مقاصد الصيام في الشريعة الإسلامية (1/2)

كما أنَّه من اللازم لنا حيث أنَّنا عبيد لله ـ سبحانه ـ أن نقرَّ بوجوب التسليم للنصوص الشرعية، سواءٌ أدركت الحكمة أو لم تُدرك، وأن نعلم أنَّ تلك العبادات شرف لنا، ورفعة لمقامنا عند ربِّنا، بل إنَّ من تمام حرِّيتنا لله كما

الحمد لله ذي الطول والآلاء، وصلَّى الله على سيدنا محمد خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله وصحابته الأتقياء، أمَّا بعد:
فإنَّ دين الإسلام دين مبني بعد إفراد الله بالعبادة على الحكمة والخير العميم، ولهذا لم يشرع ـ سبحانه وتعالى ـ أحكام هذا الدين دون فوائد مرجوَّة، ومقاصد جليلة، فإنَّ لهذه الشريعة الإسلامية تكاليف سامية المقاصد، نبيلة الفوائد، بديعة الأسرار.

ومن المعلوم أنََّ من أسمائه ـ سبحانه وتعالى ـ: الحكيم، ومقتضى هذا الاسم أنَّه متَّصفٌ بالحكمة، فكلُّ ما شرعه الله وقدَّره وأمر به فهو لحكمة بالغة.
فهو ـ سبحانه ـ لم يكلِّفنا بالعبادات لأجل الإشقاق علينا، أو لنكون قائمين بتطبيقها فحسب، أو لحاجته ـ تعالى ـ لنا، كيف وهو يقول:”والله الغني وأنتم الفقراء” بل شرعها ـ تعالى ـ لمصلحتنا وتربيتنا، لتكون هذه العبادات زاداً لنا على طريق الهدى، وفي هذا يقول الإمام البيضاوي ـ رحمه الله ـ:”إنَّ الاستقراء دلَّ على أنَّ الله ـ سبحانه ـ شرع أحكامه لمصالح العباد” (المنهاج:صـ233).

وتلك الحكم والمعاني السامقة لا تفهم إلاَّ بالبحث والاستقراء والتتبع؛ لما يسمِّيه علماء الإسلام بـ:(فقه المقاصد الشرعية)، ومن المتيقَّن أنَّ الأحكام إذا ربطت بعللها ومقاصدها اقتنع الناس بها، وكان لها دورٌ كبير في تأديتها على الوجه اللاَّئق بها؛ فإنَّ كثيراً من الناس يلتزمون العبادات، بيدَ أنَّهم قد يفقدون روحها ومعانيها، ولعلَّ من أسباب ذلك ضعف علمهم بمقاصدها؛ فيؤدُّون عباداتهم وكأنَّها عادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم؛ فلا يشعرون بلذَّتها وحلاوتها، ولا يستفيدون من القيام بها على الوجه المطلوب.

لهذا كان من المناسب أن أعرِّجَ على ذكر شيء من مقاصد الصوم، وحِكَمه الباهرة، وخاصَّة أنَّ أهل العلم كانوا يولون لعلم مقاصد الشريعة مرتبة عالية، ورحم الله الإمام ابن تيمية حين قال:”من فهم حكمة الشارع كان هو الفقيه حقَّاً” (بيان الدليل على بطلان التحليل: صـ351) بل إنَّه ـ رحمه الله ـ يرى:أنَّ معرفة مقاصد الشريعة هي خاصَّة الفقه في الدين، فيقول:”خاصَّة الفقه في الدين…معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها”. (الفتاوى:11/354)

فمن المهم أن نعقل تلك الحقيقة الربانية، ونعلم أنَّ من تمام العبودية لرب الخلق والبرية، أن تكون عباداتنا خالصة لوجهه الكريم، وعلى سنَّة خير المرسلين محمد بن عبد الله _عليه من ربنا أفضل الصلاة وأزكى التسليم_، وأن تكون تلك العبادات معينة على زيادة الإيمان، ليكون لها تأثيرٌ جليٌّ على النفوس والأبدان، وإلا كانت عباداتنا عادات، وحينها فليخشَ المسلم على نفسه من مشابهة أهل النفاق، الذين يصلون ويركعون ويحجون ومع ذلك لا يُكتب لهم في رصيد الدرجات حسنات، بل معاصٍ وسيئات، وسبب ذلك أن تلك العبادات لم تخالط سويداء قلوبهم، فصيَّرتهم إلى ماصيَّرتهم:”صمٌّ بكم عمي فهم لا يعقلون”.

