هل جاءت الفضائيات لنا لتكون نعمة أم نقمة؟
وماذا فعلت بنا شبكة الإنترنت؟ وماذا فعلنا بها؟
وما هو شكل المستقبل في زمن لم يعد يعرف حدودا بين ثقافة وثقافة وخلق وخلق ، بل ودين ودين؟
أسئلة حائرة كثيرة .. ما تزال تطرح نفسها علينا منذ سنوات دون إجابة، ولكن أعراض المرض ما تزال تصدمنا يمينا ويسارا، نلمحها في وجوه شباب لم نعد نقدر على تصنيفه، أهو منّا أم لا يعرفنا.. يحمل تراثنا أم لم يسمع عنه.
الشارع في أي من مجتمعاتنا الإسلامية أصبح لا يعرف الطريق الوسط، دائما هناك فريقان يمشي كل واحد منهما في ضفة من ضفتي الشارع.. فريق أغلق النوافذ والأبواب، عملاً بحكمة توصي بإغلاق كل باب يأتي منه الريح، وفريق آخر، ترك داره، وقرر أن يبيت في العراء نهبًا لعوامل التعرية التي تنحت دينه وخلقه وتراثه ولغته.. وثيابه.
المشاهد متكررة، ويمكن لأي واحد منا أن يمر بنفس التجربة إذا كلف نفسه عناء النزول إلى الشارع والسير على ضفتي الطريق ليرى شبابنا المنقسم على نفسه في موقفه من كل ما هو حديث ووافد في زمن صارت العولمة فيه مرادفة لكلمة التغريب، والثقافة العالمية لا تعبر إلا عن ثقافة الغرب وقيمه.
في جولتنا التي قمنا بها بين شباب مصريين مررنا بأحد المراكز التجارية بمدينة القاهرة .. سألنا إحدى الفتيات عن سر اختيارها لملابسها الغريبة المظهر، والتي يغلب عليها السواد، وشعرها الحليق بصورة هي أشبه بالرجال، مع مكياج صارخ ليس فيه شيء من الألوان المألوفة، مع حلق كبير وضعته في أنفها، فقالت: ما أفعله حرية شخصية، وهذا الحلق يضيف لي شكلا جديدا ومتميزا ولافتا للآخرين.
هل يضفي عليك شيئا من الأنوثة ؟؟ قالت: لم أفكر في ذلك، ولكنني رأيت هذا الزي في أحد أغاني الفيديو كليب الغربية فقررت تقليده.
اللافت للنظر أن نفس الحلق تقريبا، وأزياء لا تقل غرابة رأيناه في أنف شاب في نفس المركز التجاري، وعندما سألناه قال : إنه يشعر أن شكله أفضل مع هذا الحلق الذي يعتبره علامة على الرجولة !!
شاب آخر رأيناه يغطي شعره بطبقة كثيفة من “الجيل”، ويقول عن ذلك : إنه جرب أكثر من تسريحة حتى استقر على تسريحة بطل فيلم “تيتانيك” ليوناردو دي كابريو، وكان لهذه التسريحة دور كبير في جذب الفتيات إليه.
وفي المقابل فإن شابا آخر أقر لنا بأن ميوله صرفته عن ليوناردو دي كابريو ليقلد بدلا منه لاعب كرة القدم البرازيلي رونالدو الذي يحلق شعر رأسه كله، مؤكدا أن هذه “الصلعة” ساهمت هي الأخرى في جذب الفتيات إليه.
فتاة أخرى تقول : إنها تقاطع الراديو لأنه لا يقدم لها إلا الأغاني المملة، وهي تعشق الضجيج والحركة والموسيقى الصاخبة، وخصوصا موسيقى الجاز الأمريكية، وتقول : إنها تحب الأشياء المجنونة وغير التقليدية.
أما وليد مرسي فلا يحب الأفلام العربية، ولكنه يعشق أفلام “الأكشن” الأمريكية المليئة بالمغامرات فهو يستمتع بها جدا، وخصوصا أفلام جيمس بوند ويريد أن يزور أمريكا أو يعيش فيها.
أحد الشباب قال لنا : إنه يجيد أكثر من لغة أجنبية، وساهم عمله في السياحة بالاحتكاك على وجه الخصوص بالسائحين الألمان، وتعرف عن قرب على ثقافتهم وأعجب بها، ولهذا السبب فطالما أراد السفر إلى ألمانيا والعيش هناك بأية وسيلة، ولكن محاولاته المتكررة للسفر تحت غطاء الدراسة باءت بالفشل بعد أن وقفت الأموال حجرة عثرة في طريقه، وكما يقول هذا الشاب: أصبحت أعيش في غربة حقيقة، فأنا أعشق مجتمعا لا أقدر على العيش فيه ولا أنتمي إليه، وأعيش في مجتمع لا أحبه ولا أقدر على الانتماء إليه.
هذه بالطبع ليست كل أشكال التغريب التي يتعرض لها شبابنا من حيث التقليد الأعمى في الملبس وطريقة الكلام وأنماط التفكير الغريبة والتي وفدت إلينا عبر وسائل الإعلام المختلفة، لكن يبقى منها اقتناع الشباب بوجهات نظر غربية في قضايا متعددة مثل مفاهيم الحرية، ودور الأسرة في التوجيه، والدين وأحكامه، ومفاهيم من نوع السلام مع الكيان الصهيوني فضلا عن معرفته بأعدائه.
ولنعبر الآن إلى الجهة الأخرى من الشارع.. هنا فئة من الشباب أغلقوا كل الأبواب في وجه الاحتكاك بالغرب .. النوايا حسنة والارتباط بالثقافة والتراث قوي، ولكن هل يمكن أن يعيشوا في كهف يحميهم عن عيون العالم، ودون احتكاك به.
في المقابل على النقيض من الطرف الأول هناك شباب يفهمون التدين والالتزام على أنه فقط تقصير الثوب وتطويل اللحية والانعزال عن العالم ومقاطعة كل مفرزات الحضارة الحديثة وتقنياتها لأنها من الغرب … ولا يرون في الغرب إلا الوجه الشيطاني .
..هذان نموذجان يعيشان في مجتمعنا، ولكن فلنسأل أنفسنا ومتخصصينا الآن عن مساحات الصواب والخطأ في علاقتنا بالغرب، والوصفة التي تمكن شبابنا الواقف في مفترق الطريق بين التمسك بالتقاليد والعادات وبين الغزو الثقافي الغربي.
أزمة الهويةsize=3>
يقول الدكتور السيد عليوة – أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان – إن الشباب يعاني من أزمة الهوية والتي لها أسباب منها : سرعة التغيير حيث يتغير العالم بصفة عامة بسرعة كبيرة في كل مناحي الحياة، ومن ثم فإن الشباب مصاب ببلبلة وتشتت وعدم قدرة على التكيف مع هذه المتغيرات تكنولوجياً واقتصادياً واجتماعياً.
ومن أسباب أزمة الهوية أيضًا التشتت النفسي بين الهوية والخصوصية وبين الحضارات الغربية وقيمها ورموزها وطريقة حياة الشعوب فيها، وأدى ذلك إلى تنازع في الهويات في ظل الهوية العالمية التي تموج بها المؤثرات الخارجية عبر وسائل الإعلام المختلفة.
ويؤكد د. عليوة على ضرورة اضطلاع المؤسسات داخل الدولة والتي تتمثل في وزارات الشباب وأجهزة الرياضة ووزارات التربية والتعليم وجميع المؤسسات العاملة في مجال الشباب بالإضافة إلى الأحزاب السياسية والجمعيات الخيرية بالدور المنوط بها لغربلة القيم الثقافية الوافدة، ونبذ الضار منها وتصحيح المفاهيم الخاطئة للشباب، بل وتحصينهم ضد الضار منها ووضع الحقائق جميعها أمامهم دون تزييف أو خلط حتى تكتسب هذه المؤسسات ثقة هؤلاء الشباب فيها.
ويتطلب هذا من الدولة إعداد قواعد بيانات حقيقية عن الشباب وقطاعاتهم المختلفة ومستوياتهم التعليمية وتوزيعهم إلى فئات عمرية وتوزيعهم جغرافيا بين الريف والحضر ، وكذلك دعم المنظمات العاملة في مجال خدمة الشباب مثل الأندية الرياضية والجامعات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ولا بد من قياس مدى نجاح هذه المؤسسات، ولا سيما إذا تم السماح لها بالعمل بصورة ديمقراطية في تكوينها وتنظيمها ونشاطها.
العودة للأصولsize=3>
ويضيف د. شعيب الغباشي مدرس الإعلام بجامعة الأزهر قائلا : إن السبب الرئيسي في انحراف الشباب وتأثرهم بالوافد يرجع إلى غياب التربية الإسلامية والدور التربوي للمدرسة والجامعة ، وفقد وسائل الإعلام لدورها وعدم قيامها بالدور المطلوب فيها من حيث التوجيه والتوعية لهؤلاء الشباب.
وإذا وقفنا أمام وسائل مثل التلفزيون والإذاعة والصحافة نجدها هي التي كرست لهذا الغزو الثقافي المجنون، وهي التي دعت إليه ونادت به عن طريق دعواتها إلى الأفكار الغربية وتبنيها للفلسفات الأوربية بدافع التقدم ومواكبة الحضارة، وسبب ذلك يرجع إلى أن وسائل الإعلام هذه يقوم عليها مسؤولون متغربون، ورصيدهم من الثقافة العربية والإسلامية فقير أو معدوم فعلا، ولذلك فهم يرددون الأفكار الغربية ويدعون إليها حتى لو كانت تحمل جراثيم فتاكة لمجتمعنا الشرقي المسلم.
ويقول: نستطيع أن نقول : إن الأزهر – كمؤسسة دينية ذات ثقل – كان له دور رائد في التوجيه ، لكن خريج الأزهر صار من الضعف المعرفي والثقافي ما يجعله لا يستطيع الإقناع والتوجيه، وانعكس ذلك على جمهور المسلمين الذين يتلقون معلوماتهم وثقافتهم عن هؤلاء الخريجين الذين فقدوا القدرة على النصح ونبذ الثقافات المخربة والمدمرة.
والعلاج – كما يرى الدكتور شعيب الغباشي – يتمثل في العودة الفورية والحاسمة للدين واستلهام عاداتنا وتقاليدنا منه حتى يصلح الميزان ونخرج من هذه التبعية الاجتماعية والروحية بوعي وفهم، وخاصة أن ديننا الحنيف يدعو إلى التقدم والتحضر وليس دين تخلف ورجعية كما يروج له البعض.
آفة التقليدsize=3>
أما د. إلهام فراج المدرس المساعد بقسم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة القاهرة فترى أن الغزو الثقافي الآن لا يأتي من دولة واحدة، بل يأتي من عدة دول وعدة ثقافات بعكس ما كان سائدا من خلال الثقافة الشيوعية والرأسمالية، حيث كنا نقول هذا شاب شيوعي أو رأسمالي، فالآن أصبحنا لا نستطيع أن نصنف ثقافة الشباب.
والعالم الآن لا يغزونا إلا بالسلبيات من خلال الأفلام والمسلسلات، وهو إعلام موجه وراءه جهاز إعلامي كبير على مستوى عالمي، والشباب الذي لا يقف ليفكر فيما يشاهده يندفع بصورة عشوائية للتقليد لتصبح الأمور أكثر خطورة، لدرجة أنني رأيت للأسف شابا يلبس “إيشارباً” لأنه رأى شابا أجنبيا يلبس هذا الزي، ولا يعرف هذا الشاب أن الأجانب الذين يقلدهم هم مدمنون لنوع خاص من المخدرات تأتي على شكل طوابع كطوابع البريد تلصق على الجبهة، ودور الإيشارب هنا هو إخفاء هذا الطابع المخدر.
والحل ببساطة من وجهة نظرها تقوم به الدول من خلال عمليات إصلاح شاملة للمؤسسات التي يتعرض لها الشباب مثل النوادي الرياضية والإعلام المرئي والمقروء ونشر الأفكار الصحيحة من خلال الاستعانة بخبرات المتخصصين في ذلك.
ومن الحلول الضرورية أيضا لهذه المشكلة القضاء على البطالة التي تستنفذ قدرات الشباب وتجعلهم فريسة لهذا التقليد الأعمى من خلال تضييع أوقاتهم أمام الفضائيات الأجنبية وأمام شاشات الكمبيوتر عبر شبكة الإنترنت.
كما يبقى عامل الدين والتدين أمرا غاية في الخطورة والأهمية لأنه يمثل خط الدفاع الأول في عملية إصلاح الشباب.
عولمة السيطرةsize=3>
أما الدكتور جمال النجار أستاذ ورئيس قسم الصحافة والإعلام بكلية الدراسات الإسلامية للبنات بجامعة الأزهر فيقول : إنه أعد بحثا حديثا بعنوان “تكنولوجيا الاتصال والغزو الثقافي” الذي يسعى لسلب الآخرين إرادتهم وطمس هويتهم وإيجاد نوع من السيادة الفكرية لحضارة معينة على مختلف الحضارات والثقافات، ويضيف أن الثقافة الأمريكية هي المرشحة للفوز في حلبة هذا الصراع الفكري نتيجة للسبق الإعلامي الفضائي وتفوقها في مجال التكنولوجيا مما يؤدي إلى تحول مباشر من قبل الشباب إلى القيم الأمريكية.
ويشير د. النجار إلى خطورة البرامج والمسلسلات الأمريكية التي تعرضها التلفزيونات العربية مثل : ” دلاس- فالكون كريست- الجريء والجميلات .. الخ ” والتي تسعى إلى ترويج قيم ومعايير اجتماعية وأنماط حياتية ومفاهيم ثقافية وسلوكية تخدم وجود ونفوذ الدول الاستعمارية حيث يتم مسخ الثقافات الوطنية وازدراؤها وتشويهها.
ويؤكد د. النجار على ضرورة إعداد كوادر إعلامية قادرة على صنع رسائل إعلامية قوية تسحب البساط من تحت أقدام وسائل الإعلام الأجنبية، وحتى تستطيع جذب شبابنا إليها وغرس القيم والمبادئ الصالحة في نفوسهم وتربيتهم عليها، كما يجب أن تتبنى أجهزتنا الإعلامية قضية الأمن الثقافي التي تحافظ على هويتنا الثقافية وعاداتنا وتقاليدنا.