إثبات الشهور القمرية بين الفقه والفلك

إثبات الشهور القمرية بين الفقه والفلك في سنة 1939 كان عيد الأضحى في مصر يوم الاثنين وفي السعودية يوم الثلاثاء وفي بومباي يوم الأربعاء فأثارت هذه الاختلافات العمل الفقهي من جديد في موضوع إثبات الشهور العربية خصوصا مع تقدم البحث الفلكي وحساباته لقد كان وما يزال هناك اختلاف فقهي كبير في طرق تحديد بدايات الأشه
في سنة 1939 كان عيد الأضحى في مصر يوم الاثنين ، وفي السعودية يوم الثلاثاء ، وفي بومباي يوم الأربعاء فأثارت هذه الاختلافات العمل الفقهي من جديد في موضوع إثبات الشهور العربية ، خصوصًا مع تقدم البحث الفلكي وحساباته .. لقد كان وما يزال هناك اختلاف فقهي كبير في طرق تحديد بدايات الأشهر القمرية ، وفي اعتماد الرؤية أو الحساب في التحديد ، وقد عقد من أجل حسمها في النصف الأخير من القرن العشرين ما يزيد عن عشرين مؤتمرًا فلكيًا وفقهيًا تناولت المشاكل الفقهية والفلكية بالدرس والتحليل .

تدور الخلافات الفقهية حول ثلاث قضايا رئيسية :

1. طريقة إثبات الشهر بالرؤية أم بالحساب .

2. تحديد الشهر القمري بالإهلال أم بالاقتران .

3. اعتبار المطالع ( تعدد المطالع ) قبوله أو إلغاؤه .

    بالنسبة للرؤية فلا خلاف في شرعيتها ، فهي التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ” صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته” ولكن الفقهاء اختلفوا في حقيقة الرؤية وفي صورها ، وفي أهلها وعددهم ، وفي شروط صحتها ، وفي وسيلتها ، وفي أدائها ( كيفية التعبير عنها ) وفي نقلها وغير ذلك .

   وما من شك بأن الرؤية البصرية كانت الوسيلة الوحيدة لإثبات الأهلة في القرون الهجرية الأولى خصوصًا ، والقرون التالية لها عمومًا . ولكن مع ظهور وتطور علم الفلك ، ابتداءً من القرن الثالث للهجرة النبوية ، ظهر الحساب الفلكي وسيلةٍ ثانوية في الإثبات في بعض الحالات الخاصة .

   ولكن جمهور الفقهاء لا يرون الحساب وسيلة للإثبات ، وكان التابعي الجليل مُطَرف بن عبد الله الشِّخِّير ( ت 78هـ ) أول من قال بالحساب طريقًا شرعيًا لإثبات الرؤية ، وممن قال بعد ذلك بالحساب : ابن مقاتل الرازي ( من أصحاب محمد بن إسحاق الشيباني تلميذ أبي حنيفة وصاحبه ) ، والقاضي عبد الجبار ، وابن قتيبة الدينوري ( ت 276هـ ) وابن شريح الشافعي ( ت 301) ( الذي اعتبر مجدد المئة الثالثة ) وهو أول من قال من الشافعية بالحساب ، وتبعه تلميذه النقال الكبير الشاشي الشافعي ، ثم ابن دقيق العيد ، فالسبكي الشافعي (756هـ ) الذي ألف بحثًا مستقلاً سمّاه : ” العلم المنشور في إثبات الشهور ” دافع فيه بقوة عن رأيه في رد الشهادة بالرؤية إذا خالفت مقتضى الحساب الصحيح ، وقد رجح هذا القول كثير من الشافعية وهو قول عند المالكية .

    ويعتبر طنطاوي جوهري أول من أثار المسألة في القرن العشرين . واعتبر الحساب في الإثبات ، وصنف رسالة”الهلال” يستدل فيها على رأيه عام 1913م .

وكان للشيخ الأكبر محمد مصطفى المراغي ( رئيس المحكمة الشرعية العليا ) رأي كرأي السبكي يرد شهادة الشهود إذا نفى الحساب إمكانية الرؤية حوالي (1925) . ثم جاء الشيخ محمد رشيد رضا عام 1927، وتبنى العمل بالحساب القطعي ودافع عنه ، ثم العلامة محمد بخيت المطيعي ( مفتي الحنفية ) ، الذي صنف في ذلك كتابًا عام (1933) ، بعنوان ” إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة ” ، يربو على الأربعمائة صفحة ، وكذلك الحافظ ابن الصديق الغماري-1953 وقد صنف كتابًا أسماه ” توجيه الأنظار لتوحيد المسلمين في الصوم والإفطار ” >

ويعتبر أحمد محمد شاكر (المحدّث ) المصري أشهر من قال بالحساب في رسالته المدونة ” أوائل الشهور العربية هل يجوز إثباتها بالحساب الفلكي ؟ ” عام (1939) ، واشتهر من بعده عدد من كبار الفقهاء المعاصرين ، من أمثال العلماء : فتحي الدريني ومصطفى الزرقا ويوسف القرضاوي .

   تتلخص المشكلة الفقهية في اعتبار الرؤية تعبدية أم معللة بالظروف القائمة زمن النبوة ، حيث يميل معظم الباحثين إلى اعتبارها تعبدية ، فيما يذهب كل من ذكرناهم إلى اعتبارها (الرؤية ) معللة ، وعلى سبيل المثال يعلق العلامة أحمد شاكر على النص النبوي الصحيح ” إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ” بقوله : ” وقد أصاب علماؤنا المتقدمون -رحمهم الله – في تفسير معنى الحديث ، وأخطؤوا في تأويله ؛ فالتفسير في أن العبرة للرؤية لا بالحساب صواب ، والتأويل في أنه لو حدث من يعرف ( الحساب ) أصبح الحكم في الصوم باعتبار الرؤية وحدها خطأ ، وذلك لأن الأمر باعتماد الرؤية جاء معللاً بعلةٍ منصوصة ، والعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا ، فإذا خرجت الآن عن أميتها ( في الحساب ) وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت ، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده .. وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة مانعه وجب أيضًا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة ، إمكان الرؤية وعدم إمكانها ، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس ولو بلحظةٍ واحدة ، وهذا يعني أنه يوجب اعتبار الحساب الاقتراني الغروبي ” .

   على كل الأحوال فإن ما قاله الشيخ شاكر بصدد الحديث النبوي الشريف يلخص موقف المعاصرين من قضية الحساب . وبالرغم من دعوة أحد علماء الفلك المسلمين الثقات في علمهم ودينهم في الولايات المتحدة الأمريكية ليحضر دورة عمان لمجمع الفقه الإسلامي المنعقد في عمان (1406هـ ) ، والاستماع إليه في موضوع الحساب ، ضَمّن أعضاء المجمع عدم الأخذ بالحساب والاكتفاء بالاستئناس به . وعقّب الشيخ الزرقا قائلاً : ” وطلبت أنا من الرئاسة أن يُسجَّل في محضر الجلسة أني أنا (باسمي ) المخالف الوحيد في قرار المجمع هذا ، ولا يُكتفى بالقول في القرار أنه صدر بالأكثرية ” .

وإذا كان هذا شأن الخلاف في أصل الحساب ، فإن ثم خلافًا في اعتبار بداية الشهر : هل هو بالإهلال أم بالاقتران ؟

    فجمهور الفقهاء على أن الأصل في تحديد البداية للشهر مولد الهلال الجديد ، والذي يتم عادةً بعد فترة من لحظة الاقتران ، أي أن البداية ليست الاقتران ، وأقدم من صرح بالاعتماد على الاقتران بداية للشهر القمري هو العلامة الرملي ( الشافعي الصغير ) ( ت 1000هـ ) وقد أخذه عن والده الرملي الكبير ( ت 957) . وكثير من العلماء والفقهاء في القرن العشرين يذهبون إلى أن الاقتران ” هو بداية للشهر العربي .

وقد أقرت لجنة من مجمع البحوث في الأزهر – بعد دراسة مستفيضة – طريقة الحساب الفكلي الاقتراني ، واعتبرتها مقبولة .

وتكمن المشكلة – في الإهلال أم الاقتران – في أن حساب رؤية الهلال ما تزال غير دقيقة ، وغير محسومة بالرغم من اكتشاف خط الرؤية من قبل الفلكي الماليزي المسلم محمد إلياس ، وبالرغم من تقدم الحساب من خلال نموذج برادي سيفر الباحث والعالم الفلكي الأمريكي في وكالة ناساالفضائية . فالمعايير ما تزال ميدانًا للاختلاف والاضطراب ، أما التحديد بالحساب الاقتراني فإنه يتم بكثير من الدقة ، فهو يرتبط بتحولات هندسية بحتة ، وهي الأوضاع النسبية للكواكب الثلاثة ( الأرض ، الشمس ، القمر ) ، منذ زمن طويل نسبيًا ( باستر ونيوتن ) ، وهو يتم بخطأ لا يتجاوز الدقيقة الواحدة في أيامنا هذه ، ومن المفيد الإشارة إلى أن كسوف الشمس في العام (1999م ) كان معروفًا بدقة منذ خمسين عامًا .

   فلو كان إثبات الشهرالقمري يتأسس على الاقتراني ( كما هو الحال في تونس مثلاً ) لما كانت هناك مشكلة فلكية ذات اعتبار ، ولكن تحديده من خلال رؤية الهلال يعقِّد المسألة ويُدخل فيها عوامل فيزيولوجية وجغرافية وفيزيائية .

    لقد تدرجت قرارات المؤتمرات والمجامع الفقهية من رفض الحساب الفلكي ، إلى الاستئناس به ، إلى قبوله في النفي ( نفي الثبوت ) لا نفي الإثبات ، إلى قبوله عند تعذُّر الرؤية ، إلى قبوله وتحديد شروط الرؤية ، إلى قبوله على أساس الاقتران .

   إن التحديد لبدايات الأشهر العربية يرتبط بخلافات فقهيَّة وفلكية متعددة فضلاً عن السياسية ، وإن اتخاذ موقف فقهي أكثري ما يزال بعيد المنال ، بالرغم من أهميته في حسم التوحيد السياسي وضبطه له .

    لقد كُتِبَت آلاف الصفحات ومئات المقالات والبحوث والكتب تعالج مشكلة إثبات بدايات الشهور القمرية ، لكنها بقيت عاجزةً عن ذلك ، وقد استطاع البحث الذي قدمه العالم الفلكي العربي الدكتور جلال الدين خانجي في بحثه ( الذي اعتمدنا عليه في هذا المقال ) الذي قدمه إلى الندوة الفلكية السنوية السادسة في عمان ( 2- 3 ديسمبر 1999) ، حول التطبيقات الفلكية في الشريعة الإسلامية تحت عنوان أوائل الشهور العربية : بين إشكالية التحديد وأصل التوحيد . برعاية الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك في الأردن ، استطاع أن يرصد كل تلك المشكلات ( الفقهية والفلكية والسياسية ) من منظور تاريخي يفتح أمامنا نقاطًا محدّدة للمعالجة . وهو العضو المؤسس في الاتحاد العربي لعلوم الفلك والفضاء .

 

Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *