ليس المؤمن موجودًا في هذه الحياة لكنز الأموال ولا لتعمير الدور ولا لبناء القصور ، وجمع الأثاث ، والفرش ، والخدم ، والحشم ، فيضيع في ذلك عمره ، ويقضي فيه حياته ، وإنما ينبغي أن تنصرف همته إلى ما هو أعظم من ذلك ، وإن حصَّل من هذه الأمور شيئـًا تقرب إلى الله به ولا يشغله عن وظيفته الأساسية وهي عبادة الله .
أما الدعاة فنفوسهم أعلى من أن تستميلها هذه الأمور ، فيكفيهم من هذا ما يسد الخلة ، وتنقضي به الحاجة وتحفظ به النفس من الاستشراف والتطلع إلى ما عند الناس ، ولست أعني أن الداعي يجب أن يعيش معدمـًا صفرًا ، ولكن أعني أن يكون عالي النفس ، عزيزًا ، عفيفـًا ، فإن حصل له خير بكسب طيب فنعم المال الصالح للعبد الصالح ، وقد عرف تاريخ الدعوة دعاة عظماء ذوي غنى كان مالهم عونـًا لدعوتهم وخدمة للإسلام كعثمان ، وابن عوف ، والليث بن سعد ، وعبد الله بن المبارك – رضي الله عنهم – فالمال إن وجد للداعية فهو معين على الدعوة ، وإلا سما بنفسه وعف عما في أيدي الناس .
وبقدر ما تركن نفسه لهذه الأشياء بقدر ما يضيع عليه ويضر دعوته . وانظر إلى النبي – صل الله عليه وسلم – وقد أتاه عتبة بن ربيعة يغريه بهذه المغريات ليثنيه عن دعوته ويقول : ” يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد شرفـًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك ، وإن كنت تريد ملكـًا ملكناك علينا ” .
هذه رواية ابن إسحاق ، وفي مسند عبد بن حميد وأبي يعلى : ” قال : أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحدًا ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا ، فقال : فرغت ، قال : نعم ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : ” بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)size=3> إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَsize=3>)(فصلت/13) ، فقال عتبة : حسبك ، حسبك ” .
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” مالي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركهاsize=3> ” .
وقال – صلى الله عليه وسلم – لابن عمر – رضي الله عنهما – كما في البخاري : ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيلsize=3> ” .
ومن كان هذا حاله فإنما يأخذ من الدنيا بقدر ما يتبلغ به فقط ، ولذلك قال الحسن : ” دخلت بيوت أزواج النبي ولو أردت أن أمس السقف بيدي لمسسته”
فالداعية يترفع عن تضييع العمر في تحصيل هذا الحطام ، وبقدر ما يتعالى على هذه الأشياء بقدر ما يعز ويرتفع عند الله والناس ، وبقدر ما ينجح في دعوته .
قيل لبعضهم : بم سادكم الحسن ؟ قال : ” احتجنا لدينه واستغنى عن دنيانا”.
وكان الحسن يقول : ” من نافسكم في الآخرة فنافسوه ومن نافسكم في الدنيا فألقوها في نحره ” .
وكان أبو جعفر المنصور يرسل إلى سفيان الثوري ، وسفيان يتهرب منه ويأبى أن يذهب، حتى جاءه المنصور يومـًا فقال : سلنا حاجتك ، قال : أوَتجيبني ؟ قال : نعم ، قال : لا تأتي حتى أُرسل إليك، ولا تُعطني حتى أسألك.. فخرج المنصور يقول : كل الطيور علفناها فالتقطت إلا سفيان ” .size=3>size=3>
وقال ابن عيينة : ” دخل هشام الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله ، فقال : سلني حاجة ، قال : إني أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره ، فلما خرج قال : الآن فسلني حاجة ، قال : من حوائج الدنيا ؟ أم من حوائج الآخرة ؟ قال : من حوائج الدنيا ، قال : والله ما سألتُ الدنيا مَنْ يملكها ،
فكيف أسألها مَنْ لا يملكها”.(سير 4/466) .size=3>size=3>