دور المثقف.. جهود لا ركود (1)

إنَّ للمثقف دوراً كبيراً في واقع الناس ودنياهم، لأنَّ المثقف الذي جمع من المعلومات قسطاً كبيراً، ينبغي ألاَّ يقتصر على الجمع والاستقصاء والارتشاف والاستقاء للمعلومات فحسب...

كتبت في حلقة سابقة حول صفات المثقف، مبيناً بأني أقصد مخاطبة المثقف المسلم، وذكَّرت بأهمِّ الصفات التي يتأكد على المثقف المسلم أن يتحلَّى بها، حتَّى يكون متميزاً عن غيره من المثقفين العاديين، وهذه الحلقة مكمِّلة وموضحة لدور المثقف ومسؤوليته تجاه نفسه وأمَّته ومجتمعه، والله من وراء القصد…..

إن المثقف الحق هو من يقوم بدوره كاملا وذلك عبر التحمل والأداء فإن قيمة المعلومات التي اختزنها والمعرفة التي أتيح له الاضطلاع عليها لن تظهر إلا حين يؤدي زكاة ما جمعه وما اكتنزه من ثقافة امتدت على طول سنوات الخبرة في جامعة الحياة، ولن يشفع له أنه قارئ نهم أو مطلع بل عليه أن يعطينا ثمار معرفته وإلا كان علمه مما يتعوذ منه فقد استعاذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من علم لا ينفع.

إنَّ للمثقف دوراً كبيراً في واقع الناس ودنياهم، لأنَّ المثقف الذي جمع من المعلومات قسطاً كبيراً، ينبغي ألاَّ يقتصر على الجمع والاستقصاء والارتشاف والاستقاء للمعلومات فحسب، بل يطمح بأن يكون له دور ريادي في إصلاح الواقع الذي يعايشه، وعدم اعتزاله، وفي هذا المقال أستكمل الحديث موضِّحاً لدور المثقف في المجتمع…
ووظيفته في بثِّ أفكاره…
ومسؤوليته أمام الله حول المعلومات والعلم الذي استقاه، و كيف يبلوره لواقع عملي……….
وما دور المثقف في الأزمات والملمَّات التي تقع على الأمَّة المسلمة…..
وكيف يكون مساعداً في إخراج الأمَّة من كبوتها، أو قل مبصراً لها بما هي مقدمة عليه، وإنقاذها من الوقوع في أوحال الانزلاق…..
فلهذا كانت هذه المقالة استمراراً في البحث عن حلول مفيدة، لعلَّ الله يكتب لها القبول، إنَّه خير مأمول.

الدور المأمول، والأمل المنشود:
لقد قال مرَّة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى:(المثقفون اليوم هم جنرالات المعركة المقبلة وقادتها ومحددو نتائجها، لقد بات عليهم من الآن فصاعداً القيام بدور محوري في معركة الدفاع عن الأمة وحضارتها).

وحديثه في محلَّه ـ بغض النظر عن سياق الكلام ـ فإنَّه إن لم يكن للمثقف المسلم وخصوصاً في هذه الحقبة الزمنيَّة دور فعَّال وأكيد في القيام بمهامِّه ومسؤولياته = فإنَّ ثقافته وعلمه لن تفيد الواقع البشري، بل قصارى ما يمكن أن يقال بأنَّه زادت نسخة ثقافيَّة جديدة في البلد ليس إلاَّ!

وقبل البدء بعرض ما في جعبتي من الدور المأمول للمثقف السلم، فإنِّي أنبِّه على قضية ذات أهميَّة للمثقف نفسه، وهي أوَّل دور ينبغي أن يعتني به، وذلك بإصلاح ذاته، والقيام بالعبوديَّة لله، والالتجاء لركنه الركين، والتقرب منه بأنواع العبوديَّة، فكثير من المثقفين ـ يغفر الله لي ولهم ـ مفرِّط في حقوق الله تعالى، أو على الأقل نصيبهم من العبادة ضعيف، مع أنَّهم قدوة يقتدي الناس بفعالهم، وأقوالهم وحركاتهم.

دور المثقف تجاه الأمَّة وقضاياها:
من أولويات المثقف في القيام بدوره الريادي والقيادي تجاه أمَّته ما يلي:
ـ تبصير الأمَّة بالحقوق والواجبات، وتسليحها بالعلم والمعرفة، ونشر الثقافة الإسلاميَّة بين المسلمين، والدعوة إليها، وتوعيتهم بما يجهلونه منها؛ فإنَّ أمَّة تعيش على الاهتراء الثقافي، والنسيان أو التناسي لعلمها وقيمها فضلاً عن التنكر لذلك، مصيرها محتوم بالفشل وتكون بذلك قد حجزت لنفسها مقعداً بين الأمم المتخلفة وابتعدت عمّا من شأنه أن يرقى بفكرها وثقافتها.

ـ أن يكون له وقع وأثر فعَّال في إدارة الأزمة التي تمرَّ بها الأمَّة الإسلاميَّة، ومن أروع ما قاله “جيري سيكيتش” في كتابه: (كافة المخاطر) عن تخطيط إدارة الأزمات:”لا تختبر أي إدارة اختباراً جيداً إلا في مواقف الأزمات”.

فالرجل المثقف يستشعر وجوده في مجتمع الأزمة، ويحاول قدر المستطاع، أن يبذل قصارى جهده لبث الروح الفعَّالة، وصدق طرفة بن العبد حين قال:


فإن قِيل مَن فتى خِلتُ أنني عُنيتُ فلم أكسل ولم أتبلدِ

والمثقف لا يكل ولا يمل في محاولة بذر روح الأمل والعمل في قلوب الأمَّة، ورفع المعنويات للجماهير المسلمة، التي أصيب بعضها بروح اليأس والقنوط.