كما أنَّه من اللازم لنا حيث أنَّنا عبيد لله ـ سبحانه ـ أن نقرَّ بوجوب التسليم للنصوص الشرعية، سواءٌ أدركت الحكمة أو لم تُدرك، وأن نعلم أنَّ تلك العبادات شرف لنا، ورفعة لمقامنا عند ربِّنا، بل إنَّ من تمام حرِّيتنا لله كمال عبوديتنا له سبحانه، وقد أحسن القاضي عياض حين قال:
ومـمّـَا زادني شـرفاً وتـيـهـاً وكدت بأخمصي أطأُ الثريَّا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لي نبـيـاً

ومن هنا، فإنَّ الصوم شرع لمعانٍ سامقة، وحكم برَّاقة، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:”والمقصود:أنَّ مصالح الصوم لمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وإحساناً إليهم، وحمية لهم وجُنَّة”(زاد المعاد2/30) ولعلي أطرِّز مقالي هذا بشيء من تلك الفوائد والحكم ليتبًّين من خلاله روعة الشريعة الإسلامية، ومحاسنها؛ فمن تلك المقاصد والحكم:

1ـ تحقيق التقوى بعبودية الله ـ عزَّ وجل ـ:
وذلك لأنَّه عبادة يتقرب بها العبد لربِّه بترك محبوباته، وقمع شهواته، فيضبط نفسه بالتقوى ومراقبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كل مكان وزمان، ولهذا يقول المولى سبحانه:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).

وإذا تأمَّلنا أمره ـ تعالى ـ لعلَّنا نستنتج أنَّ هذا ـ والله أعلم ـ من باب التسلية للمؤمنين حين أوجب عليهم الصيام، فبيَّن لهم أنَّه قد فرض الصيام على من كان قبلهم من الأمم في الدهور المنصرمة، فلا يتعجبوا حين فرض عليهم الصوم، ثمَّ قال تعالى:(لعلكم تتقون) وهذا هو المقصد الأسمى، في حكمة مشروعية الصيام.(فهو لجام المتَّقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين من بين سائرالأعمال، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئاً، وإنَّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذُُّّذاتها إيثاراً لمحبَّة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطَّلع عليه سواه، والعباد قد يطَّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأمَّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطَّلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم) كما يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في زاد المعاد(2/29).

ولهذا فإنَّ من تقوى المسلمين الصائمين لربِّهم أنَّهم لو ضربوا على أن يفطروا في شهر رمضان لغير عذر لم يفعلوا، لعلمهم بكراهية الله لإفطارهم في هذا الشهر، ولا ريب أنَّ هذا كما قال ابن رجب:(من علامات الإيمان حيث يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أنَّ الله يكرهه)(لطائف المعارف/صـ288) بل إنَّ هذا من أبلغ حكم الصيام لتدريب النفس على التقوى ومحاسبة النفس على التقصير والنقص.

وصدق الله ـ ومن أصدق من الله قيلاً ـ حين قال عن حكمة تشريع الصوم:”لعلَّكم تتقون”، فإنَّ من أعظم العبادات التي يتدرب بها العبد على ممارسة التقوى والتكيف معها هي عبادة الصيام، ولأجل ذا صار من أعظم الطاعات وأجل القربات، ليكون الصائم مقبلاً على الله _تعالى_، خاضعاً بين يديه، ومجاهداً نفسه ومحاسباً لها في تقصيره، فتكون نتيجة من نتائج التقوى، وقد قال ميمون بن مهران ـ رحمه الله ـ:(لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه) ذكره أبو نعيم في الحلية، وابن أبي شيبة في المصنف.

وحينئذٍ يرتقي الإنسان لمسالك العبودية، ومدارج التميز، لأنَّه حفظ هذه الأمانة، وجعلها منتصبة تجاه عينيه، ولذا صار الصيام سراً بين العبد وربه؛ لأنَّه قد يخلو الإنسان بنفسه فيكون عنده مثلاً شيء من الطعام، فتتحرك غريزة الأكل لديه، فيقمعها بسلطان التقوى، ويلجمها بلجام المراقبة، فإنَّ عبادة الصوم هي عبادة السر، ولهذا يقول الله ـ تعالى ـ في الحديث القدسي الصحيح:(كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) أخرجه الشيخان.

