الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:
تتمة لما سبق أذكر هنا الموانع التي تمنع التدبر، أو تشغل المرء عنه ينبغي التنبه لها، أذكرها باختصار:
المانع الأول: الخلط بين التدبر والتفسير، فالتدبر بابه أوسع من التفسير.
فإن كثيراً من الناس يتوقف تفاعله مع هذا الموضوع عند حدِّ سماع أهميته وفضائله ؛ لأنه يشعر أن بينه وبين التدبر مفاوز، ومسافات حتى يكون أهلاً لممارسته، والتنعم بآثاره، فهو يظن أنه لا بد من أن يكون على علمٍ بتفسير أي آية يتدبرها! بل ربما خُيِّل إليه أنه لا يجوز الاقتراب من سياجه حتى يكون بمنزلة العالم المفسر الفلاني الذي يشار إليه بالبنان!
ولله! كم حرم هذا الظن فئاماً من الناس من لذة التدبر، وحلاوة التأمل في الكتاب العزيز! وكم فات عليهم بسببه من خير عظيم!
ولا شك أن الدافع الذي منعهم من الاقتراب من روضة التدبر = دافعٌ شريف، وهو الخوف من القول على الله بغير علمٍ، ولكن الشأن هنا، هل هذا الظن صحيح، وتطبيقه في محله؟
والجواب: ليس الأمر كذلك، فإن دائرة التدبر أوسع وأرحب من دائرة التفسير، ذلك أن فهم القرآن نوعان:
النوع الأول: فهمٌ ذهني معرفي.
والنوع الثاني: فهمٌ قلبي إيماني.
فالنوع الأول: وهو تفسير الغريب، واستنباط الأحكام، وأنواع الدلالات هو الذي يختص بأهل العلم ـ على تفاوت مراتبهم ـ وهم يَمْتَحون منه، ويغترفون من علومه على قدر ما آتاهم الله تعالى من العلم والفهم “فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا”، وليس هذا مراداً لنا هنا، بل المراد هو الآتي، وهو:
النوع الثاني: ـ وهو الفهم الإيماني القلبي ـ الذي ينتج عن تأملِ قارئ القرآن لما يمرُّ به من آيات كريمة، يعرف معانيها، ويفهم دلالاتها، بحيث لا يحتاج معها أن يراجع التفاسير، فيتوقف عندها متأملاً ؛ ليحرك بها قلبه، ويعرض نفسه وعمله عليها، إن كان من أهلها حمد الله، وإن لم يكن من أهلها حاسب نفسه واستعتب.
والفهم الثاني هو الغاية، والأول إنما هو وسيلة.
يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: العلم علمان: علمٌ في القلب فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان فتلك حجة الله على خلقه.
ولعلِّي أضرب مثلاً يوضح المقصود: تأمل معي أخي القارئ في أواخر سورة النبأ.
يقول تعالى: “إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً”!
فهل هذه الآية الكريمة تحتاج من المسلم حتى يفهمها ويتدبرها إلى رجوع للتفاسير؟
كلا، بل هو يحتاج أن يتوقف قليلاً ؛ ليعيش ذلك المشهد المهول، ويراجع حسابه مع قرب هذا اليوم: ماذا أعد له؟ وماذا يتمنى لو عرضت عليه الآن صحائف أعماله: حسنِها وسيئِها؟ ولماذا يتمنى الكافر أن يكون تراباً؟.
أحسب أن الإجابة عن هذه التساؤلات، كفيلة بأن يتحقق معها مقصود التدبر، وهذا ما قصدته بقولي ـ عن النوع الثاني من الفهم ـ: الفهم القلبي الإيماني.
ومن تأمل القرآن، وجد أن القضايا الكلية الكبرى واضحةٌ جداً، بحيث يفهما عامة من يتكلمون اللغة العربية، كقضايا التوحيد، واليوم الآخر بوعده ووعيده وأهواله، وأصول الأخلاق الكريمة والرديئة.
وعندي من أخبار التأملات التي أبداها بعض العامة، ما يجعلني أجزم أن من أعمل ذهنه قليلاً ـ مهما كان مستواه العلمي ـ في هذه الموضوعات، فسيظفرُ بخير عظيم.
وإليك هذا الموقف الذي وقع لرجلٍ عامي في منطقتنا حينما سمع الإمام يقرأ قول الله تعالى ـ في سورة الأحزاب: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً” قام فزعاً بعد الصلاة يقول لجماعة المسجد: يا جماعة! خافوا الله! هؤلاء خيرة الرسل سيسألون عن صدقهم، فماذا نقول نحن؟! فبكى وأبكى رحمه الله تعالى.
المانع الثاني: اعتقاد أن المقصود الأكبر هو إتقان التجويد، وضبط المحفوظ، وكثرة القراءة.
المانع الثالث: أمراض القلوب، والإصرار على الذنوب.
قال الزركشي: “اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره، وفي قلبه بدعةٌ، أو كبر، أو هوى، أو حب الدنيا، أو مصرٌ على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان ضعيف، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على مفسر ليس عنده علم، أو رجع إلى معقوله، وهذا كلها حجبٌ وموانع، بعضها آكد من بعض”.
المانع الرابع: غفلة القلب، وشرود الذهن أثناء القراءة.
قال ابن مسعود وغيره من السلف: “لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة”.
وقال ابن القيم: ـ في المدارج 1/442: “والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له،…
والثاني: رجل له قلب حيٌّ، لكن قلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضراً، فهذا ـ أيضاً ـ لا تحصل له الذكرى مع استعداده، ووجود قلبه.
والثالث: رجل حي القلب، مستعد، تليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يُشْغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، مُلْقٍ السمعَ، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة، والمشهودة”.
المانع الخامس: حصر الآيات المتلوة بمن نزلت فيهم [كأن يعرض عن تدبر الآيات الواردة في وعيد الكفار، أو عذاب المنافقين].
وقد تأملت في أكثر الآيات التي تنقل عن السلف الصالح وتأثرهم بها، فإذا هي في الآيات التي تحدثت عن عذاب للكفار أو المنافقين، فأين نحن منهم؟!
المانع السادس: التقصير في تلمس معنى الغريب الذي يترتب فهم السياق عليه.
أخيراً.. أخي المتدبر:
أكثر من الدعاء بأن يفتح الله قلبك لفهم كتابه، والعمل به، واجتنب ما يحول بينك وبين هذا النور، من ظلمات المعاصي، وفقك الله، وزادك قرباً وفهماً لكتابه.
ومضة في طريق التدبر:
ومن وُفّق للتدبر، والعيش مع القرآن، فقد أمسك بأعظم مفاتيح حياة القلب، كما يقول ابن القيم: “التدبر مفتاح حياة القلب”، وسيجد أن العيش مع القرآن لا يعادله عيش! ألم يقل الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: “مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى”؟ لا والله، ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمةً، ونوراً، ودليلاً إلى الجنة كما قال قتادة رحمه الله.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.