذن حاكمها بافتتاح أول معهد ديني عام 1374هـ وتولى هو إدارته والإشراف على مسيرته، والمشاركة في دروسه على مدى ثلاث سنوات، ثم أغلق المعهد و تحول إلى المدرسة الابتدائية الجديدة التي أطلق عليها لاحقا اسم مدرسة ” صلاح الدين الأيوبي”
ولما أنشئت مصلحة الشئون الدينية والقروية التابعة لوزارة المعارف عهد إليه بإدارتها، وهي إدارة هامة تتطلب الكثير من الخبرة والدأب، لأن مسئوليتها تشمل كل ما يتعلق بالقرى التابعة لقطر، من حيث الإشراف على تنظيم العلوم الشرعية وما تتطلبه من الكتب والمناهج، وما يتصل بها من أعمال التعليم، ويدخل في اختصاصها سائر الخدمات العامة في الطرق والمواصلات وقضايا السكان. فكان الشيخ ينهض بكل هذه المسئوليات مع قيامه بالإشراف على مدرسة صلاح الدين.
وقد استمر هذا الوضع لمدة سنتين، حتى إذا كان العام 1379 برزت إدارة مستقلة أخرى باسم ( إدارة الشئون الدينية ) على مستوى الدولة، وإليه أسندت رئاستها التي ( تختص بالوعظ والإرشاد ونشر التراث الإسلامي وطباعة الكتب الإسلامية وتحقيقها ومراجعتها، إلى إنشاء المراكز الخاصة بتحفيظ القرآن الكريم ).
فقد أسهم في تأليف، وتحقيق، وطباعة، ونشر العديد من الكتب تجاوزت المائتي عنوان، معظمها من أمَّهات الكتب والمراجع الرئيسية في الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك.
ولقد استمرت جهود الشيخ في رعاية هذه الإدارة وتوسيع مساحة نشاطها طوال عشرين سنة، كان آخرها عام 1402هـ حيث اقتضت التطورات الجديدة تركيز اختصاصاتها تحت اسم ( إدارة إحياء التراث الإسلامي )
– بلغ عدد الكتب التي وزعت في 29 دولة تشمل القارات الخمس عام 1406هـ فقط (110431) كتاباً إسلامياً.
– كان الشيخ عضوا في أغلب الهيئات الإسلامية، لعل من أهمها رابطة العالم الإسلامي التي كلفته بالإشراف على المصالحة بين منظمات الجهاد الأفغاني مع علماء آخرين، ولقد وفقهم الله في إتمام هذا الصلح في بداية حركة الجهاد الأفغاني.
– أشرف على مدارس تحفيظ القرآن الكريم في قطر، وأجرى لها مسابقات سنوية، إضافة إلى تشجيع الطلاب على الاشتراك فيها، وصرف مكافآت تشجيعية لهم.
– أشرف على بناء مساجد عدة في العالم الإسلامي، وقد بلغ عددها 36 مسجداً، في السعودية وقطر، والهند وباكستان، وموريتانيا والمغرب واليمن والفلبين وغيرها.
– أشرف على بعثة الحج القطرية لمدة ستة عشر عاماً (من 1958-1974) .
– أهتم بالتقويم القطري وتوزيعه على المستحقين في شبه الجزيرة العربية، وأعده بتوقيت سائر بلاد الجزيرة، وأشرف على طباعته ونشره وتوزيعه منذ عام 1376هـ.
– أمد الإذاعة والتلفزيون بالأحاديث الدينية الأسبوعية وفي كل المناسبات الدينية.
– تولى التهيئة والإعداد ورئاسة مؤتمر السيرة والسنة النبوية الثالث المنعقد في الدوحة بقطر عام 1400هـ.
وفاته :
توفي الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري في 14 ربيع الأول 1410هـ، الموافق 15 أكتوبر 1989 م .
ولقد كان لوفاته صدى مدوٍّ في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكانت جنازته من الجنازات المشهودة في قطر، بل والعالم الإسلامي، وقد أمَّ الصلاة عليه سماحة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود قاضي قضاة قطر، وألقى الشيخ يوسف القرضاوي كلمة تأبينية مؤثرة، وقد غصَّ جامع قطر الكبير (مسجد الشيوخ) بالمصلين، و امتلأت الساحات الخارجية للمسجد، وأغلقت بعض الشوارع المحيطة بالمسجد.
رحم الله الشيخ عبد الله الأنصاري رحمة الأبرار، وأسكنه دار القرار، فقد بكاه العلماء و بكاه الأمراء وبكاه الفقراء، و بكاه طلبة العلم، وبكاه أهل الحاجات في كل أوطان المسلمين، كما بكته قاعات المؤتمرات الإسلامية التي طالما جلجل فيها صوته بقول الخير وخير القول .