فيكون هذا الترك لأجله ـ تعالى ـ طريقاً موصلاً بنا إلى الجنة ومكفِّراً لذنوبنا، وقد قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم:”من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” أخرجه البخاري ومسلم، ومعنى إيماناً: أي إيماناً بوجوبه، ومعنى احتساباً: استشعاراً بالأجر عند ربِّه، كما قاله العز بن عبدالسلام في كتابه (مقاصد الصيام صـ34)
ويكفي أنَّ العبد المؤمن يشعر بصيامه أنَّه عبد لله حقَّاً، فإنَّ كمال الحرية في تمام العبودية لله، فلا يأكل الإنسان إلا إذا ابتدأ الوقت الذي بيَّنه الله أنَّه وقت للإفطار، ولا يصوم إلاَّ إذا ابتدأ وقت الصيام، فهي عبودية كاملة لله، وأمانة يؤدِّيها العبد لربِّه، ولهذا يقول المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:”إنَّ الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته” أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود بسند حسن.

والحقيقة أنَّ هناك بعض المسلمين يفرِّط في حفظ هذه الأمانة التي استرعاه الله إيَّاها، (فقد حصل من الإنكليز أكثر من مرَّة امتحان العمَّال المسلمين بين الصيام وبين خيانة الله فيه، وذلك بإغرائهم بمضاعفة الأجور للمفطرين حتَّى إذا انتهى الشهر عكسوا الأمر، فضاعفوا أجور الصائمين، ونقصوا المفطرين أو طردوهم، مع التصريح لهم أنَّهم خونة خانوا دينهم) كتاب (الصوم مدرسة تربِّي الروح للشيخ: عبدالرحمن الدوسري/ صـ36)

والشاهد من هذا أنَّ المسلم ينبغي أن يلازم صيامه بتقوى الله في السِّر والعلن، وأن يكون صيامه على منهاج النبوَّة والسنَّة المحمدية، ولهذا فمن يصوم زيادة على ما قدَّره الشارع الحكيم ـ كمن يصوم من الفجر إلى العشاء ـ فإنَّه ليس من الصوم الذي شرعه الله واتُّقِيَ به، وكذلك من يفطر بعد صيامه على ما حرَّم الله كمن يفطر على الدخان أو الخمر أوغير ذلك من المسميات الخبيثة، فإنَّه لا يعتبر ممَّن جرَّه صيامه للتقوى وملازمة مراقبة الله، وإن كان صيامه ولا شك وفطره على محرَّم أحسن حالاً ممن لا يصوم ويأكل المحرم.

وقد ذكر العلماء أنَّ الفارابي ـ وهو فيلسوف معروف كانت له طريقة ضالة في العقيدة وكان موسيقاراً مشهوراً يجيد العزف على آلات الموسيقى والطرب المحرمة ـ قد لزم في آخر عمره الصيام، إلاَّ أنَّ صومه لم يجرَّه للتقوى؛ لأنَّه كان يفطر على الخمر المعتَّق ـ والعياذ بالله ـ فأين الفائدة إذاً من ذاك الصيام، إلاَّ الوقوع فيما حرَّم الله؟!

2ـ تزكية النفس:
من مقاصد الصيام الجليلة أنَّّ فيه تزكية للنفس وتنقية لها من الأخلاق الرذيلة؛ خاصَّة أنَّه شرع في شهر من خصوصيَّاته تصفيد الشياطين، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال:”إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنَّة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين” أخرجه البخاري ومسلم.

ولهذا يضيِّق الصوم مجاري الشيطان في بدن الإنسان ـ وكما هو معلوم ـ فإنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، إلاَّ أنَّه بالصيام يضعف نفوذه، فإذا أكل المرء أو شرب انبسطت نفسه للشهوات، وضعفت إرادتها، وقلَّت رغبتها في العبادات، وفي الحديث:(إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) زاد بعضهم:(فضيِّقوا مجاريه بالصوم) والزيادة هذه باطلة لا أصل لها، ولكن العلماء قالوا: إنَّ التضييق عليه يكون بتضييق مجاريه بالجوع ومنه الصوم، فالجوع يكسر الشهوة، ومجرى الشهوات الشيطان، ولهذا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوصي الشباب ـ والذين تموج بهم عواصف الشهوات، وتكون غرائزهم مهيأة لاقترافها أكثر من غيرهم ـ بالزواج؛ فإن لم يستطيعوا إليه سبيلاً، فإنَّ أنجع طريق لهم مقيِّدة لشهواتهم وكسر حدَّتها؛ الصوم؛ فيقول ـ عليه السلام ـ:”يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنَّه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنَّه له وجاء” أخرجه البخاري(4/101) ومسلم(1400)

