– من المعروف عنكم أنكم بدأتم النشاط السياسي في مرحلة متأخرة ، فما هي الظروف الشخصية والموضوعية التي دفعتكم إلى الدخول في المعترك السياسي والترشح لمجلس الشعب في الفترة الأولى عام 1994م ؟
لم يكن لي في البداية اهتمام بالشأن العام ،فقد كانت اهتماماتي محصورة بالشركة التي كنت مديرها في سنة 1994م ، إذ كان عدد العاملين يزيد على (1400) عامل ، فكانت كل اهتماماتي منصبَّة في خلق جو عمل يمكن لي أن أصفه بأنه وصل إلى حالة أقرب ما تكون إلى المثالية ، وعند ازدياد الحديث عن الانتخابات وقبل انتهاء مدة قبول طلبات الترشيح ، طلب مني ثلاثة من الأصدقاء – والذين لا يوجد بينهم رابط – طلبوا مني الترشح لمجلس الشعب ، وذلك من منطلق أنني قد أستطيع أن أقدم شيئاً في مجال الإصلاح الاقتصادي ، وفي مجال تحسين وضع الصناعة في سوريا ، فكرت بالموضوع بشكل جدي ودخلت الانتخابات ؛ فكانت المفاجأة بحصولي على أعلى أصوات المستقلين في دمشق .
-كل هذه الدوافع هي دوافع موضوعية من قبل أصدقائك ، ألم يكن لديك دوافع شخصية ؟
قبل أن أرى الأصدقاء لم يكن لدي دوافع شخصية -كي نكون دقيقين في الحديث – لأني كنت لا أؤمن بجدوى الدخول إلى المعترك السياسي ، فقد كنت أرفض أي نشاط سياسي ، ولذلك انكفأت على الاهتمام بالصناعة ، وطورت عملي في مجال الصناعة ، فكنت لا أقرأ حتى الجريدة اليومية ولم يكن لدي أي اهتمام سياسي ، ذلك أني وصلت إلى قناعة بأن السياسة في سوريا هي سياسة عبثية ، وأن دخول مجلس الشعب لا يحمل أي صفة حقيقية ، وإن الحديث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سوريا بعيد عن الحقيقة ، بل هي عملية تزوير للحقائق مستمرة، وكل ما يجري على الأرض يخالف الشعارات والمنطلقات والأحاديث والتصريحات التي يدلي بها السياسيون ، لقد كنا نعتبر السياسة عملاً شكلياً وليس موضوعياً ، وطبعاً دخلت المجلس وتغيرت اهتماماتي ورؤيتي .
– أثناء حواراتكم أو مقابلاتكم الصحفية و الإذاعية ، غالباً ما تعيدون تجربتكم الصناعية التي بدأتموها سواء في المعامل النسيجية أو في معمل “أديداس” ، باعتبارها تجربة صناعية ذات تجليات اجتماعية تسمونها ( تجربة صناعية اشتراكية مثلى ) فكيف لكم أن تقرؤوا تجربتكم تلك ؟
أعتقد أن تجربتي الصناعية كانت ذات قيمة ؛ لأنها أثبتت بالبراهين عدة أمور ، فالثقة بين العامل ورب العمل كانت دائماً شبه معدومة ، والعلاقة هي علاقة يساورها الشك ، وتصل أحياناً حتى الكره ، وكانت نظرة رب العمل للعامل نظرة ازدراء واحتقار وخوف من أن يقدموا أي شكوى للتأمينات ، أو أن يفشوا أسرار الشركة ؛ لذلك كانت العلاقة بين رب العمل والعمّال علاقة استعباد واستغلال وهذا ما أدى إلى عملية دوران كبيرة للعمالة ، أي أن العامل يعمل في مصنع يتعرّض فيه للإحباط ثم ينتقل إلى مصنع آخر فيحبط من جديد ، وهكذا فهو يبحث دائماً عن ضالته و لا يجدها عند أرباب العمل .في حين أن تجربتي قامت على كيفية اختبار العاملين مثلاً ، وهذه التجربة قد ثبتت عملياً على مدى أكثر من ثلاثين سنة وأكدت أن عاملنا يملك صفات خَلقية وخُلقية متميزة .
– ما هي هذه الصفات الخلقية المتميزة ؟
الصفات الخَلقية سرعة التعلم ، والقدرة على العمل الجاد والمتواصل لفترات طويلة ، وقد قابلت خلال حياتي عدداً كبيراً من العمالة العربية والأجنبية فرنسية وألمانية وكنت أجد دائماً الفارق الكبير ، فعاملنا إذا اقتنع بالعمل الذي يقوم به وأحب العمل وكانت علاقته مع الإدارة أو مع رب العمل علاقة متوازنة فهو عندها يمتلك إمكانيات يستطيع من خلالها أن يقدم الكثير .
أما من الناحية الخُلقية فعاملنا لديه صفات خُلقية أصيلة مثل : الكرم والنخوة والإخلاص والأمانة ، فهذه صفات تركز ثقافتنا عليها بشكل كبير ، وتربيتنا تركز عليها كذلك ، وعلى هذه الصفات أن توظَّف بشكل سليم في العمليات الإنتاجية .
– هل تعتقد أنه من الممكن إسقاط تجربتك الصناعية المصغَّرة على المجتمع السوري بالصيغة السياسية ؟
بشكل أكيد .
– ألا ترى أن هذا فيه شيء من الاختزال للواقع السياسي والاجتماعي المتعدد ؟هناك فرق كبير ؛ لأن الذي يثبت هذا الكلام هو طريقة انتقاء العاملين القائمة على أساس الكفاءة بغض النظر عن أي مقياس آخر ديني أو طائفي أو عرقي أو إقليمي .فكانت الشركة بمثابة شركة تمثل كل سوريا تقريباً ، لذلك نلاحظ وجود عوامل كثيرة مشتركة ما بين أبناء الشعب السوري ، تتلخص في أنه شعب تكمن فيه صفة الاعتزاز بالنفس والأنفة والكرامة ، فالشرط الأول في أي علاقة عمل هي أن تحفظ كرامة هذا العامل سواء أكان مديراً أم عاملاً من الدرجة الدنيا ، فعندما يشعر العامل أن كرامته محفوظة تكون قد حصلت على نصف المردود .
العامل الآخر هو الحق ، فعندما توجد شفافية ما بين الإدارة والقوى العاملة عندها يصبح العامل يشعر وكأنه ينتمي للشركة ، وتصبح مطالبه المادية فيها نوع من الشعور بالمسؤولية ، لا يوجد شطط واستغلال بالطلب ، كأن يقول العامل بأن الشركة الآن بحاجة ماسة لي فأطلب أكثر ، أي ينتظر فرص المواسم والحالات الطارئة كي يستفيد ويطلب أكثر ، لذلك عندما تتوفر القناعة لدى العمال بمصداقية الإدارة ، أن الإدارة تسعى بكل ما تستطيع إلى تحسين أوضاعهم المعاشية ومداخيلهم بشكل دائم ، فيشعر العامل عندها بحرص عفوي على استمرارية نجاح الشركة وتقدمها ، فتصبح متطلباته المادية معتدلة جداً ، وشعبنا هو من الشعوب التي تشعر بالرضا ، أي أن مطالبها دائماً معقولة ولا نجد فيها مبالغة كبيرة إذا وجدت الثقة والمصداقية .
– ألا تشعر بوجود نوع من الخصوصية السورية المفتعلة في مثل هذا النوع من الخطاب، وذلك عند التأكيد على ميزات خلقية مخصوصة بشعب من الشعوب ؟
لا أعتقد .. لأن لكل أمة وشعب من الشعوب صفات عامة للإنسان كإنسان ، ويوجد عند كل شعب خصوصية ، فنحن بشكل طبيعي عندما نتكلم عن الشعب الفرنسي أو الشعب الألماني أو الياباني نقارن الفرنسي بالألماني والياباني بالأمريكي ، لاحظ أن لكل شعب خصوصية ولكل شعب ثقافة في العمل والإنتاج ، للشعب السوري أيضاً خصوصية ، فلا نستطيع أن نطبق خصوصية الشعب السوري على الشعب الفرنسي أو نفس السياسة في التعامل مع الشعب الألماني .فلماذا تطورت مثلاً الصناعات اليدوية الدقيقة في سوريا على مدى قرون ، إن هذا يدل على أن العامل السوري من صفاته العمل الدؤوب أو الجاد الذي يأخذ ساعات طويلة ، في حين أن شعوباً أخرى لا تمتلك هذه الطبيعة من العمل الدؤوب والجاد ، فكل شعب له خصوصيته ، ولكن كل شعب إذا ما تم فيه توظيف هذه الخصوصية بشكل إيجابي فإنه يمكن استثمارها وتنميتها ، بالإضافة إلى ذلك يوجد لكل شعب عادات سيئة ، وتحقيق العمل الناجح هو المحاولة الدائمة في تحجيم والقضاء على العادات السيئة وتوظيف الخصوصية لكي نستثمرها وننميها .
وأريد أن أذكر لك حادثة حصلت تلخص هذا الكلام ، ففي عام 1984م حصل ظرف قاهر نتيجة التدهور الكبير في أسعار الجنيه ، وكانت صادرات الشركة (شركة رياض سيف ) أغلبها بالجنيه ؛ فنتج عن ذلك خسائر كبيرة ، وعلم العمال بأن الشركة تعرضت لخسائر عام 1984م وكان عددهم (320) عاملاً تقريباً ، وكان لدينا لجنة نقابية نشطة فقابلتني اللجنة النقابية باسم العمال ، وأحضرت طلباً موقعاً من (320) عاملاً ، أي مائة بالمائة بتخفيض الرواتب بما يعادل (20%) و نفّذنا هذا التخفيض ، وكان التخفيض يشكّل زيادة المطلوب إنتاجه بالساعة (20%) فبدلاً أن ندفع على كل 100 جنيه أجرة ساعة مثلاً أصبحنا ندفع على كل (120) جنيه أجر ساعة ، أي انخفضت التكاليف (20%) ، ولكن اللافت للنظر أنه خلال فترة بسيطة – أسبوع أو أسبوعين – ارتفع المردود تقريباً بنفس النسبة ، أي أن الجهد تقريباً زاد وأصبح العمال حريصين أكثر، ويعملون ساعات إضافية كي يحافظوا على دخلهم كما هو، وزاد الإنتاج (20%) نتيجة الجهود الإضافية ، فبهذه الحالة انخفضت تكاليف الشركة وحافظ العمال على دخلهم وكان هذا نتيجة وعي جماعي ، إذ تضامن (320) عاملاً للقيام بهذا العمل فلا أعتقد أن مثل هذا المثال سهل التطبيق في كثير من دول العالم الأخرى .- تجربة لن تتكرر في التاريخ .
وهذا ليس مثالاً وحيداً وأستطيع أن أذكر لك عشرات الأمثلة تدل على هذا المناخ المتميز ، وذكرت لك أن العاملين كانوا من جميع الطوائف ، فمثلاً مجلس الإدارة كان يتألف من ستة أشخاص ولكن لا يوجد اثنان من نفس الديانة أو الملة أي كانوا جميعهم مختلفين . وكل واحد ينتمي إلى ملّة فأنا مدير عام سني ، نائبي مسيحي ، مدير الكمبيوتر علوي ، مديرة الإطفاء درزية ، مدير التصدير اسماعيلي ، معاوني كردي ، فالكل كانوا يشكلون مجموعة عمل تعمل بصفاء كامل وبثقة وبمحبة كاملة ، فالجو كان تقريباً جو عمل جماعي بكل معنى الكلمة ، ويوجد ثقة متبادلة وهناك نظام محكم ودقيق بقدر ما نستطيع لتحقيق العدالة .
– ذكرتم في كتابكم (رياض سيف هموم في الصناعة والسياسة) عمليات المضايقة المالية التي تعرضتم لها والتي انتهت بإعلانكم الإفلاس، فما هي الأسباب الموجبة التي استدعت هذه المضايقات المالية ، هل هي مقتصرة فقط على معاقبتكم بسبب نشاطكم السياسي ؟
عنـد ذكر المضايقات المالية يجب دائماً أن نوضح مرحلتين مختلفتين .
المرحلة الأولى : هي أضرار نتيجة قوانين وتصرفات خاطئة عامة تضرر فيها عدد كبير وليس أنا فقـط ، وكـان الضرر الأساسي لكل المصدرين للاتحاد السوفيتي ، إلا أن ضرري كان أكبر ؛ لأنه كان لدي عقود كبيرة جداً ومواد أولية ، وعندما سيطر على العمل في السنوات الأخيرة من التصدير إلى الاتحاد السوفيتي الكثير من أصحاب النفوذ أصبحنا نحن الضعفاء الذين ليس لنا شركاء في السلطة ، وليس لنا دعم عند كبار الموظفين ، فكانت لنا الخسارة أكبر أي كنا الطرف الخاسر ، ففي هذه السنة التي توقف فيها التصدير ( آخر سنة 1989م وتطورت الخسائر في سنة 1990م وكانت خسائر كبيرة جداً ، ولكني لم أستسلم وتصرفت بشكل طبيعي من أجل تعويض الخسائر وإعادة الاعتبار ، وكان من المتوقع أنه في عام 1969م أكون قد سددت كل ديوني ، أي أن الخسائر استهلكت كل رأسمالي من عام 1990م و1991م ، و كانت المفاجأة في هذين العامين عندما فرضت علي ضرائب جائرة ، وخسرت المواد الأولية التي لم يعد لها قيمة ، وتوقفت عن العمل وحصل تأخير في الإنتاج ، كل ذلك سبَّب لي خسائر كبيرة وأكبر من رأسمالي الشخصي ، فأصبح عندي عجز وديون للآخرين بمبالغ كبيرة ، وكانت يمكن أن تعوض تقريباً بشكل كامل في نهاية عام 1995م أو1996م حسب الظروف التي كانت متوقعة ، ولكن عندما كنت تقريباً على وشك الخروج أو تجاوز الأزمة الأولى بدأت الأزمة الثانية والتي كانت أسبابها سياسية .
فالمرحلة الثانية : بدأت عند دخولي مجلس الشعب وعندما بدأت مداخلاتي في المجلس ( فأول مداخلة كانت صرخة جريئة لإنقاذ الصناعة السورية ) وبلهجة قد تكون غير مألوفة ، إذ قدمت في بداية 1995م مداخلة حول الموازنة ، وكانت توضح مدى الأخطاء الكبيرة التي سببت أضراراً للاقتصاد (الأخطاء السياسية المالية أي السياسة الضريبية ) ، فبعدها بدأت حرب طاحنة من قبل وزير المالية وبدأ بفرض ضرائب غير منطقية وغير معقولة ورجعية أي ضرائب لا يقبلها منطق ، وبعدها عجزت عن دفع الضرائب ، وبدأت الحجوزات والمضايقات وأصبح كل عملي يستحيل الاستمرار فيه ، وهذه الأحداث بدأت في نصف 1995م وانضم للطرف المعادي وزير الاقتصاد (محمد العمادي ) ونائب رئيس مجلس الوزراء (سليم ياسين ) ، وفي عام 1996م انضم رئيس الوزراء (محمود الزعبي ) إلى محاولة إفلاس رياض سيف ، ثم أجريت دراسة عن (الركود الاقتصادي في سوريا الأسباب والحلول ) وانتشرت الدراسة انتشاراً واسعاً ، وفضحت الأخطاء السياسية للحكومة ، كما ذكرت في كتابي السابق الذكر، وأُجريت عدة بحوث ودراسات على دراستي وآخرها كان أحد الباحثين الذي شكك بوطنية الإدارة السياسية في حكومة محمود الزعبي ؛ ولهذه الأسباب جميعها جعلت كل الطاقم الاقتصادي في الحكومة يتخذ قرارات كيدية ضدي ، فصدر قرار بمنع استيراد الأحذية الرياضية من وكالة “أديداس” وهذا القرار سبب أضراراً فادحةً جداً إذ خرَّب علاقتنا مع شركة “أديداس” ، فكانت كل محلات البيع تحتوي على الحذاء المستورد والملابس المصنعة محلياً ، ورغم أننا نحن الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك حق التصنيع “لأديداس” وكانت بالنسبة لنا هي المورّد الرئيسي ، و لكن عندما منعوا استيراد الأحذية كان يوجد منها كميات كبيرة مثبتة ، وكميات في المنطقة الحرة أصبحت صعبة الاستخراج من الجمارك وتراكمت بالمخازن ، وبنفس الوقت تعثرت علاقتنا مع شركة “أديداس” ، وتوقفت شركة “أديداس” عن استيراد الملابس ؛ لأنها كانت تستورد من عندنا سنوياً ملابس بملايين الدولارات ، فنلاحظ أن الاستيراد بعد وقف الأحذية أصبح شبه معدوم ووصل تقريباً إلى حد الصفر ، إضافة إلى الحجز على كل ما أملك وعلى الحسابات المصرفية وحتى على حسابات الشركة ( شركة كبيرة مبنية على قانون الاستثمار رقم 10) ، كل هذه المضايقات جعلت الاستمرار بالعمل شبه مستحيل وسببت أضراراً مادية فادحة بالنسبة لي .
– ذكرتم في كتابكم عمليات التزوير التي تعرضت لها الانتخابات التشريعية في عام 1998م وكان ذلك يمثل جرأة في التصريح العلني لتزوير الانتخابات من قبل أحد الذين يخوضون التجربة والمستفيدين منها ؛ بمعنى أنكم نجحتم في عام 1998م بالانتخابات ، فما هو تقييمكم للنشاط السياسي الذي مرت فيه سوريا خلال العقود الثلاثة الماضية ؟
على مبدأ أن كل شيء نسبي ، لا نستطيع إن نقول أن هناك في سوريا ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه في العقود الأربعة الماضية ، فكانت الحياة الديمقراطية أو النشاط السياسي أقرب إلى الشكل منه إلى المضمون ، أي أنه يوحي بأن هناك سلطة تشريعية وانتخابات وتعددية حزبية و جبهة وطنية تقدمية ، ولكن في الحقيقة النظام هو نظام الحزب الواحد .
حزب البعث في الدستور هو الحزب القائد للدولة والمجتمع ويملك (51%) من أعضاء مجلس الشعب ، وإذا اجتمع مع الجبهة الوطنية التقدمية فيمتلك أكثر من ثلثي الأعضاء ، مما يعني أن نشاط المستقلين أو الأطراف الأخرى هو نشاط فولكلوري ، لكن هذا لا يمنع عضواً مستقلاً بحصانة ، والحصانة تقريباً محترمة ، وإذا أراد وملك الجرأة ولم يحسب حساب الثمن ، فمن الممكن له أن يطرح أموراً ذات أهمية وبالنتيجة لا يؤثر ذلك على إصدار قانون أو تعديله ، والسلطة التشريعية تصادق بصورة تلقائية على ما يردها من مراسيم وقوانين ، فللسلطة التشريعية إذاً دور شكلي وأحياناً تثار أسئلة ونقاشات واستفسارات شكلية وتكون غالباً مضيعة للوقت .
– والنشاط الحزبي …. النشاط الحزبي يقتصر على الجبهة الوطنية التقدمية ، التي تشكلت مع حزب البعث ونشاطها عملياً محدود جداً وأقرب إلى الشكلي وعبارة عن مشاركة جزئية بامتيازات الحكم وليس بالقرار .
فطالما أن الحزب القائد له (51%) فعندها يكون دورها شكليًا ، ولا يحق لها إصدار صحف أو وسائل إعلام خاصة بها دون مراقبة ، وهي ممنوعة من النشاط بين الطلبة والجيش ونشاطها محدود ؛ ولذلك لا نشعر بنشاط سياسي حقيقي في مجلس الشعب أو في المجالات السياسية الأخرى .
وما دامت الدولة تحتكر الاعلام وحزب البعث يحتكر السلطة فأي وسيلة للقيام بنشاط سياسي حقيقي من أجل طرح برامج سياسية كان مستحيلاً وعليه أن يكون متوافقاً مع سياسة الحزب القائد .
– في طرحكم هذا تشكلون نوعاً من المعارضة ، وبنفس الوقت كنتم من أوائل من صادق على انتقال للسلطة للدكتور بشار الأسد . وأكدتم باستمرار على شرعيته، فهذا يطرح سؤالاً عن أي نوع من المعارضة تمثلون ؟
طبعاً الإقرار بشرعية رئيس الجمهورية ينبع بالأساس من المصلحة الوطنية، والإنسان دائماً بين خيارات . فبالنسبة لي وللأكثرية أعتقد أن أكثرية السوريين وجدوا أن الدكتور بشار الأسد – الذي عرفته في السنين الأخيرة من خلال نشاطاته وأفكاره – يمثل الخيار الوحيد ، وقد حقق شبه إجماع على أنه في هذه المرحلة هو الاختيار الأفضل لسلامة الوطن وحمايته من أي مضاعفات قد تحصل .
– ماهي حدود المعارضة التي تمارسونها وتؤكدون على وجود شرعيتها باستمرار ؟
المعارضة تتلخص بالعمل من أجل استعادة الحقوق التي لابد أن تجابه من قبل المستفيدين بممانعة شديدة ، فغالبية الشعب أصبحت خاسرة ومتضررة ، ونشأت فئة استأثرت وطغت على مصالح بقية الفئات ، وعملي كعضو في مجلس الشعب يقتضي الدفاع عن مصالح الشعب ككل ، وهذا في الدستور والدفاع عن مصالح الأكثرية وتنبيهها إلى حقوقها ، ومحاولة استعادة هذه الحقوق يضعني في صف المعارضة للسلطة التنفيذية وللاحتكار السياسي . وليس حباً في المعارضة ، إذ نحن نطالب بإعادة التوازن للمجتمع ، وإعادة الحقوق إلى أصحابها .
– كنتم من المبادرين إلى تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني مع عدد من المثقفين “كعارف دليلة ” “وميشيل كيلو ” وغيرهم ، هل لكم أن تحدثونا عن الظروف المحيطة بتأسيس هذه الجمعية، ولماذا لم تحصل على شرعية قانونية لممارسة عملها ؟
نتيجة جملة من الظروف والمعطيات كان أهمها وفاة الرئيس حافظ الأسد ، فأصبح الجو عندها مهيأً لتفعيل ديمقراطي ، فبعد أن أصبح واضحاً للعيان الحد الذي وصل إليه الشعب السوري من المشاكل الاقتصادية المستفحلة ، والمشاكل الاجتماعية ، وما وصل إليه الفساد والبيروقراطية ، وأصبح يطفو على السطح ولا يمكن التغاضي عنه ، وشكل ظاهرة لا يمكن إخفاؤها أو حالة متقدمة من المشاكل المستعصية التي قد تهدد بانهيار اقتصادي واجتماعي ، والرئيس الراحل في السنين الأخيرة أصبح يعي بشكل كامل المشهد ، وكانت هناك محاولات للإصلاح ، ولكن لم يتهيأ لها المناخ المناسب ، فقد تعثرت محاولات الإصلاح لأسباب معقدة ، ولكن بعد استلام رئيس الجمهورية بشار الأسد السلطة ، وكان بالأساس برنامجه قبل استلام السلطة برنامجًا إصلاحيًا اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا . لذلك يمكن اعتبار بداية هذه المرحلة كضوء أخضر لانطلاقة إصلاحية حقيقية ، وبشكل يشمل كل مناحي الحياة ؛ لذلك تفاءل الناس وتأملوا خيراً بوجود برنامج إصلاحي قادر على تنفيذه ، لذلك بدأنا في نهاية الشهر السادس مع مجموعة من المثقفين بالبحث عن أفضل الوسائل للتفعيل الديمقراطي ، و لإيجاد صيغة فاعلة وممكنة للنشاط السياسي ، وكان اللقاء الأول عبارة عن مجموعة لا تتعدى تقريباً عدداً من المثقفين ، ثم انتقل وتطور الحوار للبحث عن أفضل صيغة للاتفاق على تأسيس جمعية لنشر ثقافة المجتمع المدني ، سميناها أصدقاء المجتمع المدني ، والوصول إلى هذه النتيجة استغرق اجتماعات أسبوعية على مدى ثلاثة أشهر ، وكان مطلبنا واضحاَ وهو أن نقيم هذه الجمعية كمركز رئيسي في دمشق ، وتمتلك فروعاً في المحافظات ، ونحصل على نشرة دورية أو مجلة نصف شهرية أو أسبوعية ، ونبدأ بنشر ثقافة المجتمع المدني عن طريق المجلة والمحاضرات والدراسات والندوات ولقاءات الحوار والمنتديات ، لكننا فوجئنا بأن السلطات رفضت إعطاء الصفة الشرعية لهذه الجمعية وبما أن الاتفاق الرئيسي هو أن تكون كل أعمالنا علنية وتتبع صيغة الحوار السلمي أصبح الاستمرار في هذا النشاط وتنظيمه وتوسيعه مستحيلاً ويمكن أن يتحول إلى عمل سري وهذا ما لا نرغب به ، فتوقف النشاط عند تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني ، وبدأت أبحث عن البديل والبديل الممكن بشكل لا يتناقض مع القوانين وبشكل علني فأتت فكرة منتدى الحوار الوطني ، فأنا عضو في مجلس الشعب وأملك الحصانة اللازمة لتوفير المكان المناسب لمتابعة الحوار ، وبيتي كان مهيأً لهذه الفكرة من قبل، فأنا كنت قد هيأت المكان ، ذلك أنني بدأت الحملة الانتخابية بإقامة الندوات وسميناها حينذاك لقاءات الحوار الديمقراطي وأقيمت تسع ندوات ، كل يوم ندوة في فترة الحملة الانتخابية ولاقت نجاحاً كبيراً جداً ، إذ تنطلق من الحوار العلني والجريء بدون محظورات وأخذت اهتماماً كبيراً من الأكثرية ، وكانت أحد الأسباب الرئيسة التي عرفت جماهير دمشق برياض سيف وأفكاره ونشاطاته ، فهي أفضل نشاط انتخابي ساعدني في النجاح ، وأنا وعدت بمتابعة لقاءات الحوار وصدقت بوعدي فجهزت مسكني في ريف دمشق في أشرفية صحنايا ليتسع لأكبر عدد ممكن من الضيوف لإجراء الحوار ، وتأجل هذا الموضوع لعدة أسباب حتى جاءت الفرصة المناسبة بعد امتناع السلطات عن الترخيص لجمعية أصدقاء المجتمع المدني ، فبدأنا فوراً وبشكل سريع بمتابعة نشاط إحياء المجتمع المدني بندوات في منزلي وأسست منتدى الحوار الوطني كما ذكرت ، وقد كان نشاطاً فردياً ولكن المهتمين بنشاطات المجتمع المدني والذين كانوا يريدون تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني كانوا مهتمين ومؤيدين لهذا النشاط ووجدوه يوافق تطلعاتهم وأهدافهم فكان المحاضر في أول ندوة الأستاذ أنطون مقدسي ، وقد حضر عندها كل المؤسسين لجمعية أصدقاء المجتمع المدني وقدموا مداخلات وقد نجح هذا المشروع نجاحاً كبيراً بسبب العطش الشديد والحاجة الذاتية عند المثقفين بالشأن العام إذ كان يحتضنهم وتمكنوا من خلاله من التعبير عن أفكارهم وبرامجهم فكان منتدى الحوار الوطني بكل معنى الكلمة وأخذ صفة الحيادية ما بين كل الأطياف السياسية ونجحنا بلم الشمل وتحريض وتحفيز الجهات كلها على ممارسة لغة الحوار بشكل ديمقراطي، وبحثنا بعد محور إحياء المجتمع المدني ، حلقة عن الانتفاضة ، ومن ثم محور الإصلاح الاقتصادي والاقتصاد الجديد ، وحالياً نعمل على محور الحق ، فالهدف الأساسي من منتدى الحوار الوطني هو إيجاد لغة الحوار والتكلم بحرية بعد غياب 40 سنة، وكمرحلة سابقة للانتقال إلى النظام الديمقراطي أعتقد أن هذا الشيء مهم جداً، أن نتعلم لغة الحوار الديمقراطي، لذلك حقق المنتدى صدىً واسعاً في دمشق وفي المحافظات الأخرى ، ونحن نلاحظ حالياً أنه لا يمر أسبوع إلا ويولد منتدى جديد ، وهذه ظاهرة صحية جداً وستساعد على نشر ثقافة المجتمع المدني والثقافة الديمقراطية
-تؤكدون باستمرار على ممارسة النشاط السياسي بشكل علني ، وهذا ما دفعكم بعد منع تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني إلى الانتقال للنشاط السياسي ضمن تجربة منتدى الحوار الوطني . فما هو تصوركم للمستقبل السياسي للمنتدى وما هي نشاطاته المستقبلية ما عدا نشاط المحاضرات والندوات ؟
من دون شك منتدى الحوار الوطني ليس غاية بحد ذاته ، وإنما هو أحد وسائل التحضير للنشاط السياسي الديمقراطي في المستقبل ، فمنتدى الحوار الوطني شكل بالنسبة لي أرضية لفهم سياسي أعمق لما يجري في الساحة السورية ، فعندما تجتمع كل الأطياف السياسية تقريباً وتتحاور فالصورة تصبح أوضح ،والعمل السياسي لا بد أن ينتقل في المستقبل إلى نشاط حزبي محدد ، يملك ويطرح برنامجاً واضحاً ومحدداَ ، وهذا البرنامج يجب أن يلبي طموحات الشعب السوري في إعادة التوازن وتحقيق النمو المطلوب وبناء دولة قوية ، فعليه ان يكون برنامجاً سياسياً متكاملاً ، آخذاَ بعين الاعتبار الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أما حالياً فيوجد فترة انتقالية وهذه الفترة قد تمتد عدة أشهر وحتى يمكن أن تطول حتى نهاية عام 2001 وبنهاية الفترة الانتقالية يمكن أن يستمر فمنتدى الحوار الوطني كطرف حيادي تلتقي حوله كل الفعاليات السياسية كطاولة مستديرة ، ولكن هذا لا يعني أنه يمثل نهاية المطاف بالنسبة لي شخصياً ، ولكن بالنسبة لي سوف أراقب مرحلة التطور نحو نظام ديمقراطي ، فمن واجبي المساهمة الفاعلة بالنشاط السياسي الديمقراطي في المستقبل عن طريق الالتقاء مع مجموعة من المهتمين بالسياسة والشأن العام كي تتفق على برنامج سياسي واضح وتطرح برنامجها للشعب ، وبقدر تقبل هذا البرنامج بقدر ما يتطور النشاط السياسي ويتوسع ..
– ثارت أسئلة كثيرة حول علاقتكم مع لجان إحياء المجتمع المدني التي كان آخر نشاطاتها الوثيقة أو (بيان الألف ) من أجل إحياء المجتمع المدني ، فما هو موقعكم الآن من هذه اللجان ، وهل تنشطون من ضمنها أم أن لكم تجربة سياسية خاصة موازية في ضوء أفكار المجتمع المدني .
إن المؤسسين للجان إحياء المجتمع المدني هم نفس الزملاء الذين كانوا في تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني ، فعندما بدأت أنا في منتدى الحوار الوطني اخترت طريقاً آخر كاستمرارية لمشروع جمعية أصدقاء المجتمع المدني وانضم إلى القيام بنشاط لجان إحياء المجتمع المدني عدد آخر من المثقفين والمهتمين بالسياسة والشأن العام وكنت أنا بعيداً كلياً عن هذه النشاطات وعلمت بهذه النشاطات بعد صدور بيان 99، لذلك أنا لم يطلب مني أن أوقع على بيان 99 .
– ولو طلب، هل كنت وقعت ؟
ولو طلب لوقعت ، فأنا مشارك في أي نشاط يخدم بث ثقافة المجتمع المدني والثقافة الديمقراطية وكنت مسروراً وسعيداً بعد نشر البيان وسماع الصدى الإيجابي الذي أحدثه في المجتمع السوري وبعدها أصبحت على علم أكبر بما يجري وكانت بالنسبة لي مصدر سعادة وأنا من أنصار أن يكون هناك أكثر من نشاط وليس بالضرورة أن يكون نشاطاً واحداً ، وما دامت هذه النشاطات تمتلك أهدافاً واحدة وقد تكون وسائلها مختلفة، ولكن ما دامت أنها تخدم الهدف نفسه فهي تشد من أزر بعضها البعض فأنا أعتبر أن للجان إحياء المجتمع المدني عاملاً مشجعًا ومساعدًا لنشاط منتدى الحوار الوطني ، وحتى عندما صدرت رحبت ، وكذلك عندما صدرت لجان الدفاع عن الحريات و حقوق الإنسان رحبت بهذا النشاط أيضاً ، وبدأت منتديات جديدة ومتعددة في دمشق وفي المحافظات الأخرى ، وهذا بالنسبة لي مصدر سعادة ويعطيني تفاؤلا أكبر في المستقبل .
وفي الفترة الأخيرة قبل نشر الوثيقة جاء عدد من المتابعين في المنتدى وعدد من الأصدقاء الذين هم من مؤسسي لجان إحياء المجتمع المدني وطلبوا مني التوقيع بعد توقيع المؤسسين ، قرأت الوثيقة وقلت إنه إذا أردت أن أكتب وثيقة فلن أكتب أحسن منها .
– طلبوا منك التوقيع كأحد أعضاء الهيئة التأسيسية أو كأحد الموقعين الألف .
لقد كانت رغبة الأصدقاء الشخصية هي أن أكون من المؤسسين لكن فيما بعد فهمت أنه لم يتخذ قرار بالمجموعة بقبول رياض سيف كعضو مؤسس ولكن هذا بالنسبة لي لا يقد م ولا يؤخر، ما دام النشاطان متوازيين ومتوجهين لنفس الهدف ، لذلك أنا منغمس في نشاطاتي في مجلس الشعب وكانت فعالة ، ولدي نشاط آخر في منتدى الحوار الوطني، وقد تطور نشاط المنتدى بدل أن يكون نشاط رياض سيف شخصياً ، فقد شكلت لجنة لإدارة المنتدى وأغلب أعضاء هذه اللجنة هم في نفس الوقت أعضاء مؤسسين في لجنة إحياء المجتمع المدني وليس هناك أي تضارب أو تعارض ، وأنا الآن سعيد ومؤيد لتفعيل وتطوير دور لجان إحياء المجتمع المدني في باقي المحافظات ، وإذا طلب مني المساعدة فأنا مؤيد دون تحفظ لنشاط اللجان .
