عنوان الكتاب: الطريق إلى القدس
المؤلف: محمد جمال باروت، وشمس الدين الكيلاني
الناشر: المجمع الثقافي ـ أبو ظبي/ رابطة الشرق والغرب ـ بروتا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الكتاب محاولة فريدة من نوعها في كشف موقع القدس في وعي المسلم ووجدانه الإيماني، حيث يستقصي على مستوى الأعماق التي يبدو فيها تاريخ القدس تاريخاً مستمراً للذات المسلمة، ويحفر على مستوى أدق في المراحل والأحداث والعهود والشخصيات الربانية التي أصبحت جميعها جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ المدينة المقدسة (المباركة)، ويتوسل المؤلفان في سبيل ذلك بمنهج مركب من العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة، استثمرت في هذا الموضوع لأوّل مرّة ربما. size=3>
القدس مركز السلام والتعايشsize=3>
كانت القدس في التاريخ الإسلامي مركز سلام وتعايش ما بين مختلف الأديان السماوية الأصل (أهل الكتاب)، يعيدنا الكتاب لنتملَّى في هذه الحقيقة الراسخة، ويدفعنا في هذه اللحظة بالذات بالمعالم المصيرية التي تبدو فيها المدينة المقدسة مهدّدة، إلى استذكار أنها شهدت منذ الفتح الإسلامي (العمري) الذي لم يرتق أي من غزاة المدينة وفاتحوها إلى مستوى عدالته وتسامحه لحظتين كارثيتين أو نكبتين في تاريخها، هما: اللحظة الصليبية المندثرة، واللحظة اليهودية الصهيونية الإسرائيلية المعاصرة، والتي تمثلها الدولة العدوانية العبرية، هما من لحظات الخطيئة الكبرى في التاريخ، فلم تؤكد الهويتان الصليبية والصهيونية نفسيهما إلاّ من خلال محاولة تدمير الوجود الإسلامي في القدس ، وهدم القدس التاريخية العربية ـ الإسلامية وتغيير شخصيتها تغييراً كلياً، في حين تميَّزت الرؤية الإسلامية للقدس عقائدياً وتاريخياً بأنها رؤية تسامح وتعايش وسلام ما بين أبناء إبراهيم عليه السلام. size=3>size=3>
القدس وجرائم الصهاينةsize=3>
لقد حولت جرائم الصهاينة الإسرائيليين اليوم المدينة المقدسة (المباركة) من مدينة تفيض بثقافة الإسلام والتعايش السلمي ، حيث كل شبر فيها يحمل بصمات نبيّ وأصداء ملاك ، إلى مدينة تفيض بالكراهية والحقد والخوف والضغينة. size=3>size=3>
إن التهديدات الصهيونية الحالية تحفزنا على إعادة كشف ارتباطنا الأبدي الراسخ بهذه المدينة، واستكناه معانيها وجوهرها، فمصير القدس هو كما كان دوماً، جزء عضوي من مصيرنا.
وفي عصرنا الذي أصبح قادراً عبر تقنياته المتطورة على انفتاح هائل يُقرِّب لو صحَّ انفتاحه، ما بين الثقافات والتجارب الإنسانية الكبرى، يصبح تاريخ مدينة عريقة سبقت إلى التعايش المثمر عبر التعددية الثقافية واللغوية والدينية، تاريخاً عميق المعنى بالنسبة إلى العالم اليوم.
المكان المقدس يضع المؤمن في موقع «مركز العالم»، لأنه (المؤمن) يمثل نموذجاً ربانياً، وبهذا المعنى يتعامل الإنسان المؤمن مع مدنه وبقعه وأراضيه المقدسة وأماكن عبادته تبعاً لنموذج رباني إلهي عُلْوي « وتتحول الجماعة المؤمنة من خلال هذا «التقديس » ـ والذي يعبر عنه القرآن بـ « المبارك » ـ فضَاءها الكوني المليء بالغموض والحيرة والفوضى واللامعقولية إلى فضاء متسق محدد المعنى والمعقولية والغاية، عبر حدود قداسته، وهذا ما تكرسه العبادات والشعائر في علاقتها الروحية مع الأماكن المقدسة (المباركة) ».
علاقة الجماعة المؤمنة بخريطتها الجغرافية المقدسة ليس لها علاقة بالخريطة العلمية المادية للعالم، إذ ترسم صور حياتها الباطنة الإيمانية ، وحين تحول الأرض المباركة (المقدسة) بمدنها وغياضها وجبالها إلى رموز لحياتها الروحية، وتمس المصادر العميقة والمبهمة لآلام الإنسان ورغباته العلوية، فإنها تطلق المشاعر الروحية من عقالها، لأنها ترتبط بالعالم العلوي عبر توسطات جغرافية رمزية، في حين أن الأنبياء المصطفين من عباد الله يتصلون بالعالم العلوي عبر الوحي، ومن هنا تشغل أماكن هؤلاء وتراثهم المادي وقبورهم مرتبةً ما في النظام الروحي الرمزي، وتضطلع بذلك في الوقت نفسه بدور جغرافي في وعي المؤمن.size=3>
تنفرد القدس في إطار هذا المنظور بما يمكن تسميته بالجغرافيا المقدسة العليا للعالم، التي ترتبط بها الحياة الروحية الإيمانية للأديان الكبرى الثلاثة: اليهودية، والمسيحية والإسلام. أي ترتبط بها أرواح مليارات المؤمنين المتنوعين قومياً ولغوياً وثقافياً. وتتميّز الرؤية الإسلامية للقدس عن الرؤيتين اليهودية والمسيحية في أنها تدمج الجغرافيتين المقدستين اليهودية والمسيحية في مجالها المقدس ، وتعترف بهما إيمانياً مع تصحيح انحرافاتهما. ويبدو الإسلام عملياً الأكثر استيعاباً وانفتاحاً وشمولية بين الأديان الثلاثة ، فهو يقوم على اعتراف بمصداقية «أهل الكتاب» أي اليهودية والمسيحية، في أصلهما، ويعتبر نفسه خاتمة للأديان التوحيدية ومهيمناً عليها. وقد انعكس ذلك في الممارسة الفعلية حين تسنى لكل دين من هذه الأديان الثلاثة أن يكون بمنزلة الحاكم السياسي للقدس، ففي حين حرّم الصليبيون على المسلمين دخول القدس أو ممارسة شعائرهم المقدسة فيها، وصادروا الأماكن الإسلامية المقدسة، لا سيما منها قبة الصخرة والمسجد الأقصى والحرم الشريف، وقاموا بـ «تنصيرها»، كما قام اليهود بعد احتلالهم القدس في حزيران 1967م بمحاولة لم تتوقف حتى الآن عن تهويدها « المنهجي » بكل الوسائل الممكنة، فإن العرب المسلمين قد تركوا بيت المقدس حرّاً ومفتوحاً أمام المسيحيين واليهود على حدٍّ سواء، وتولوا حماية مقدساتهم، وعوضوا باستمرار عن أي أذى يلحق بها.
يصدر الإسلام في تصوراته الاعتقادية الكبرى لجغرافيته المقدسة عن نظرة توحيدية عميقة لتاريخ الأديان، ترى أن هناك وحياً إلهياً واحداً يتجسَّد في عدة أديان توحيدية، وفي مقدمتها اليهودية والمسيحية، (قبل انحرافهما) ويشكل الإسلام ذروة اكتمال هذه الشرائع وخاتمتها في آنٍ واحد، من هنا أعاد استيعاب الأديان التي سبقته ضمن رؤيته التوحيدية، وهو ما يفسر إيمانه بالأنبياء السابقين وتصديقهم وعدم التفريق بينهم: {قولوا آمنا بالله ، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون} [سورة البقرة/ 136].
وحدة الجغرافيا الإسلامية المقدسة:size=3>
تقوم المنظومة الجغرافية الإسلامية على الوحدة، وتتألّف هذه الوحدة من ثلاثة أطراف متدرجة القداسة، إلاّ أنها متكاملة ومترابطة، وهي: مكة (البيت الحرام) والمدينة (المسجد النبوي) والقدس (المسجد الأقصى والصخرة الشريفة). وينبني ترابط أطراف هذه المنظومة ووحدتها على رؤية الإسلام التوحيدية للأصل الإبراهيمي الحنيفي الواحد الذي تعود إليه الديانات الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) إذ قدم الإسلام نفسه بوصفه عودة باليهودية والمسيحية إلى هذا الأصل {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [البقرة/ 135] {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين} [سورة آل عمران/ 67]، وقد ترتب على ذلك أن نظر الإسلام إلى الأنبياء على أنهم بالدرجة نفسها أنبياء الإسلام، ومن هنا شملت رؤيته للجغرافيا المقدسة (المباركة) المجال الجغرافي المقدس لهؤلاء الأنبياء، وأصبحت أطراف هذه الجغرافيا (مكة والمدينة والقدس)، موصولة فيما بينها إلهياً. بهذا المعنى يضع الإسلام نفسه في أول الوحي الإلهي وخاتمته في آن واحد، ولعل هذا الأصل الإبراهيمي التوحيدي المؤسس هو الذي يفسر المعتقد الإسلامي بأن إبراهيم، أبا الجميع، هو الذي أعاد مع ابنه إسماعيل بناء المسجد الحرام في مكة، وأن الله أمر يعقوب بعمارة بيت المقدس ، وكذلك سليمان، ثم يأتي الدور المحمدي ليكمل ما بناه هؤلاء ويرفع معانيه إلى حدودها القصوى، ويعني ذلك أن التصور الإسلامي للمكان المقدس (المبارك) قائم في الأصل الإبراهيمي الأول للتوحيد، ولم يكن معراج النبي (صلى الله عليه وسلم ومن ذلك من الصخرة في بيت المقدس إلى السماء إلاّ تأكيداً نهائياً للعرى المقدسة ما بين مكة والمدينةو القدس، وما بين هذه مجتمعة وبين السماء. وعلى هذه الأرض المقدسة تداخل الزمني والقدسي المطلق، على نحو خارق متجسداً في الإسراء والمعراج، ومن هنا لا تشكل القدس مجرد مكان «عزيز» أو عرضاً في الجغرافيا الإسلامية المقدسة، بل أصلاً تكوينياً فيها.
أكد الإسلام قدسيّة القدس ، إلاّ أنه أعاد بناءها في منظومة تتمحور حول البيت الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس يأخذ فيها البيت الحرام موقع المحرق في هذه المنظومة، والتي تقول ـ كما يثبت في المعتقد الإسلامي ـ إن إبراهيم أبا الأنبياء هو الذي بناه.
تنتمي قداسة القدس إلى المجال العقيدي الإسلامي نفسه، وليس إلى مجرد مجاله الفقهي الذي لم يبنى في الأصل إلاّ على الأساس الاعتقادي، وعبر عن ذلك المستشرق ماسينيون حين قال: «إن الإسلام لا يمكنه أن يقبل أن تنتزع من يده القدس من دون إنكاره للرسول… ما من مسلم مؤمن يقبل بالتنازل… إن أورشليم القدس هي نقطة تلاقي الإسلام الذي ولد في الصحراء العربية، وتلاحمه مع الإنسانية العالمية».
تشترك هذه المنظومة الجغرافية المؤلفة من (مكة، المدينة، القدس) جميعاً بـ «القدِم» أي إن قدسيتها (مباركتها) سابقةٌ لأي بناءٍ شيّد عليها، إنها بهذا المعنى ذات أصل سماوي، إذ إن الحجر الأسود والصخرة الشريفة هما في الرؤية الإسلامية ذوا صلة بالسماء العليا، وقد ربطتهما رمزية الإسراء والمعراج بعرى روحيّة، فتبادلتا موقع «القبلة» في صلاة المسلمين. وهذا التبادل تعبير عما يوحِّدهما.
قداسة المكان سابقة لبنائه في أطراف المنظومة الجغرافية الإسلامية الثلاثية لكن في حالة المسجد الحرام والمسجد الأقصى نلحظ أن البناء أقدم من البناء الذي شيّده إبراهيم في مكة، ومن بناء سليمان في بيت المقدس، إذ بنتهما الملائكة حتى قبل أن يخلق الله آدم، إن إبراهيم رفع القواعد فقط وهذا هو مدلول قوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل..} [سورة البقرة/ 127].
وهو ما يعني أن قدم البيت الحرام في العقيدة الإسلامية أكبر بالقياس إلى الفترة الزمنية التي أقام إبراهيم قواعده فيها. وينطبق الأمر نفسه على المسجد الأقصى، ففضلاً عن الأحاديث التي تشير إلى أن الملائكة بنت المسجد الحرام قبل آدم بألفي عام، والحديث الذي يشير إلى أن الفارق الزمني بين بناء المسجدين (الحرام والأقصى) هو أربعون عاماً، فإن هناك حديثاً طويلاً رواه البخاري عن ابن عباس في قصة هاجر جاء فيه ما يشير إلى أن إبراهيم لم يبن الكعبة وإنما رفع قواعدها وحسب.
بل إن الآية {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين} [سورة آل عمران/ 96] لتشير بوضوح إلى أنه كان أول بيت للعبادة على الأرض. وفي بعض الروايات تشير الرؤية الإسلامية إلى أن النبي سليمان قد بنى بيت المقدس أيضاً على أسس قديمة، تماماً كما بنى إبراهيم البيت الحرام على أساس قديم.
وإذا كانت المنظومة الجغرافية الإسلامية تضع القدس في إطار ترابطية أطرافها في الموقع الثالث بعد البيت الحرام فإنها تشير وفق الحديث المتفق على صحته إلى أنَّ بناء المسجد الأقصى كان بعد المسجد الحرام. بل إن بناء البيت الحرام في وادٍ غير ذي زرع يشبه في الرؤية الإسلامية الرمزية بناء القدس وسط سلسلة جبلية ومحيط صخري قاحل.
نموذج سماوي:size=3>
روايات عديدة ـ على اختلاف في درجاتها وصحتها ـ تؤكد أن الحجر الأسود نزل من الجنة ويروى عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قوله: إن جبريل عليه السلام نزل بالحجارة من الجنة، وأنه وضعه حيث رأيتم، إنكم لم تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيكم، فتمسَّكوا به ما استطعتم.
وإذا كان هذا شأن الحجر الأسود، فإن البيت المقدس وصخرته هي أيضاً سماوية، فد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: «من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس» وكما روى الصحابي أنس بن مالك: «إن الجنة لتحن شوقاً إلى البيت المقدس، وبيت المقدس من جنة الفردوس»، وعن ابن عباس أن صخرة بيت المقدس من صخور الجنة.. وروايات عديدة أخرى تؤكد ذلك، وهذا يعني أن للمسجد الحرام والمسجد الأقصى في الرؤية الإسلامية ما يجسدهما في السماء، بل إن حجرهما (الحجر الأسود والصخرة الشريفة) هو حجر سماوي يلاحم ما بينهما ضمن تصور إسلامي لمكان مقدس واحد.
في إطار الرؤية الإبراهيمية لتاريخ الأديان السماوية، إن تراتبية أطراف المنظومة الجغرافية الإسلامية للأرض المباركة (مكة، المدينة، المقدس) لا تنفي أبداً أن مكة تبطن القدس في داخلها كما أن القدس تبطن مكة. ولقد بلغ من عمق تجذر هذه الجغرافيا المقدسة في وعي المسلمين أن بعض المفسرين فسروا الآيات القرآنية المتعلقة بها في ضوء وحدة تلك الجغرافيا نفسها.
size=3>القدس ومكة: تبادل موقع القبلة:
size=3>يمثل تبادل مكة (البيت الحرام) والقدس (المسجد الأقصى) دور «قبلة» المسلمين مظهراً من أهم مظاهر وحدة القداسة الإسلامية التي تربط مكة مع القدس. إن مكة هي القبلة التي يوجه المسلمون وجوههم نحوها أنى كانوا لإقامة الصلاة، وقد كانت القدس قبلتهم الأولى إلى أن نزل الوحي الإلهي بتوجيه القبلة شطر المسجد الحرام. ويجد هذا تفسيره بأن المسجد الحرام هو أول ما بناه الله تعالى قبل الخليقة ثم وصله ببيت المقدس ، من هنا تعبر هذه الرمزية عن الوحدة البدئية الجوهرية الإلهية ما بين المسجدين الحرام والأقصى في أن الكعبة ومكة والمدينة ستؤوب يوم النشور إلى بيت المقدس، فتزفُّ الكعبة بجميع حجاجها إلى بيت المقدس وتزف جميع مساجد الأرض إلى بيت المقدس، كما تذكر الروايات بهذا المعنى.
كان بيت المقدس وما يزال أولى القبلتين، لا يفارق هذا الوصف وعي أي مسلم حتى اليوم، وإن نقل القبلة منه إلى الكعبة في عصر النبوة لم يغيّر من مكانة القدس في المنظومة الرمزية الإسلامية وإن كان أعطى مكة أفضليّة نسبية، وربما كان في هذا التحويل ما ساعد المسلمين على تكوين هويتهم الإسلامية التوحيدية المميَّزة حين أداروا ظهورهم لتقاليد أسلافهم الوثنية.size=3>size=3>
لقد كانت مكة حينئذ ملوثة بالأوثان، فكان توجه المسلمين نحو المركز الروحي لأهل الكتاب أي القدس، علامة على التوجيه نحو العقيدة الإبراهيمية الأصلية، وعلامة على استمرار دين الوحي بها، إلى أن نزلت الآية القرآنية بالتحول إلى الكعبة المشرفة، ولقد وصف البعض تغيير القبلة بأنه أكثر إيحاءات الإسلام إبداعاً، إذ كان ذلك التغيير علامة على عودة المسلمين إلى عقيدة إبراهيم الأصلية قبل تحريفها، ومثَّل ذلك محاولة لاستعادة وحدة اعتقادية ديانية {كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} مفتقدة، يمثلها البيت العتيق (البيت الحرام) الذي أعاد بناءه إبراهيم المسلم الحق، وانطوى ذلك على تأكيد الإسلام لأنه لن ينحني لأي من الديانات المحرفة القائمة، بل لله الواحد: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون.. قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}
size=3>الصور الجغرافية المقدسّة: سلوان، زمزم، الصخرة:
size=3>تشكل الينابيع المباركة إحدى هذه الصور الدلالية الجغرافية للمقدس في الإسلام، فليس المقصود في هذه الآليات «معنى» الماء بل «معنى معناه»، فصورة «عين سلوان» نبع القدس الشهير، وصورة عين «زمزم» الذي يقول المسلمون إن ماءها العذب لا يجف لأنه موصول بالجنة، كلاهما من الصور الجغرافية الإسلامية الرمزية التي ينبني أساسها على الترابط ما بين قدسية الكعبة والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فتتبادل العينان المباركتان: سلوان (في القدس) وزمزم (في مكة) الوظائف، وتتكرران فيما بينهما، وتوحي الأحاديث النبوية الشريفة بهذه الحميمية ما بين العينين، وتأسيساً على هذا التصور يقول الشاعر العربي أبو العلاء المعري:
وبعين سلوان التي في قدسها.. … .. طعم يوهم أنه من زمزمsize=3>
وتستمد الصخرة الشريفة مكانها القدسية من موقعها في رحلة الإسراء والمعراج النبوية التي أسرى فيها الملاك «جبريل» بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلاً على «البراق» من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، ومن «الصخرة» في هذا المسجد «عرج» الله تعالى به إلى السماء، وهو ما رسخ في الفكر الإسلامي إلى الأبد موقع القدس كبابٍ للسماء. size=3>size=3>
وهناك روايات عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفضائل تقول: «القدس هي الأرض المقدسة التي بارك الله فيها للعالمين، لأن كل ماء عذب في الأرض منها يخرج من أصل الصخرة التي في بيت المقدس، يهبط من السماء إلى الأرض، ثم ينصرف في الأرض، وهكذا تكاد الصخرة هنا تأخذ موضع مركز العالم وهو ما تؤكّده بعض الروايات عن الصحابة والتابعين: أن «صخرة بيت المقدس وسط الدنيا» (بلفظ مقاتل)، وروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجيباً عبد الله بن سلام عن سبب تسمية مسجد القدس بـ «المسجد الأقصى» قال: «لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئاً ولا ينقص».size=3>size=3>
كما أن الصخرة هي في أصل ممر ماء الحياة وتدفقه إلى البشر، فإنها في أصل البشر أنفسهم، بوجود رأس آدم أبي البشر عندها كما تذكر بعض الروايات الضعيفة، ومن هنا يذهب بعض المفسرين إلى أن إبراهيم الخليل قد اختار حين أراد أن يمتحن اللهُ صحة إسلامه الصخرة الشريفة مكاناً للتضحية بولده، حيث تم فداؤه في اللحظة الأخيرة بكبش سمين، أصبح فيما بعد يشكل أصل احتفال المسلمين جميعاً في شتى بقاع الأرض بعيد الأضحى، أو ما يسمى بتسمية رمزية دالة بـ «العيد الكبير» الذي يقع خلال موسم الحج السنوي إلى مكة، مع أن حادث الفداء لم يقع في مكة بل في القدس فوق الصخرة، وإن في الاحتفال بنحر الخراف التي أحل الله أكلها استعادة رمزية لحادث الافتداء.
أخيراً فإن القدس ترقد في صلب الرؤية الإسلامية لـ «نهاية العالم» (القيامة)، وفي آخر الزمان في الاعتقاد الإسلامي يعود المسيح (عيسى ابن مريم) ليقضي على المسيح الدجال أو الأعور الدجال، وينهي طغيانه وعجرفته وفساده، وتمثل القدس مركزاً يختتم به المشهد الدنيوي، ويبدأ به المشهد الأخروي فعن النبي (صلى الله عليه وسلم ): قال «[هو] أرض المحشر والمنشر».
في عودة المسيح عندما تظلم الدنيا، وينتشر الكفر الذي يسيطر على يد (الدجال) يلتجئ المسلمون إلى القدس، فينقدهم المسيح (نبي الله) من المسيح الدجال، ويقتله عند باب لد في القدس، والمسيح الدجال ليس من المسلمين، وجميع المسلمين سيتبعون لزوماً المسيح ابن مريم عليه السلام في بيت المقدس، وسيكون المسيح عيسى بن مريم إمامهم في الصلاة، وهو ما تذهب إليه الروايات، حيث يعود ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، وبذلك يكون الظهور الأخير للمسيح بمثابة استعادة للوحدة الأصلية للدين.
وتبدو رحلة الإسراء والمعراج النبوية إلى القدس، ومنها إلى السماء، وكأنها استعادة لرحلة النبي إبراهيم الخليل من الخليل إلى الكعبة ومن الكعبة إلى الخليل، وترسخ هذه الاستعادة الربط القدسي ما بين البيت الحرام والمسجد الأقصى بوصفه مركز الأرض المباركة، والتي كانت إسراء أرضيا سبق رحلة «إسراء» النبي صلى الله عليه وسلم من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه إلى السماء، لتكتمل الدائرة القدسية ما بين رحلة الجد الأول إبراهيم من الأرض المباركة إلى المسجد الحرام إلى الأرض المباركة، كانت رحلة الرسول رحلة مختارة بعناية إلهية ربطت ما بين عقائد التوحيد الكبرى، من لدن إبراهيم وإسماعيل إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين، كما أنها ربطت ما بين الأماكن المقدسة في ديانات التوحيد كلها، وكأنما أريد بهذه الرحلة على حد تعبير سيد قطب أن تعلن وراثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محمد لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بهم جميعاً.
ويمكن القول إن الإسلام قد تأسس روحياً في إسراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة المشرفة إلى القدس، قبل أن يتأسس تاريخياً ومدنياً في الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، ثم كانت العودة الصحراوية إلى مكة المشرفة للتركيز على الإيمان الجامع.
لقد انغرست القدس من خلال هذه الرحلة على نحوٍ أكثر تركيزاً وبشكل نهائي في الجغرافيا الإسلامية المقدسة، فكانت بمثابة خيط مقدس ربط نهائياً ما بين القدس ومكة والمدينة في قلب هذه المساحة القدسية الإسلامية، حيث ترابطت أطرافها في رباط تمتد نهايته القصوى إلى السماء.
size=3>size=3>