يقول ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ:”وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات”(زاد المعاد2/29)
ويقول الإمام الكمال بن الهمام ـ أحد فقهاء الحنفية ـ في فوائد الصوم:(أنَّ الصوم يسكن النفس الأمَّارة بالسوء ويكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج؛ ولذلك قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلُّها)ا.هـ من فتح القدير.

ومن جميل ما اطَّلعت عليه من أبحاث أحد علماء الإعجاز العلمي أنَّه ذكر في سبب ترغيب رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ للمسلمين أن يصوموا الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر هجري،أنَّ البحر يمد في هذه الأيام لضوء القمر بقدرة الله ـ عزَّ وجل ـ ويصيب البحر الجزر في الليالي الظلماء، وكذلك الدم فإنَّه يزيد ضخه في هذه الأيام فأمر ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالصيام؛ لأنَّ الشيطان يزيد من عتوِّه، وكلام هذا العالم جيد ولا يعارض النصوص؛ ولله الحمد والمنة.

شاهد المقال: أنَّ للصوم تأثيراً كبيراً في دفع الشهوات وكسر حدَّتها، ولهذا يقول المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:”الصوم جُنَّة” أخرجه البخاري(4/87،94) ومسلم:(1151) ومعنى جُنَّة: أي درعٌ واقية من الإثم في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وفي الحديث الآخر:”الصيام جنة من النار كجنَّة أحدكم من القتال” أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبَّان عن عثمان بن أبي العاص، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع(3879)، وفي الحديث الآخر:”الصيام جنَّة، وهو حصن من حصون المؤمن” أخرجه الطبراني عن أبي أمامة، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع:(3881)
ويعجبني ما قاله الشيخ الدكتور: مصطفى السباعي ـ رحمه الله ـ حين ذكر حديث:”الصوم جنَّة” ثم عقَّب قائلاً: فقد قدَّم الحكمة من الصيام ثمَّ بيَّن آدابه، ليكون أوقع في النفس وأعمق أثراً، وليكون المؤمن أكثر اطمئناناً إلى العبادة حين يؤدِّيها، وإلى التشريع حين ينفذه) (أحكام الصيام وفلسفته: للسباعي/ صـ 53)
وإذا كبَح الصوم المعاصي نال العبد منزلة راقية في العبودية لله؛ لأنَّ الصوم ـ الذي يراد به مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ـ يستطيعه كثير من الناس، بيدَ أنَّه ـ سبحانه ـ أراد من عباده أن يكون صومهم منقياً لهم من المعاصي وما دار في فلكها، وقد ذكرالإمام ابن حجر العسقلاني أنَّ العلماء:(اتفقوا أنَّ المراد بالصيام صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً)والحقيقة أنَّ الناس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامه الإمساك عن الأكل والشرب فقط، إلاَّ أنَّه مرتكب للفواحش مطلق بصرَه لما حرَّم الله من النظر إلى النساء اللاَّتي لا يحللن له، وبعضهم قد أرخى لأذنه لكي تستمع للأغاني المحرمة، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما فيها من الفسق والكلام الفاحش، وبعضهم أطلق لفمه العنان فينطق بالكلام الساقط، والعبارات الرذيلة، والغيبة والنميمة والكذب؛ فهل هذا صيام من أراد جنَّة الرضوان؟

وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ حين قال:”رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر والتعب”أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة(2/373،441) وابن ماجه في سننه برقم(1690) بسندٍ جيد، وانظر صحيح الترغيب(1070).
إذا لم يكن في السمع مني تصاون*** وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمت
فحظِّي إذاً من صومي الجوع والظما *** فإن قلت: إني صمت يومي فما صمت

ولهذا فإنَّ هؤلاء الذين فرَّطوا بصيامهم يعتبرون محرومين في شهر الصوم، مفلسين في شهر الجود والإحسان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مرَّة لأصحابه:(أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال _صلَّى الله عليه وسلَّم_:”المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثمَّ طرح في النار” أخرجه مسلم.

والمقصد: أنَه ينبغي على المرء أن يكون بكليَّته صائماً عمَّا حرَّم الله في شهر رمضان وفي غيره من الشهور؛ فإنَّ رمضان هو المحطة السنوية للغسيل الروحي، وليس يعني ذلك أنَّ المسلم إذا صام عن المحرمات في رمضان، أنَّه يجوز له أن يقترف ما حرَّم الله من المعاصي والموبقات في غير هذا الشهر؛ فليكن رمضان زاداً إيمانياً لكل الشهور القادمة من بعده، ودورة تربوية يزداد فيها رصيد العمل الصالح، ويكثر فيه محاسبة النفس ومنعها من الحرام، وقد قال الله:”فأمَّا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنَّ الجنَّة هي المأوى”.
أمَّا إذا كان صوم المسلم عن المحرمات في هذا الشهر، ومن ثمَّ إذا أدبرت شمس اليوم الأخير منه، عاد إليها كما لو أنَّ شيئاً لم يكن؛ فإنَّه لا يناسبه إلاَّ ما قاله الإمام أحمد والفضيل بن عياض: بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلاَّ في رمضان.

فليتَّق الله هؤلاء وليخشوا نقمته، وليعلموا أنَّ ذلك لن ينجيهم من عقاب الله وحسابه، وممَّا يعجب له المطَّلع على أحوال بعض العوام حيث يحفظ هؤلاء حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ:”الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ” ثم يقفون عند هذا الحد، وينسون أو يتناسون تكملة هذا الحديث:”إذا اجتنبت الكبائر”.

فليدرك الإنسان نفسه، وليجدد توبته لربه وليبتعد عن منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال؛ فإنَّ رسول الهدى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول:”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”أخرجه البخاري. ويقول:”فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل؛ فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل:إني صائم” أخرجه البخاري ومسلم.

وقد ذكر الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ أنَّ بعض السلف قال:”أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!!” (لطائف المعارف صـ/292)

وقد وقعت أثناء بحثي في هذا الموضوع على كلام جيد للإمام أبي حامد الغزالي ـ وإن كان فيه شيء من النَّفَس الصوفي ـ حيث قال في كتابه (إحياء علوم الدين):”اعلم أنَّ الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. فأمَّا صوم العموم فهو كفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأمَّا صوم الخصوص فهو كفُّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عمَّا سوى الله عزَّ وجلَّ بالكلية” (إحياء علوم الدين 1/328) فالحذر كلَّ الحذر من إبطال الصيام بالموبقات، وقد كان بعض العلماء يرى أنَّ الغيبة تبطل الصيام ويحتاج المرء لقضاء هذا اليوم الذي فاته.

قال مجاهد بن جبر المكي ـ رحمه الله ـ:”خصلتان تفسدان الصيام: الغيبة والكذب”، وقال سفيان الثوري: “الغيبة تفسد الصوم” (إحياء علوم الدين1/329)
صحيح أنَّ القول الراجح أنَّ الغيبة لا تفطر الصائم؛ بمعنى أنَّ من اغتاب لا يلزمه قضاء يوم مكان ذلك اليوم الذي اغتاب فيه، بيد أنَّ شهر رمضان تعظَّم فيه ارتكاب المعصية باعتبار لأنَّه اقترف هذه المعاصي في زمن شريف، ولهذا ما على من فعل ذلك إلاَّ كثرة الاستغفار، ودعاء الله ـ عز وجل ـ أن يتوب عليه وأن يغفر له ذنبه، وقد روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ:”الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل”.علَّق الإمام ابن رجب على هذا الأثر قائلاً: “فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثمَّ نرقعه، وقد اتسع الخرق على الراقع والمقصود أنَّ من أراد الصوم الحقيقي فليحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:
أهل الخصوص من الصوام صومهم *** صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم *** صون القلوب عن الأغيار والحجب)
لطائف المعارف/صـ314

ونتابع في الحلقة القادمة _بإذن الله_ استكمال بعض المقاصد والحكم للصيام.
 

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *