دائما ما يختلف مفهوم الحرية من فرد إلى آخر ومن جيل إلى جيل، حتى داخل الأسرة الواحدة نجد أن مفهوم الآباء للحرية يختلف عن نظرة الأبناء، وهو ما يؤدي إلى الصراع الأبدي المعروف باسم صراع الأجيال، فكيف يرى كل واحد حدود حريته؟ هذه ما سنعرفه من خلال التحقيق التالي..
عن مفهوم الحرية داخل الأسرة تقول أميمة غريب -20 عاما-: أتمنى أن أجد أبًا متفهماً، يفهم تماما معنى الحوار، ولا يدعي التحرر والمرونة ولا يتشدق بهما، لا يعتبر ما يعطيني إياه من حقوق مشروعة لي منحة يتكرم بها، ولا يعترف أنها من الحقوق الطبيعية جدا للأبناء، تعطى لهم حسب تدرج أعمارهم، وحين يحدث الخلاف بين الأب وأولاده، يتحول ذلك الأب فجأة إلى ديكتاتور يسحب جميع المنح منهم, فكلمة أب لا ينبغي أن تعني أنه يملك مصائر أولاده أو حياة أحدهم.
الأب المستحيلsize=3>
وتتساءل أميمة، هل من المستحيل في هذا الزمان أن نجد أبا يتفهم نفسية ابنه أو ابنته إذا مر أحدهما بأزمة نفسية أو عاطفية أو بمشاكل مرحلة المراهقة ؟.. الأب الذي تحتاجه البنات يجب أن يتفاعل معهن.. يجب أن تحكي له ابنته مشاكلها؛ لأنه يفترض في الأب أنه يختلف عن الأم في معالجته لبعض الموضوعات أو في التعامل معها، ومن واجباته أن يعلم بناته كيف يتخذن قرارا وأن يجعل حياتهن تتقدم إلى الأمام وتسير دون أن يفسدها أحد..
وتواصل أميمة قائلة: كذلك يجب أن تكون الأم صابرة، وأن تدرك أن المساحة التي تتحرك فيها بنتها مختلفة عنها، ويجب ألا تتعامل الأمهات مع بناتهن بمنطق “اطوي البنات تحت جناحك ” يجب أن تجذب الأم ابنتها داخل عالمها وأن تتقرب لها، ولابد أن يحدث هذا لي دون علمي بأنها تفعله، لأن هذا لا يتم ( بالعافية ) أي بالقوة .
سريع الصدام..size=3>
حنان إبراهيم -19سنة- تقول: من الممكن أن يكون الأب كارهًا لأفكار أولاده، لكنه قادر أن يفهمها، وهنا فقط يستطيع التعامل معها فيقلل الصدام، لأنه من المفروض أن يساعد الأب الأبناء على الخروج من مشاكلهم ويعلمهم كيف يتصرفون بحكمة.
ولا بد أن يعطي الأب أو الأم لأولادهما فرصة الكلام والتعبير عن أنفسهم وأفكارهم فهل يصبح هذا خطأ في هذا الزمن؟
وأرى أن معظم الأمراض النفسية للأبناء دائما تنشأ كنتيجة لسوء التربية في الصغر؛ فالأبناء دائما في حالة كبت ولا يعرفون إلى من يتحدثون.
معادلة صعبةsize=3>
شادي وجيه -25عاما- يقول : إن الحرية داخل الأسرة معادلة صعبة فهي تتطلب أبا مثقفا ومتحضرا يناقش قبل أن يعطي خلاصة تجاربه في الحياة، ويعلم أولاده عدم الخوف، ويعطيهم الفرصة للتجربة ولممارسة حقوقهم، وأن يتعلموا عواقبها، ويعلمني كيف أتعامل مع الفشل أو النجاح.
ليست منحةsize=3>
علاء إبراهيم -21 سنة- يقول: لا يصح أن يعتبر الوالد حق الحرية منحة منحها للابن لأنه المتسبب في وجوده، ولا يصح أن يلجأ الأب الكبير وقائد الأسرة إلى منطق المساومة مع الأبناء، ويجب أن يتوافر عند الأب منطق السماح والمغفرة، وأن يكون حكيما وليس ممسكا بالعصا التي تهدد الأبناء، ويستوعب حكمة سيدنا عمر بن الخطاب عندما قال : ” لا تعلموا أولادكم عاداتكم، فقد خلقوا لزمن غير زمانكم” فكأنه كان يقرأ المستقبل، وهو المنهج العلمي الحديث الذي توصل إليه العلماء والباحثون وهو منهج الدراسات المستقبلية.
تنازل الأبsize=3>
وعن قضية الحرية والحوار بين الآباء والأبناء، تقول الدكتورة زينب حسن أستاذ التربية بجامعة عين شمس: الأب لا بد أن يتنازل عن سلطته وقهره لأبنائه، وفي الوقت نفسه على الابن أن يثق بمشاعر والديه، وأن يكون هناك دائما حسن نية في العلاقة، لكن المشكلة تظهر أكثر لو كانت سلطة الأب والأم قاسية، ويشعر الأبناء بالقيود والاختناق من والديهما، وهو ما نسميه بالحب الخانق في علم النفس، والذي ينتج عن كثرة القلق والهيمنة الزائدة والمتابعة المستمرة وشدة الخوف كل هذا يقتل الأبناء نفسيا ويسبب لهم مشاكل مؤلمة.
فن الحكيsize=3>
وتضيف قائلة: لا بد أن يعتاد الآباء مع أبنائهم فن الكلام والحكي.. كل يأتي من عمله أو مدرسته فيحكي للآخر بشكل حميمي – وليس في شكل استجواب أو تحقيق- ما مر به في يومه، فمن المؤكد إذا قالت الأم لابنتها : ” إياك ” أن تفعلي هذا، وكان الأمر صريحا وعنيدا فستتوقف الابنة عن الحكي لأمها، لكنها لن تتوقف عن ممارسة الفعل، فالأمر يتطلب الذكاء الاجتماعي للوالدين والمرونة والحكمة، لكن المشكلة الحقيقية أننا أصبحنا في زمن به الكثير من المؤثرات الخارجية الضاغطة التي سببت تشويهًا لمعانٍ كثيرة في الحياة، فالأفضل أن ينشأ حوار مستمر بين أفراد الأسرة حتى يكتشف الوالدان مواضع الخلل في أبنائهما إن وجدت، فمن المؤكد أن “الفرمانات” تغلق أبواب الحوار.
المنع ليس الحلsize=3>
وتواصل الدكتورة زينب حسن قولها : ومن الأشياء الأخرى التي لا بد للآباء والأمهات أن يراعوها، عدم العصبية الزائدة بما لا يتناسب مع الحدث نفسه، ما يثير الأبناء ويكرس لديهم العصبية والحدة.
وتقول الدكتورة زينب حسن: اذا ما قامت علاقة حب بين اثنين من المستحيل أن تتشوه هذه العلاقة أبدا، وأعتقد أن لا شيء يحل الأزمة بين جيلين سوى حب صادق بين الآباء والأبناء، هنا فقط يتحقق المثل الشعبي المصري “حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يتمني لك الغلط “.
الثقة الغائبةsize=3>
الدكتورة سوسن عبد اللطيف أستاذ الاجتماع وعميد معهد الخدمة الاجتماعية بالقاهرة سابقا تقول: الحرية بين الجيلين قضية أزلية، فكل جيل يتصور أن الجيل السابق له متخلف عنه، ولا يعرف شيئا، بينما ينظر القديم إلى الجديد بحذر ويعتبره مفرطاً في القيم ومستهترا ، والجديد في هذا الوضع أن صراع الأجيال أصبح قويًا وعنيفًا نظرا للقفزات الكبيرة التي تمت في القرن العشرين، سواء ماديا أم معنويا أو تكنولوجيا وما يشاهده الأبناء في الأفلام الأمريكية مما أثر على العلاقات، وجعل هناك فجوة أكبر بين الآباء والأبناء، خاصة في مجتمعنا الشرقي المسلم، فعندما ننظر إلى أبنائنا نجد اللغة التي يتحدثون بها مختلفة وكذلك القيم والمفاهيم.
ولكن لماذا تزيد حدة الصراع في مجتمعاتنا الشرقية بالذات ؟
تجيب د.سوسن قائلة: المجتمعات الغربية تطورت تدريجيا، فالابن يترك الأسرة في سن صغيرة، ويعمل ويعول نفسه، وبصرف النظر عما إذا كان هذا تغيرا سلبيا أو إيجابيا فإنه تغير حدث بالتدريج وفي سياق تطور المجتمع ماديا، أما نحن فقد انعكس ذلك كله علينا فجأة، وأخذنا من التطور القشور وأصبحنا نعاني من التفكك الأسري والبانجو والعلاقات المتحررة والأغاني السريعة.
وقديما كانت الأسرة هي التي تنشئ الابن بنسبة 70%، وتشارك العوامل الأخرى في هذه التنشئة بنسبة 30%، أما اليوم فقد حدث العكس ودور الأسرة أخذ في الانحسار أكثر فأكثر لأن الأولاد في الماضي كانوا يذهبون للمدرسة، ثم يعودون للبيت حتى اليوم التالي، بينما اختلف ذلك الآن وأصبح هناك قصور في التعليم، وانتشر البانجو والعنف وضرب المدرسين والتعليم عن طريق التلقين وليس الممارسة، وبدأ الابن يحتك بأولاد آخرين ويتأثر بسلوكياتهم، وعندما يرى زميله في الصف الثاني الابتدائي معه موبايل، أو يلبس ويتحدث بطريقة معينة، فإنه يتأثر به، هذا إلى جانب وسائل الإعلام والتلفزيون المفتوح طوال اليوم والنادي والشارع والشلة.
والخلاصة التي تنتهي إليها الدكتورة سوسن هي أن ضبط إيقاع الحرية داخل الأسرة يقع بصورة كاملة على كاهل الأبوين، فعليهم أن ينشئوا أبناءهم -تدريجيا- على الحرية الملتزمة التي تعرف الحدود، ومنذ صغرهم لا بد من تكوين الوازع الديني لديهم، وزرع مفاهيم الصواب والخطأ والمقبول والمستهجن، وحقنهم بتطعيمات “مضادة” للانبهار بكل ما هو غربي حتى لا يتسلل إلينا كل يوم من هذه الحضارة ما يجعلنا نفقد ثقافتنا وحضارتنا الأصلية التي نعتز بها.