ولد الشيخ بدر الدين الحسني في وقت ضرب فيه الوهن الخلافة العثمانية، وانتشر الفساد في إدارتها، وعمت الفتن في جميع أجزائها، وتداعت الأمم على المسلمين كتداعي الأكلة إلى قصعتها، وشهدت ولادة الشيخ تنامي الاتجاه في بلاد الشام والعالم العربي إلى الانفصال عن الخلافة العثمانية، ولا سيما بعدما حكمها الاتحاديون الطورانيون (الدونمة). وشاهد الشيخ فيما بعد بأم عينه أكبر الأحداث ثقلاً على المسلمين، حيث جاء عليه اليوم الذي أصبح فيه الاستقلال عن الخلافة العثمانية حقيقة ماثلة أمامه بكامل بؤسها، ثم كان إلغاء الخلافة برمتها، وقامت ما سمي بـ «الثورة العربية الكبرى» على يد الشريف حسين بن علي في مكة المكرمة. وعى التحالف الغربي الأوروبي للعرب ، وتقسيم بلادهم، ثم احتلالها، حيث كان نصيب بلاده (بلاد الشام) من حصة فرنسا .
الناس كانت تترقب من يجدد لهم أمر دينهم، يلتفون حوله في أعتى ظروف تجتاح الأمة الإسلامية، وكان ذاك الرجل هو الشيخ بدر الدين الحسني، الذي لم يأت مثله منذ وفاة العلامة محمد أمين بن عابدين والذي أصبح كتابه «الحاشية» مرجع الفقه الحنفي في بلدان العالم الإسلامي.
ينتهي نسب الشيخ بدر الدين إلى حفيد رسول الله الحسن رضي الله عنه، كان لوالده الشيخ يوسف الفضل في إعادة دار الحديث، بعد أن تحولت حانة خمر لأحد نصارى الشام، إلى عهدة العلم، وهي الدار التي درس فيها علماء الأمة الكبار من أمثال ابن الصلاح والنووي والسبكي والمزّي.
بعد وفاة والده وهو ابن اثني عشر عاماً، درس في المدرسة القلبقجية بدمشق، وحفظ القرآن فيها ودرس العلوم على يد الشيخ أبو الخير الخطيب أبرز علماء دمشق آنذاك، اشتهر بحفظ نادر في الحديث النبوي وأسانيده، وعندما بدأ التدريس في جامع السادات ذاع صيته، كمحدّث، وكثر عليه الطلاب، فعينت له الدولة العثمانية راتباً إلزامياً.
عرف عنه الذكاء النادر، والفراسة الكبيرة، وحسن الخلق والتلطف، والزهد، والإيثار، والمواظبة على العلم ونشره؛ فقد أمضى حياته في الدرس والمطالعة والتدريس ما بين داره في حي النقاشات بجوار الجامع الأموي وما بين دار الحديث الأشرفية، وما بين قبة النسر في الجامع الأموي الكبير في دمشق.
قليل الكلام لا يتكلم إلاّ لضرورة، كثير العبادة، شهد له أبناء عصره بالتقوى والورع، مطبوع على مكارم الأخلاق، متمسك بما عليه السلف الصالح، كان لا يحب أن يخرج في غير هيئتهم، ويرى الإفراط في التأنق في الملبس من سفساف الأمور، وكان يراه الرجل حتى ليخال أنه واحدٌ من الصحابة أو التابعين، اقتطع من ذلك الزمان وجيء به إلينا، وهو أمر زرع له الهيبة العظيمة في النفوس، وبتواضعه الجم في غير ذل، وتعظيمه للعلماء واحترامه للناس عامتهم وخاصتهم جعله عظيم الإكبار والإجلال في قلوبهم.
الاهتمام بالشبابsize=3>
كان يجد في الشباب مصير الأمة ومستقبلها، فقد كان حريصاً على التقرب إليهم والاهتمام الفائق بهم، حتى ليشار إلى خصاله بتقربه من الشباب.
التقرب إلى السلطان أو العمل في دواوينه يعني له أنه لن يستطيع أن يقول كل الحق، فما كان – لذلك – يدخل ديوان الحكومة قط إلاّ لشفاعة أو مصلحة عامة، بل كان يرسل خواص تلاميذه لينوب عنه مما يريده الشيخ ويقضي حاجته.
وهو لذلك عفٌّ عن الألقاب الكبيرة، والتفاخر بها، ذلك أنه لا يجد نفسه في العباد، وإنما في علاقته برب العباد، ولذلك عندما أرسلوا إليه عريضة يقرؤونها ليقدموها إلى الحكومة وذكر فيها تلامذته عبارة: (إن سيدنا ومولانا المحدث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني يريد كذا وكذا…) غضب الشيخ، ومزّق الورق، فأعيدت كتابتها من غير ألقاب، فسرّ بذلك الشيخ.
وعندما شاع خبر أنه سيُخطب باسم الخليفة الأعظم على المنابر باسم الشيخ محمد بدر الدين الحسني خليفةً للمسلمين، وذلك عندما أعلن الدستور في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، واشرأبت قلوب الناس لأن يكون الشيخ يومئذٍ خليفة للمسلمين، اتصل الخبر بالدولة العثمانية والجمعيات السياسية، فاهتمت الحكومة له، ولم يكن الشيخ على علم بذلك، وخشيت الحكومة مغبّة ذلك الأمر، فأبرق وزير الخارجية في مصر إلى والي دمشق ناظم باشا، بإجراء التحقيقات، والاحتياط لهذه القضية المهمة، ولما وصل الوالي إلى الشيخ، قال له الشيخ بدر الدين: يابا إنني لست متفرغاً إلاّ للدرس!.
صيته الذائع عن علمه وشخصيته، أحضر العلماء من كل مكان للالتقاء به، فاستمع الشيخ بخيت المطيعي إلى درسه، وقال له: لو جئتمونا إلى مصر، لافتخرت بكم مصر كلها، ولدرس عليكم علماؤها في الأزهر الشريف. وعندما زاره الشيخ محمد عبده أعجب به غاية الإعجاب..
وكان الشيخ يرى أن عزة الإسلام يجب التمسُّك بها، ولهذا عندما كان يأتيه سلطان أو والي أو ضابط جنرال لا يقوم له، فقد جاء إليه الجنرال الفرنسي غورو المندوب السامي الأول، لم يقم له الشيخ، وزاره جمال باشا فلم يقم له أيضاً، وحاول آنئذٍ أن يأخذ فتوى منه في إعدام من سموّا لاحقاً بـ «شهداء السادس من أيار» فرفض الشيخ ووعظه.
وعندما أرسل السلطان عبد الحميد الثاني باخرةً للشيخ بدر يدعوه مع من أراد لمجتمع عنده ودعى له العلماء، لما سَمع عنه من علمٍ وخلق، وزهدٍ وعبادة، فلما قرأ الكتاب المرسل إليه، قال للرسول: «يابا.. ما في إذن» وعادت الباخرة من حيث أتت فارغة.
size=3>الجهاد المقدس
size=3>عندما تغلب الفرنسيون على البلاد، واحتلوها، أعلن الشيخ الجهاد المقدس، حتى جلاء آخر جندي فرنسي عن البلاد، وسافر في حملة «جهادية ضد المستعمر الفرنسي للأمة المسلمة في بلاد الشام»، وجاب الولايات الشامية من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، برفقة تلميذيه العالمين القديرين الشيخ علي الدقر، والشيخ هاشم الخطيب، داعياً إلى الثورة على الاحتلال والاضطهاد الذي وقع على المسلمين، ومحرضاً على الجهاد والقتال بحماس منقطع النظير، فما لبث أن اندلعت الثورة السورية الكبرى، والتي اعتبر منذ ذلك الوقت أباها.
كان الشيخ يجتمع بوجهاء دمشق وشجعانها، فيأتون إلى دار الحديث بكامل أسلحتهم فرساناً وركباناً، يؤدُّون أن يسلموا على الشيخ، ويتبركوا بدعائه، فيقفون قريباً من دار الحديث ينتظرون قدوم الشيخ عليهم، فينزل من غرفته ـ وكان لا ينزل إلاّ لأمر مهم ـ فيمرُّ بينهم، وهم مصطفّون أقساماً، على الخيول المطهّمة، ومشاةً مسلحين، يوجههم إلى تقوى الله عز وجل، ويدعوهم إلى طلب الفرج منه، والنصر على الأعداء، ولا يزال يمشي ويسلم عليهم وهم يتبركون به، ثم يودعهم ويرجع إلى دار الحديث فيذهبون وقد أذكى الشيخ فيهم نار الحماس، وهم يطلقون الرصاص، وتعلو أصواتهم بالأهازيج الحماسية.
أثارت دعوة الشيخ للجهاد نقمة الفرنسيين، فجاؤوا إلى دار الحديث ممثلين بالمندوب السامي الفرنسي ليثنوه عن دعوته، فقال الشيخ له: لا تهدأ هذه الثورة إلاّ بخروجكم، فغضب المندوب السامي وخرج.
كان الشيخ كثير الاهتمام بالثورة والمجاهدين، ودائم الاتصال بزعمائهم، إذ كان المجاهدان حسن الخرَّاط، الشيخ محمد الأشمر (من أشهر قادة المجاهدين) يأتيان كل صباح قبيل الفجر ليقابلا الشيخ بدار الحديث فيوجههما التوجيه المفيد، ويربط قلبيهما بالله، فيزدادان ثقة بالله واتكالاً عليه. وكان الشيخ يمدهما بالذخيرة والمؤن، وما يحتاجان إليه بطريق بعض طلابه المخلصين، وقد جعل الشيخ من يكون همزة وصل بينه وبين الثوار فيقدم له بياناً يومياً عن الثورة ومعارك الثوار.
كانت رمزية الشيخ بدر الدين وحضوره عند الثوار عظيماً، ولهذا مثلاً كانا المحكمة العسكرية التي يقيمها حسن الخراط من علماء مجاهدين لكي يقضي بالشريعة يُصدِّر حكمها باسم إمام المسلمين المحدِّث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني.
size=3>وصية قبل الوفاة
size=3>size=3>وتوفي الشيخ قبل أن يتم طرد آخر جندي فرنسي محتل من سوريا. توفي الشيخ مريضاً قبل أن يكحل عينه بيوم الجلاء، وترك وصيةً لم تخلف درهماً ولا ديناراً، ولكن موعظة بتقوى الله وخوفاً على الأمة، وحثاً على طلب العلم واحترام العلماء، فقد حضر علماء الشام ومحبوه في بيته قبيل وفاته، فأوصاهم قائلاً:
«السلام على أمة النبي ـ ونستغفر الله ما صدر منا حال وجودنا في الدنيا مع الأمة الإسلامية من التقصير في حقهم والإساءة إليهم، بل في حق عموم الخلق، ونسأل الله أن يستعملهم فيما يرضيه ويصرف عنهم كيد الأشرار والفجار ، ونستودعهم الله عز وجل في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على أمر دينهم ودنياهم، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على أمر دينهم الذي فيه صلاحهم وعلى دنياهم التي فيها معاشهم وعلى آخرتهم التي فيها معاهدتهم ومصيرهم.
(…) وأوصيهم بالانكباب على طلب العلم لصيانته من الضياع، واحترام العلماء، والسلام على أهل السلام وكافة الناس من أولهم إلى آخرهم».
توفي الشيخ يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 1354هـ، وخرجت جنازته فخرجت فيها الشام كلها، ودفن في مقبرة الباب الصغير، جنوبي دمشق، حيث قبر العلامة ابن قيم الجوزية.
………………………………..
تلخيص ومراجعة عبد الرحمن الحاجsize=3>size=3>