باستثناء “المفدال”، لا تهتم الأحزاب الدينية بالشأن العام والسياسة الخارجية كثيرًا. فجل انشغالها منصبّ على خدمة اهتماماتها وفعالياتها الدينية وخدمة جمهورها الخاص الذي يصوت لها في الانتخابات. وغالبا ما يكون شرط انضمامها للحكومة محصورًا في الامتيازات المالية التي تحصل عليها من ميزانية الدولة لتمويل مدارسها ونشاطاتها الدينية. وهذا التوجه أكسبها سمعة سيئة خارج إطار أتباعها وجماهيرها المباشرة. فالغالبية العلمانية في إسرائيل والوسط الإعلامي، وحتى في أوساط النخبة السياسية العلمانية التي تضطر للخضوع لابتزاز هذه الأحزاب لضمان الحصول على أصوات نوابها في البرلمان، غالبا ما تستخدم مفردات تحقيرية في وصف هؤلاء. وأشهر هذه التوصيفات ما نسب إلى إيهود باراك حين نعتهم “بالقمّل والطفيليات”. وكثيرًا ما تصفهم وسائل الإعلام بمصاصي الدماء والنمل الأسود والجراد الذي يأكل الأخضر واليابس.size=3>
الجامع بين هذه الأوصاف أنها تشير إلى العيش على حساب بقية شرائح المجتمع دون أن تساهم في عملية الإنتاج. فبن غوريون أعفى طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية لأن عددهم كان قليلاً آنذاك. أما اليوم فهم يقدرون بعشرات الآلاف. ولأن المتفرغين للعلم الشرعي لا يعملون فإن الدولة مضطرة للإنفاق عليهم وعلى عائلاتهم من خلال نظام الضمان الاجتماعي المعمول به في إسرائيل.size=3>
ما يزيد الأمر سوءاً أن أغلب المتدينين ينتمون إلى عائلات كبيرة العدد، فمتوسط عدد أبناء العائلة المتدينة سبعة إلى ثمانية أطفال، وفي حالات عديدة يزيد عن ذلك كثيرًا مع تحفيز عقائدي مستمر على الإنجاب. وتشير الإحصاءات الإسرائيلية إلى أن 60% من المتدينين لا يعملون. وبالتالي فإن الإنفاق عليهم وعلى عائلاتهم يكلف ميزانية الدولة كثيرا. وكمثال على ذلك إن حزب “يهودات ها توراة” تقدم بمشروع قانون عرف باسم قانون العائلات الكبيرة إلى الكنيست وتم إقراره. وهو قانون يهدف إلى زيادة الدعم المالي المقدم للعائلات التي يزيد عدد أطفالها على خمسة. تطبيق هذا القانون وحده كلف الميزانية العامة ما يزيد على مائة وعشرين مليون دولار عام 2001 فقط.size=3>
مثل هذه الامتيازات تسبب الكثير من الإزعاج والقلق لغالبية الإسرائليين الذين يعتبرون أن إنتاجيتهم والضرائب التي يدفعونها عن دخولهم تذهب للإنفاق على من لا يعملون، وتشجعهم بالتالي على عدم البحث عن عمل. ويزيد الامر سوءًا مع ما يتكشف من حالات الفساد في المؤسسات التابعة لهذه الأحزاب. فالمعاهد الدينية مثلا تتلقى الدعم من الحكومة طبقًا لأعداد طلابها. ولهذا يلجأ البعض منها إلى تضخيم هذه الأعداد بتسجيل أسماء وهمية لا وجود لها. وهناك حالات من جمعيات خيرية لا وجود حقيقيًا لها…size=3>
هناك بؤر توتر أخرى بين مجتمعات المتدينين والأحزاب الدينية من جهة، وبين بقية المجتع الإسرائيلي من جهة أخرى. فقد شهدت السنوات القليلة الماضية مجموعة من القضايا القانونية التي كشفت عمق الهوة بين الطرفين. فقد صدم قادة الأحزاب الدينية عندما حكمت المحكمة العليا في إسرائيل بإلغاء قانون إعفاء طلاب العلم الشرعي من الخدمة العسكرية. وخلال فترة وجيزة من ذلك الحكم القضائي أصدرت حكمًا آخر يبيح للكيبوتسات (تعاونيات اجتماعية واقتصادية كانت تمثل النموذج الاشتراكي للدولة كما أرادها الرواد الأوائل لحزب العمل بزعامة بن غوريون) بالاستمرار بمزاولة أعمالهم يوم السبت خلافا للتعاليم التوراتية. والعمل يوم السبت يعد، طبقا لجمهور المتدينين وقادتهم، واحدا من أعظم الخطايا التي يرتكبها اليهودي.size=3>
لكن بؤرة التوتر الكبرى حدثت عندما أصدرت المحكمة العليا حكما يقضي بالسماح لممثلي طائفتي الإصلاحيين والمحافظين بالمشاركة في المجالس الدينية المحلية. وجاء هذا الحكم بُعيد حكم آخر أعطى نوعا من المشروعية للطائفتين المذكورتين. وكان الحكم يقضي بضرورة أن تعترف الدولة بيهودية من يعتنقون الديانة اليهودية على أيدي حاخامات الطائفتين. هذان القراران يعتبران جوهريين في كسر الاحتكار الذي ظلت تمارسه الطائفة الأورثوذوكسية (مذهب الأغلبية) على الشؤون الدينية في إسرائيل. وهذه الطائفة لا تعترف بيهودية الإصلاحيين والمحافظين. وتمنع أتباعهما من الصلاة عند حائط المبكى (حائط البراق). وغالبا ما يعتدي المتدينون الأورثوذكس، بتحريض من قياداتهم الدينية، على من يرونه منهم يصلي هناك ولا سيما من النساء.size=3>
من هنا وصف مناحيم بورش، زعيم حزب اغودات إسرائيل، قرار المحكمة بأنه “تدمير لليهودية وخيانة للتراث اليهودي”. أما عوفاديا يوسف، الأب الروحي لحركة شاس، فقد وصف قضاة المحكمة العليا بأنهم “العبيد الذين يحكموننا.. وينتهكون السبت.. ويعلم أي طفل في السابعة من عمره عن التوراة أكثر منهم..”. وبلغت لهجته من الهجومية أن طالب البعض بتقديمه إلى المحكمة بتهمة التحريض، ولكن المدعي العام لم يفعل ذلك “حرصا على الوحدة الوطنية” كما صرح آنذاك.size=3>
إضافة إلى هذه التصريحات النارية، وما ذكر أعلاه غيض من فيض، سيرت الأحزاب الدينية، وكلها أورثوذكسية، مظاهرة احتجاج على قرار المحكمة في شباط فبراير من العام الماضي زاد عدد المشاركين فيها على ربع المليون شخص. وفي مقابل هذه المظاهرة، وعلى مقربة منها، خرجت مظاهرة علمانية شارك فيها خمسون ألف شخص بعضهم من كبار الشخصيات السياسية العلمانية التي تمثل أيديولوجيات متناقضة ولا يجمع بينها إلا بغضها للأحزاب الدينية. وكان بين هؤلاء وزير العدل آنذاك من الليكود اليميني، ويوسي ساريد زعيم حزب ميريتز اليساري ورافائيل ايتان من حزب تسوميت العنصري. وقد وصف ساريد ما يجري بأنه “حرب، حرب حول هوية بلدنا”.size=3>
استخدام لفظ الحرب، لم يعد مجازيا فقط؛ فقد اعتاد المجتمع الإسرائيلي على سماع وقراءة الأخبار عن الهارديم (المتدينين) الذين يقذفون الحجارة على السيارات التي تمر في شوارع أحيائهم في يوم السبت. أو يرمون بالكراسي على النساء (من الإصلاحيين والمحافظين) اللواتي يقرأن التوراة عند حائط المبكى أو يلقون الحبر على ملابس النساء “غير المحتشمات” في القدس. لكن الطرف الآخر يرد الصاع صاعين في بعض الحالات. وقبل اندلاع الانتفاضة الثانية كثرت الأخبار عن حوادث في الاتجاه المعاكس: طعن شاب من طلاب المعاهد الدينية… الاعتداء على مدرسة دينية في القدس… الاعتداء بالضرب على رجل متدين وهو عائد إلى بيته..size=3>
وهذا يأتي نتيجة طبيعية للتحريض والتحريض المضاد بين الطرفين. في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أجرت إحدى المراكز الإسرائيلية استفتاء في اوساط طلاب المدارس الابتدائية الحكومية (غير الدينية). وعندما سئلوا عن الهارديم كانت الإجابة الدارجة “هم أناس لهم رائحة كريهة، وتعشعش الحشرات في لحاهم”. وهذا مؤشر على الصورة النمطية التي تزرعها الغالبية العلمانية في إسرائيل وإعلامها القوي عن المتدينين اليهود. وقد بلغ الأمر ببعض السياسيين، مثل شولاميت الوني أحد مؤسسي حزب ميرتز العلماني اليساري، أن قالت: “عندما أرى المتدينين اليهود أستطيع أن أفهم دوافع النازيين”. وهي ترى أن ما كان يقال عن اليهودي من أنه يستغل الأغيار ويتاجر بدمهم ويضحك عليهم ينطبق على الهارديم اليوم مع فارق أن الأغيار في هذه الحالة هم الجمهور اليهودي العلماني. وهذه التوصيفات لها ما يقابلها في خطاب المتدينين الذين يصفون غيرهم بكارهي أنفسهم، والملوثين والمدمرين روحيًا… ولهذا وصف أحد الباحثين اليهود الوضع بقوله: إن إسرائيل آخذة بالانقسام إلى “يهود” يؤمنون بالخصوصية اليهودية وبالتراث “وإسرائيليين” يبنون هوية وطنية بين أمم الغرب الحرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وإعلاميsize=3>