– مفهوم المجتمع المدني في سياقه النظري تحول في المشهد السياسي والسوري إلى مفهوم صراعي ، ما هي الأسباب الاجتماعية والسياسية التي خلقت الالتباسات السياسية حول المفهوم ؟
نحن لا نقلل من أهمية ما تم إنجازه في هذا المجال . فقبل طرح مقولة إحياء المجتمع المدني كان هناك ركود مطلق أو ركود كبير في الحياة السياسية السورية وكانت الآمال ضعيفة بإيجاد صيغة لتفعيل الفئات الأخرى خارج السلطة للمشاركة في العمل السياسي وذلك مع غياب قانون أحزاب وقانون مطبوعات يسمح لحرية النشر ،وبغياب قانون يسمح بتأسيس جمعيات ، كان هناك فراغ كبير وضياع ، فالكل متضرر والكل يبحث عن خلاص ، لكن لا أحد يعرف كيف ؟
كيف ننتقل إلى وضع أفضل ، مجتمعنا مجتمع أهلي وخاصة بغياب مؤسسات المجتمع المدني مما رسخ بشكل أكبر نشاطات المجتمع الأهلي ، والمجتمع المدني كلمة عريضة يمكن أن تحوي كل النشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية ، إذ كل ذلك أجزاء من المجتمع المدني لذلك كان المفهوم غريباً أو مستورداً ( غير محلي ) في البداية ومن الطبيعي أن يتعرض المفهوم في بدايته إلى التشكيك ، لاسيما بعد فترة من تسلط النظام السياسي وسيطرة الدولة وأجهزتها بشكل كامل على ما سمي منظمات شعبية التي كانت تمثل أطراً ، لذلك أصبح المفهوم يختلط بين المجتمع الأهلي من جهة والمنظمات الشعبية الحكومية من جهة أخرى ، ورغب بعض رجالات السلطة في تشويه والتشويش على هذا المفهوم ، إذ جرت محاولة ربط مؤسسات المجتمع المدني بالخارج ، وكأنه لا يمكن تأسيس جمعيات للمجتمع المدني ضمن منظمات شعبية ووطنية ، ونتيجة جهل بالشكل العام للمجتمع المدني والتجربة غير الناجحة لما سمي بالمنظمات الشعبية ، ونتيجة عدم رغبة من هم في السلطة بنشر وعي ديمقراطي ومدني بتأسيس منظمات غير حكومية ، فهذا كله ساعد على التشويش والتصدي والممانعة عند فئات كثيرة ، ولكن من حسن الحظ أن احترام الحوار والتحرر النسبي من عقدة الخوف ووجود إمكانية للاستفادة من وسائل الإعلام غير المحلية ،جعل متابعة الإصرار على نشر ثقافة المجتمع المدني وتقديم المفهوم كل ذلك جعله يصحو في وجه الحملة التي أتت في البداية ، والتي كان من الممكن لولا وجود نشاط إعلامي خارجي يصل إلى سوريا عن طريق الصحف والفضائيات أن ينتهي ، لذلك فمفهوم المجتمع المدني تجاوز مرحلة الخطورة وحالياً أصبح قادراً على أن يطرح نفسه بشكل أقوى وأوضح وأعتقد أن هذا النشاط السياسي هو النشاط الضروري للانتقال للمرحلة الديمقراطية
-ما هو تصور لمستقبل سوريا السياسي في المدى المنظور ، وما هو دوركم الذي تطمحون إلى لعبه في ضوء هذا المستقبل ؟
حسب توقعي ستكون الانتخابات التشريعية القادمة لمجلس الشعب في نهاية عام 2002 انتخابات من نوع جديد ، نتمنى ونتوقع أن تكون انتخابات حرة، ولابد من تهيئة لهذه الانتخابات عن طريق إصدار قانون للأحزاب،فمن الممكن أن تكون نشاطات سياسية تلبي الاحتياجات الوطنية ، وبحلول الانتخابات سوف تولد سلطة تشريعية تمثل بشكل صحيح كل أطياف المجتمع والفئات والأطراف الاجتماعية .
– بما فيها الأطراف الإسلامية ؟
بما فيها الأطراف الإسلامية، ذلك أنه ما دمنا نتكلم عن الديمقراطية فهي ضد العنف وتعني التخاطب بلغة الحوار السلمي لذلك لا يمكن استثناء أي من الأطراف ومشروع الانتقال الديمقراطي يقضي أن لا تكون ممن يؤمن بالعنف أو إلغاء الآخر ، لأن أي فئة حياتها ووجودها مرهونة بإلغاء الآخر فهي بالأساس غير ديمقراطية .
– تؤيدون وجود حركات إسلام سياسي في سوريا على شرط أن تنبذ العنف وتتبنى الديمقراطية ؟
عندما نقول إننا نسعى إلى نظام ديمقراطي ،فالعنف والديمقراطية متناقضان ، نحن مع وجود حركات إسلامية ، إذ لا حدود في الديمقراطية ، مادام الجميع يتبنى لغة الديمقراطية التي هي لغة القناع والحوار السلمي ، ولكل إنسان الحق في أن يطرح ما عنده من أفكار ومشاريع ، والشارع وحده هو الذي يقرر ، فعندما يأتي مشروع متزمت نعتقد أن الشارع نتيجة وجود أطراف أخرى ستنبذه وترفضه ، فعملية الحوار تقلص التعصب ، والمجتمع المدني هو ضد التعصب،والديمقراطية لها شروط أساسية تقوم على عدم إلغاء أحد ، فالذي يريد أن يشارك في الديمقراطية يجب عليه أن يكون ديمقراطياً فالإنسان غير الديمقراطي يكون مرفوضاً . لذلك نحن نهتم بوجود حزب الخضر وأحزاب يمينية ويسارية مختلفة .
– ما هو مستقبلكم الشخصي السياسي الذي تودون لعبه ، وهل سيقتصر على دور نائب مشارك في مجلس الشعب أم ترغبون بالتوجه نحو تكتل سياسي ؟
الإنسان دائماً يضع لنفسه هدفاً ويسعى لتحقيق هذا الهدف بالوسائل المتاحة ، أستطيع القول إنه من لحظة ظهور نتائج انتخابات مجلس الشعب 1994 ، أصبح هناك تحول في حياتي وأهدافي ، فعندما بلغت صباح اليوم التالي لإعلان النتائج بأنني حصلت على أعلى أصوات المستقلين في الفئة ب، شعرت بالمسؤولية وثقلها، رغم خبرتي السياسية التي كانت شبه معدومة كما قلت ، لذلك فوجودي في مجلس الشعب هو شرعي من عام 1994 ولقد عشت الحياة السياسية من عام 1994 بكل جوارحي وبكل صدق وإخلاص ، فتولد لدي قناعات وثوابت وحقائق ، وأن العمل للصالح العام هو بحد ذاته متعة ، وبقدر ما تحقق جزءًا من أهدافك بقدر ما تحقق سعادتك ، فحياتي وسعادتي تتناسبان طرداً مع ما أستطيع تقديمه لهذا المجتمع ، ذلك أني جربت كل المراحل من الفقر إلى الغنى ومن العمالة إلى أن أصبحت رب عمل وأن أكون مظلوماً ،واستطعت أن أصل إلى مرحلة حققت فيها نجاحات سياسية ووصلت إلى وضعي الحالي وأنا فخور بكل ما حققت في الحقل السياسي وما قبل الحقل السياسي ، وأستطيع أن أؤكد أني أصبحت غير منطلق من منطلق شخصي .
لذلك فعدوي اللدود هو الظلم وكل ما يخدم محاسبة الظلم وتخفيفه والقضاء عليه يشكل لي متعة وهو بحد ذاته هدف .
فإذا كنت قادراً على تحقيق أي طاقة جديدة أو قوة لمواجهة الظلم فأنا أسلك هذا الطريق ، فإذا كان وجودي في حزب متعاوناً مع مجموعة تؤمن بهذا الهدف مجدياً وقادراً على تقديم شيء فأنا سأسعى لذلك، فنشاطي السياسي هو إذاً ما يحتاجه المجتمع وبما أستطيع تقديمه، فما دمت أني قادر على تقديم شيء فأنا نشيط سياسياً ، وفي اللحظة التي أكون فيها قد قدمت كل شيء و يوجد مواطنون آخرون قد امتلكوا شيئاً جديداً وبرنامجاً أفضل فليتقدموا ، فالسياسة ليست بناء نشاط عليك أن تستثمره في النهاية ، فأنا لن أقول إني حققت أهدافاً شخصية مادية أو معنوية ، إن تحقيق الهدق المادي لن يكون أبداَ هدفاً بالنسبة لي إذ حققت الشيء الكثير من ذلك في حياتي والغنى لم يكن يمثل شيئاً بالنسبة لي ، ومعنوياً حياتي أنحو فيها نحو البساطة المطلقة ولا أشعر بالرغبة في الزعامة لمجرد الزعامة لإرضاء حاجات شخصية ، ولكن عندما أكون في هذا الموقع أكثر فائدة لغيري وللمجتمع فلا مانع لدي ، ولكن إن كان غيري أفضل فلن أقاتل حتماً من أجل هذا المكان كي أكون أكثر شهرة لأرضي غريزة الزعامة .
– ألا تجدون أن هذه الرؤية مثالية بعض الشيء ؟
قد تبدو مثالية لكنها حقيقة، فالسياسة بالنسبة لي لن تتحول أبداً إلى مفهوم الصراع على الزعامة ، لأن السياسة هي بتصوري متعة العطاء ، والعطاء برؤيتي هو سيد المتعة ، وعندما تعطي أكثر تتمتع أكثر والحساب مسدد يومياً .
إن رؤية النضال من أجل جني ثمار النضال كفوائد شخصية هي رؤية انتهازية وهذا ما يشوه النشاط السياسي، إذ ترى في كثير من الحالات وجود مناضلين حقيقيين كانوا في خط الكفاح من أجل استعادة الحقوق المسلوبة وتحولوا إلى سالبين لهذه الحقوق في النهاية ، وذلك تحت اسم جني ثمار النضال ،هذا المفهوم مرفوض جملة وتفصيلاً، فالدخول إلى السياسة من أجل الصالح العام فقط والعمل ليس تجارة وليس استثماراً .
– يعرف عنكم انتماؤكم إلى الطيف الليبرالي، ولكن كمعارض ألا تسعى إلى بلورة برنامج إصلاح سياسي واقتصادي للمجتمع أم ترون أن طرح البرامج الآن مرحلة سابقة لأوانها ؟
كل عمل يؤمن فيه الإنسان ويخلص فإنه يتطور بشكل مستمر ، فالإخلاص والإيمان وممارسة العمل يتطور بشكل طبيعي والمفاهيم تتوضح أكثر مع الزمن ، لذلك أرى أن الأمور الأساسية أصبحت واضحة وأنا الآن أسعى بالتعاون مع مهتمين آخرين بالشأن العام إلى بلورة مشروع يطرح كبرنامج وإذا كان هو البرنامج المناسب ولاقى القبول ، فمن الممكن أن يتحول إلى برنامج حزب سياسي وذلك عندما يصبح تأسيس الأحزاب قانونياً ، لذلك فتأسيس الحزب ليس هدفاً بحد ذاته والعمل السياسي ليس هدفاً وإنما كلها وسائل لتحقيق الهدف، وهدفي في النهاية هو أن أقلل من الظلم ما أستطيع ، وحتى من رفعت الظلم عنه ليس بحاجة إلى أن يقدم كلمة شكر لرياض سيف ، فأنا آخذ حقي من خلال متعتي بالعطاء وقد يوجد كثيرون يشككون بهذا العمل ، ولكن رياض سيف على مدى 40 سنة امتلك هذه القناعة .
فعلى مدى تجربتي الصناعية كان إدماني على العمالة كي أجد الابتسامة على وجوه العمال ، حيث كنت أول من اشتغل بالصناعة و اهتم بالطعام والرياضة والإشراف الاجتماعي والنزهات وأوقات الفراغ للعمال وشراء مساكن لهم وتأمين الرعاية الصحية لجميع العمال في المصنع حيث كنت أول من أنشأ مسرحًا وفرقة موسيقة في المصنع ، وقد طبقت عشرات السنين ، وكنت لا أدخل المصنع قبل أن أدخل إلى حضانة الأطفال حيث كنت أقضي ربع ساعة مع الأطفال الذين تعودت عليهم ويمدونني بالشحنات اللازمة لممارسة عملي بشكل ناجح ، فهذه هي متعة العطاء وقد مارستها ووجدتها متعة المتع ، وأنا لست الوحيد فغاندي ومانديلا لم ينتظروا المغانم أو الحصول عليها في نهاية الطريق وإنما من أجل متعة العطاء، فالعمل السياسي بالنسبة لي هو متعة العطاء .