في الفترات الحرجة من انتفاضة الأقصى كانت تصدر بعض التصريحات والتبريرات المتناقضة عن المؤسسات العسكرية الإسرائيلية، وكان بعض المحللين والكتابُ الإسرائيليون يعزون هذه التناقضات إلى ما كانوا يسمونه بالحرب العراقية الإيرانية الثانية. وهي إشارة إلى التناقض الكبير الذي يفصل بين رئيس هيئة الأركان الجنرال موفاز وبين وزير الدفاع بنيامين بن اليعازر. فالأول ينحدر من أصول إيرانية في حين أصول الثاني تعود إلى العراق.size=3>
هذا وضع جديد في إسرائيل؛ فإضافة إلى كونه مؤشرًا على وضع سياسي مستجد حيث يتولى يهود من أصول شرقية هذا الكم من المناصب السياسية السيادية الرفيعة، فإنه يشير كذلك إلى تشبث المهاجرين اليهود بشيء من انتماءاتهم السابقة على إسرائيليتهم. صحيح أن الفكرة الصهيونية عملت بنجاح منقطع النظير على صهر الجميع في بوتقة إسرائيلية واحدة، إلا أن الانسلاخ المطلق عن الجذور الثقافية يظل أمرًا صعب التحقيق. لكن انشغالنا بحالة العداء صرفنا عن إمعان النظر في تفاصيل العدو وتقطيعاته الداخلية؛ فهناك تفاعلات حيوية تعتمل في صميم الداخل الإسرائيلي، وهي تفاعلات لا تقع بصورة سرية ولا تأخذ شكل الطفرة، بل هي تأتي نتيجة طبيعية لتطورات وتراكمات أملتها الطريقة غير الطبيعية التي ينمو فيها المجتمع الإسرائيلي.size=3>
تعود هذه التحولات إلى بداية الثمانينيات، حين انشغل العقل الإسرائيلي بما كان يسمى بالقنبلة الفلسطينية الموقوتة. وكانت هذه تعبيرا عن المعادلات الديموغرافية التي كانت تؤكد الزيادة المرتفعة في عدد الولادات الفلسطينية مقابل تناقص الولادات اليهودية، مما كان ينذر بتساوي عدد العرب مع اليهود مع اقتراب عشرينيات القرن الحادي والعشرين. ولهذا تكثفت الجهود الإسرائيلية لرفع وتيرة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل؛ بهدف منع تحولها إلى دولة ثنائية العرقية. size=3>
والبعبع السكاني كان أهم الأسباب التي منعت إسرائيل من ضم الضفة والقطاع إليها، وكثر الحديث في تلك الفترة عن نظرية تسفير الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة. لكن انهيار الاتحاد السوفيتي أوقع تحولاً جذريا بفتحه الباب على مصراعيه أمام هجرة يهوده، الذين وصل منهم ما يزيد على المليون مهاجر، وهو رقم يعني خمس سكان إسرائيل وخمس القوة الانتخابية. size=3>
ورغم المحاولات المكثفة للدمج في المجتمع الإسرائيلي، إلا أن الوضع السياسي لغالبية المهاجرين الروس استقر داخل أحزاب مستقلة وليس داخل الأحزاب القائمة، وهذه أحد أهم القوى السياسية الجديدة في إسرائيل. وهي قوة حديثة العهد بالصهينة، حديثة العهد بالعملية الديموقراطية ولها نوازعها وهمومها وأولوياتها الخاصة بها. ورغم أنها تصنف يمينية، إلا أنها شاركت في حكومات محسوبة على اليسار، والفيصل في المشاركة لم يكن الحسابات الإيديولوجية بقدر ما كان الحسابات الفئوية المرتبطة بالمصالح الآنية والمباشرة للمهاجرين الجدد.size=3>
ينتمي اليهود الروس إلى “الفرع الراقي” من اليهودية على اعتبار أنهم من اليهود الاشكناز المسيطرين على المؤسسة الرسمية في إسرائيل. وهذا خلاف ما حصل مع يهود الفلاشا مثلا الذين سرعان ما اكتشفت إسرائيل أنها لا تريد أن تلوث البلد بهم فأوقفت عملية تهجير بقيتهم بعد أن تركوا مواطنهم في أثيوبيا وسكنوا في مخيمات حول أديس أبابا.size=3>
بين الرفض الذي وقع للفلاشا والقبول الذي وقع لليهود الروس ثمة منزلة يحتلها اليهود الشرقيون أو السفارديم. وهؤلاء هاجروا إلى “ارض الميعاد” مبكرا إلا أنهم لم يكتشفوا خيبتهم إلا بعد عقود. وقد مال هؤلاء بداية إلى الالتفاف حول اليسار وحزب العمل تحديدا باعتباره حزب السلطة وبسبب شعاراته حول العدالة الاجتماعية.size=3>
لكن بعد قرابة الثلاثة عقود من التعايش توترت العلاقة بين الشرقيين واليسار بسبب تراكم الإحباطات من الحزب الحاكم، وقد توجت هذه التوترات في انتخابات عام 77 بطلاق بائن أوصل اليمين إلى الحكم لأول مرة في تاريخ الكيان العبري وتحول منذئذ إلى منافس حقيقي على السلطة. لكن زواج اليهود الشرقيين مع اليمين التقليدي لم يدم طويلا. وسرعان ما تشكلت قناعة عارمة بضرورة تشكيل حزب “سفاردي” يعبر عن القاعدة الاجتماعية للشرقيين المهمشين. وكانت النتيجة ولادة حركة شاس ذات التوجه الديني والطابع الاثني الشرقي، التي سرعان ما تحولت إلى رقم صعب في السياسة الإسرائيلية وأصبحت ثالث أكبر الأحزاب الإسرائيلية وبفارق مقعدين فقط عن الليكود في الكنيست. وجاء هذا على حساب أحزاب سبقتها في الشارع الإسرائيلي. size=3>
وإذا كان الليكود الخاسر الأكبر إلا أنه لم يكن الوحيد؛ فشاس ضرب الأحزاب العلمانية ذات الطابع الاثني الشرقي والتي كانت أكثر انسجاما مع المؤسسة الاشكنازية. ولهذا وجد ديفيد ليفي السفاردي نفسه عمليا بلا قاعدة جماهيرية. وهو ما حصل مع حزب اغودات إسرائيل الديني الذي خسر كل ناخبيه الشرقيين تقريبا. والمقولة الدارجة، والصحيحة، الآن في إسرائيل أنه لا يمكن تشكيل حكومة في إسرائيل دون مشاركة شاس إلا حكومة وحدة وطنية يشترك فيها العمل والليكود.size=3>
هاتان القوتان ستلعبان دورًا كبيرًا في صياغة الثقافة السياسية والاجتماعية في إسرائيل المستقبل. صحيح أنهما لم يمتلكا بعد من القوة ما يمكنهما أن يحلا محل القوى الوازنة اليوم ، ولكنهما أصبحا أهم اعتبارات تشكيل أية حكومة إسرائيلية، وتتقاسمان فيما بينهما قرابة الأربعين في المائة من القاعدة الانتخابية. ورغم التصاعد المتزايد لنفوذ هذه القوى الجديدة في إسرائيل إلا أنها لم تدخل بعد في الحسابات العربية. فما زلنا مولعين بالتصنيفات الثنائية القديمة بين اليسار واليمين؛ علمًا بأن هاتين القوتين تمهدان الأرضية لثنائية انقسامية على المحور الديني العلماني الذي يبدو أنه سيصبغ الصراع المستقبلي في الداخل الإسرائيلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وإعلامي فلسطينيsize=3>