حين تلقى إنساناً فتشعر أنه قد فرح بلقائك؛ فيبتسم في وجهك ويتلطف في معاملتك ويبدو عليه السرور فإنك لا شك تفرح وتأنس، أما إن كان يلقاك عابساً فإنك تنفر منه ولا تحب لقاءه حتى وإن كان في هذا اللقاء شيء من المنفعة .
قال ابن حبان: (البَشَاشَة إدام العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأنَّ البِشْر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي).
وعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطًا، وكلمتك طيبة، تكن أحبَّ إلى النَّاس من الذي يعطيهم العطاء).
إن صاحب البشر والبشاشة قريب من القلوب حبيب إلى الناس، ينتشر بينهم الثناء عليه ومدحه، قال أبو جعفر المنصور: (إنْ أحببت أنْ يكثر الثَّناء الجميل عليك من النَّاس بغير نائل، فالْقَهُمْ ببِشْر حسن).
من أجل ذلك ندب الشرع إلى البشر والبشاشة التي هي السرور الذي يظهر في الوجه بما يدل على حب اللقاء والفرح بالمقابلة .
وقد عد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاء الإخوان بالبشاشة والفرح عده من المعروف:
“كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق…”. الحديث ( رواه الترمذي وقال : حسن).
كما قال صلى الله عليه وسلم: “ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف“. (رواه أبو داود ، وصححه الألباني).
وإذا ما أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – وجدته مستبشراً بشوشاً؛ فعن جرير رضي الله عنه قال: ما حجبني النَّبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي.
بل كان كذلك حتى مع الجفاة الشداد، فذاك رجل أعرابي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيجبذه بردائه جبذة شديدة تؤثر في عاتقه ، ثم يقول له في غلظة: يا محمد ، مر لي من مال الله الذي عندك ، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقابل هذه الغلظة والجفاء ببشاشة ورحابة صدر ثم يأمر له بعطاء .
إن هذه البشاشة التي يلقى بها المسلم إخوانه تزرع له في قلوبهم وداً ومحبة ، تجعلهم راغبين في لقائه والأنس به .
ولقد صدق والله القائل :
أزور خـليـلي مـا بـدا لي هشُّـه وقابـلني منـه البشــاشــة والبشرُ
فإن لم يكن هشٌ، وبشٌ، تركته ولو كان في اللقيا الولاية والبشرُ
وحق الـذي ينتاب داري زائراً طعــامٌ وبِــر وقــد تَـقَـدَّمـه بشــرُ
إننا – بلا شك – لا نستطيع أن نسع الناس بأموالنا، لكننا أيضا نستطيع أن نأسرهم ببسط الوجه والبشاشة وحسن الخلق؛ ففي الحديث: “إنَّكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم، ولكنْ يَسَعُهم منكم بَسْطُ الوَجهِ وحُسنُ الخُلُقِ“.
وتزداد الحاجة إلى البشاشة وطلاقة والوجه إذا كان للناس حاجة وطلبوا قضاءها، قال بعض الحكماء: (الْقَ صاحب الحاجة بالبِشْر، فإنْ عدمت شكره، لم تعدم عذره).
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوانى عن خدمة المسلمين وقضاء حوائجهم ببشاشة وسعة صدر، وإنه لأحق الناس بقول الشاعر :
تعــود بســط الكف حتى لو أنه ثناهــا لقـبض لـم تطعـه أنامـله
تــراه إذا مـا جـئـتـــه مـتـهــللاً كأنك تعـطـيـه الذي أنت سائـله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجـاد بـهـا .. فلـيـتق الله سـائـله
وقد اهتم العلماء والصالحون رحمهم الله بهذا الخلق ورغبوا فيه وكثرت نصائحهم للمسلمين أن يتحلوا به.
قال ابن عيينة رحمه الله: (والبَشَاشَة مصيدة المودَّة، و البِرُّ شيء هيِّن، وجه طليق، وكلام ليِّن. وفيه رَدٌّ على العالم الذي يصَعِّر خدَّه للناس، كأنَّه معرض عنهم، وعلى العابد الذي يعبِّس وجهه ويقطِّب جبينه، كأنَّه منزَّهٌ عن النَّاس، مستقذر لهم، أو غضبان عليهم).
قال الغزالي رحمه الله: (ولا يعلم المسكين أنَّ الورع ليس في الجبهة حتى يُقَطَّب، ولا في الوجه حتى يُعَفَّر، ولا في الخدِّ حتى يُصَعَّر، ولا في الظَّهر حتى ينحني، ولا في الذَّيل حتى يُضَمَّ، إنَّما الورع في القلب).
وقد سئل أعرابي عن الكرم، فقال: أما الكرم في اللِّقاء فالبَشَاشَة، وأما في العِشْرة فالهَشَاشَة، وأمَّا في الأخلاق فالسَّماحة، وأمَّا في الأفعال فالنَّصاحة، وأما في الغنى فالمشاركة، وأما في الفقر فالمواساة.
لقد حث الشرع على لقيا الناس بالبشر والتبسم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة“.
قال ابن بطَّال: (فيه أنَّ لقاء النَّاس بالتَّبسُّم، وطلاقة الوجه، من أخلاق النُّبوة، وهو مناف للتكبُّر، وجالب للمودَّة).
فكن أخي بشوشاً هيناً لينا طلق الوجه ولا تكن عابساً، هذا وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير محمد سيد ولد أدم أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.