ـ الوقوف بجانب الحق، ومقاومة الظلم، ومصاولة الباطل، وإذا كان المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي يرى أنَّ المثقف هو من يحمل الحقيقة في وجه القوَّة، فإنَّ دين الإسلام أتى بمفهوم عجيب لنصرة الظالم والمظلوم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما” فقال رجل: أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال “تحجزه أو تمنعه من الظلم فإنّ ذلك نصره” أخرجه البخاري.

فالمثقف له دوره الفعَّال في نصرة الحق، والمجاهرة بقوله، ولو على حساب نفسه، ومن العجب أن يكون أصحاب الباطل جريئين في قول باطلهم، وأهل الحق ضعفاء بالجهر بحقِّهم، فعلى المثقف أن يحترم ذاته وعلمه ولا يسمح بأن يكون أداة مؤجرة مهما كان الثمن، ولله درّ من قال:


قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

وضرورة أكيدة للمثقف بأن يضحي لنشر أفكاره بالغالي والنفيس، وليس على الترزق والأكل والشرب بأفكاره، أو أن تكون أفكاره مواداً يتاجر بها فحسب.
وإذا أصبح المفكر بوقا يستوي الفكر عنده والحذاء.

إنَّ المثقف هو قلب الأمَّة النابض، وهو الذي يشعر بهموم الأمة، ولا بدَّ أن يكون له موقف أخلاقي نابع من دينه تجاه ما يحدث فيكسب رضا الله ورضا الناس ويمنح التخليد في التاريخ، وتعجبني كلمة قالها (المفكر الإسلامي) محمد الأحمري حين قال مرة في إحدى مجالسه: المعرفة والموقف يرفعان أقدار الرجال… وصدق لله درًّه!

ـ المثقف يواجه عواطف الجماهير بروح عمليَّة حركيَّة وخصوصاً أنَّ العاطفة تكون سيدة الموقف في كثير من القضايا، فهو في خطاباته لا يشحن العواطف ويحركها فحسب، بل إنَّه يواجهها بعقلانيَّة وعمل مثمر بنَّاء، وتسخير للطاقات في خدمة هذا الدين.
وعليه فإنَّ من المهم أن يكون المثقف لديه وعي اجتماعي ويتبعه دور اجتماعي، يصلح به الواقع المعاش، ودنيا الناس، ولا بأس… فليكن مثقفاً ورجلاً شعبياً في الوقت نفسه.

لهذا نجد أنَّ كفَّار قريش استغربوا كيف أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعاشر الناس ويخالطهم في منتدياتهم وأسواقهم، حيث كان رجل عامَّة مع أنَّه الرسول الذي يوحى له من قِبَلِ الله ـ سبحانه وتعالى ـ وكفى به من شرف، ومع هذا فكان قريباً من الناس، ممَّا دعى كفار قريش لأن يقولوا كما أخبر تعالى عنهم: “وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ” (الفرقان: من الآية7)!

فالمثقف هو من يكون جامعاً بين نفع نفسه ونفع الناس، مع علم وفكر ومعرفة، فهو كما يقول محمد إقبال:


نيِّر الفكر يقود العملا مثل رعد بعد برق جلجلا

والحقيقة أنَّ بعض الناس يظنُّ أنَّ المثقف يقتصر دوره على الكتابة أو الاستقاء الثقافي، لذا صار كثير من المثقفين يعيشون في صومعة فكرية، ودورهم في المجتمع ضامر ولا يظهر إلا من خلال كتاب أو مقالة أو رسالة فحسب، ولا ريب أنَّ هذا خلل في المفهوم، فالمثقف إن كان قصده المعرفة والثقافة فحسب، فإنَّه لن يكون له دور إصلاحي ريادي في المجتمع وهو ما نسعى له!

ـ من واجبات المثقف أن يجيب على تساؤلات الناس، ويعالج مشكلاتهم، فلا يكون كالكثير ممَّن يطرحون الإشكاليات التي يعجَّ بها العالم الإسلامي، ولا يعطون لها حلاً، أو يفكرون بطرق عملية تفيد السائل، وتثري المجتمع، وفي الحقيقة فإنَّ كثيراً من المثقفين يعيشون في أزمة وتكمن في إثارة الإشكاليات الثقافيَّة أحياناً في وجوه المخاطبين، دون تبيين حلول لتلك الإشكاليات، لذا وصف كثير من المثقفين بأنَّهم يعيشون في واد والناس يعيشون في واد آخر.

لكن ما نرجوه أن يكون المثقف كالطبيب الذي يعالج مشكلات الجسم، وهو يعالج مشكلات الروح والمجتمع، فضلاً عن تعزيزه لذوات الناس والمجتمعات، وزرع روح التكافل والتضامن الروحي والاجتماعي فيما بينهم.

فهو كما قيل: “شخص همه أن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظام أكثر إنسانية و أكثر عقلانية” انظر: محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 25.

ولا يعني ذلك أنَّ المثقف يجب عليه أن يجيب على كلِّ سؤال، حتى يوصم بأنَّ لديه شهوة الكلام والجواب والخطاب، وهو بهذا يظنُّ أنه يريد أن يحقق الموسوعية وهذه مشكلة قد يضر من خلالها أكثر ممَّا ينفع، فبعضهم يريد أن يكون شيخاً وواعظاً ومفتياً ومحللاً سياسياً ومنظراً اجتماعياً وطبيباً نفسياً، وأتذكر بهم قول الشاعر:


رام نفعاً فضرَّ من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقاً

إلاَّ أن المثقف الصادق يقول لما لا يعرفه لا أدري ويكثر من هذا القول، ولا يتنافى هذا بأن يكون مثقفاً ألبتة.

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *