والله ذو الفضل العظيم

فاعلم أخي الكريم كرم الرب سبحانه، واعتقد عظيم أفضاله، وثق في سعة رحمته، ولا تقنط وتهيأ لذلك ببذل الأسباب ...
إبراهيم الأزرق

كرم الله تعالى يتجاوز طمع الأنبياء فيه مع عظيم علمهم به، فهذا زكريا قد لهج بالدعاء ونادى وفي التنزيل: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [الأنبياء: 89]، فاستجاب الله له وجاءته البشرى الملائكية: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ) [آل عمران: 39]، ومع هذا لم يملك عليه السلام أن قال: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)! [مريم: 8]، فلله ما أعظم إحسان ربنا وما أوسع كرمه! أسأل الله أن يبلغني وإياكم برحمته وفضله فوق ما نرجو فيه ونؤمل…

والمتأمل في الآيات التي جاء فيها خبر زكريا هذا يلمح أن من سبب عجبه –عليه السلام- سرعة استجابة الله له، فدعاء زكريا جاء متأخراً وتأمل قول الله تعالى في آل عمران: (هُنَالِكَ).. (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران: 38]، ثم عقب بعدها بالفاء مع ذكر المحراب وكان قد دخل على مريم فيه، (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 39]. وهذه الدعوة المستجابة منه عليه السلام إنما كانت بعد أن رق عظمه وشاب رأسه وذهبت شبيبته، ولهذا ذكر في سورة مريم دعاءه بعد أن تملق مولاه بشيبته وضعفه، (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) [مريم: 4-5]، وفي سورة الأنبياء ذُكر إصلاح الزوج بعد الدعوة وكل ذلك يشعر بأن هذه الدعوة إنما كانت بعد أن تقدمت سنه، فكأنه عجب من قرب ربه، وسرعة إجابته، وكان عجبه عظيماً فجاء سؤاله: (أنى يكون لي غلام) مع أن المبشرين جمع من الملائكة وليس ملكاً واحداً.

ولعله عليه السلام كان يأمل في إجابة الله له بطريق آخر، إما من زوجة أخرى أو سُرِّية ولم يكن يحسب أن تجيء الإجابة عجلة بكرامة لزوجه ومعجزة له إذ أولد الله له المرأة العاقر كما قال: (وكانت امرأتي عاقراً)، (وأصلحنا له زوجه)، وقد علم عقرها إما بوحي خاص، أو لأن الأنبياء مبرؤون من العيوب والآفات التي قد تكون محل نقيصة، بل هم مجبولون على أكمل الصفات الخلقية والخلقية. ولمّا كان الأنبياء هم أعلم الناس بالله، كانوا أبعد الناس عن الاعتداء في دعائه، ومن فضل الله أن هدى زكريا –عليه السلام- إلى هذه الدعوة المطلقة لم تقيد الإجابة بسبب أو تعلقه بطريق، فكان فضل الله عليه عظيماً.
وقد كان فضل الله على أبيه إبراهيم أعظم، فقد قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات: 100]، ويبدو أن دعوة إبراهيم هذه كانت أيام الشبيبة بعد حادثة الإلقاء في النار وتأمل سياق الخبر في الصافات، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) [الصافات: 97-101].
فكانت البشرى بالحليم إسماعيل بعد هذه الدعوة، غير أنها تحققت على كبر كما قال: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء ) [إبراهيم: 39].
ولم ينقل عنه عليه السلام عجب من مقدم إسماعيل فقد كان يترقب إجابة الدعوة ويتربص حلول البشرى.

لكنه عجب من البشرى بإسحاق بعده كما في خبره مع نذر قوم لوط: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) [الحجر: 54-56]، وهذا عجب منه عليه السلام من سعة فضل الله ورحمته وإكرامه لهم بما تستبعده العقول وتحيله العادة، كما أنه لما قال: رب هب لي من الصالحين سد طمعه في ربه واحد، غير أن الله بإحسانه وفضله وكرمه منّ عليه بالثاني، وبنبوة الابنين فوق الصلاح! فتأمل كيف هداه الله لأن يدعو فيقول: رب هب لي من الصالحين، فصلوات الله على زكريا لو أطلق الدعوة كما أطلقها إبراهيم فربما زاد الكريم غنمه، ووهبه من الصالحين من شاء بفضله.

إنّ ما سبق يبين لنا بعض لطف الله بعباده، وشيء من عظيم فضله، وطرف من واسع رحمته، وأن من جملة رحمته رزق المرء الولد الصالح، وتأمل قوله سبحانه في أول مريم: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، فانظر كيف سمى استجابة دعائه ورزقه يحيى رحمة، وهذا ما استنبطه الخليل عليه السلام بثاقب نظره فقال للمبشرين بالولد من الملائكة: (ومن يقنط من رحمة ربه إلاّ الضالون).

فاعلم أخي الكريم كرم الرب سبحانه، واعتقد عظيم أفضاله، وثق في سعة رحمته، ولا تقنط وتهيأ لذلك ببذل الأسباب ومن أجلها إصلاح النفس والمسارعة في الخيرات والدعاء على وجهه فقمن لمن كان هذا دأبه أن يجاب قال الله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) ثم عقب: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *