(شاؤول) لص في الثلاثين من عمره، يُعذب المؤمنين ، لا يعرف حراما ولا حلالا، ولا يرحم صغيرا ولا كبيرا، وفي ذات يوم وهو في طريقة إلى دمشق تخلَّف عن صاحبيه وغاب قليلا، وعاد مُغْمَضْ العينين بالكاد يمشي ثم استلقى بين أيديهم ـ كما تقول الروايات الصديقة ـ وبعد يومين صحى من سَكْرَتِهْ ، وتحدّث بأن (رب المجد يسوع(1)) ظهر له وناداه، وأرسله رسولا للعالمين مبشرا ومنذرا باسم (الرب يسوع).
ذاك (بولس الرسول)، رسول النصرانية الحقيقي وصاحب الرسائل الملحقة بالعهد الجديد في كتاب النصارى (المقدس).
لم يكن (شاؤول) أو (بولس) ذاك المجرم الغبي الجاهل، وإنما كان على درجة عالية جدا من الذكاء، ودارسا للفلسفة على يد أكبر معلميها في عصره، وقيادي من الدرجة الأولى أُسند إليه أمر مطاردة (المؤمنين) .
وسبحان الله. أصبح بولس (رسولا)، وهو لم يلتق المسيح ولم يجلس إليه يوما، وسبحان الله أصبح (بولس) معلما من يومه الأول وهو لم يتعلم ساعة من المسيح عليه السلام ولا من تلاميذه، وسبحان الله مزّق اليهود التلاميذ كل مُُُُمَزَّق، وراح ذكرهم وانتهى أثرهم إلا بولس، فقد راح وجاء وقال ووجد من يسمع، وصار كلامه مقدسا ضمن الإنجيل إلى اليوم.
لم يستطع (شاؤول) اليهودي.. اللص المجرم.. رد المؤمنين بالسوط، أو القضاء عليهم بالسيف فادعى التوبة وتحول لـ (بُولِس) الرسول. وفعل بلسانه ـ بعد توبته ـ ما لم يستطع أن يفعله بسوطه وسيفه.
وعجزت يهود عن قتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بين ظهرانيهم في المدينة فتجمعوا له في خيبر ، ففرّق الله جمعهم وعاقبهم بكفرهم وسوء صنيعهم. ولما أدركوا أن دولتهم قد ذهبت وأنَّ الله ناصر دينه. تَابَ بن السوداء وأعلن أنه أسلم وأناب إلى الله. ومن يومه الأول وهو يُفتي ويناظر ويُعدِّل على أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتجول بالأمصار داعيا إلى مذهبه الجديد. حتى أشعل الفتنة التي أتت على ذي النّورين ـ رضي الله عنه ـ ووضعت السيف بين أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم-.
ولم يكن هدف بن السوداء رقاب المسلمين وإنما عقولهم ـ وقد لا تصل إلى العقول إلا بقطع رقاب بعض الناس ـ، وانظر ماذا يقول عنه ابن كثير (زعم أن في علي بن أبي طالب جزءا إلهيا , لذلك فهو لا يموت وإنه لم يقتل وإنما الذي قتل هو الشيطان, تصور بصورته وتوهم الناس أنه قتل, كما توهم اليهود والنصارى أن عيسى قتل. وزعم أن في علي جزءا ناسوتيا أيضا, وأن الجزء الإلهي يحيا في السماء والرعد صوته والبرق بسمته وأنه سينزل إلى الأرض ليملأها عدلا بعد أن ملئت جورا.) .
أليس هذا هو ما قاله (شاؤول ـ بولس) اليهودي عن المسيح عليه السلام.؟؟
ولكن الله سلّم، فلم يجد ابن السوداء من ينصره وينشر فكره فكان كمن ارتطم بصخرة فمات من رطمته بيْدَ أنه لطخها بدمه القذر.
وقريب منه مَنْ أسلموا من نبهاء الكفار في وقت قوة المسلمين كابن المقفع، ترجم للعربية (كليلة ودمنة) وكان المقصود منه ـ لاحظ ـ تعليم الآداب بواسطة أقاصيص على لسان الحيوانات. وترجم كتب أرسطو الثلاث في المنطق، وترجم كتاب التاج في سيرة كسرى أنوشروان.
ولك أن تتساءل: ولم تَعَلُّم الآداب من غير سنة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟! ولك أن تتساءل: ولم كُتب أرسطو تحديدا؟. ولم استحضار سيرة كسرى أنوشروان؟؟!
بل و(الجعد بن درهم) و(عمرو بن عبيد) و(واصل بن عطاء) و(الجهم بن صفوان) كلهم كانوا من الموالي، الذين دخلوا الإسلام ولم يجلسوا إلى علمائه بل راحوا يتكلمون في الأمور العظام ويضعون رؤوسهم برؤوس علماء أهل السنة.
وانظر إلى هذه السلسلة: طالوت اليهودي ـ بن أخت لبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزوج ابنته ـ علّم بيان بن سمعان وبيان علّم الجعد بن درهم، والجعد علّم الجهم بن صفوان والجهم علّم بشر المريسي وبشر علّم أحمد بن أبي دؤاد .ثم جاء الأشاعرة والماتردية ـ وهم من أهل القبلة في الجملة ـ فوردوا هذه الحياض الكدرة العفنة فشربوا وارتووا ومازالوا بين ظهرانينا إلى اليوم يسقون ناشئتنا.
ولك أن تستحضر ماذا فعلت أفكار هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام وفي أنفسهم ما فيها من حقد على الإسلام والمسلمين في عقيدة المسلمين، وما ترتب على ذلك من فتنة وتفريق بين المؤمنين.
بل إن رحتَ تتبع تاريخ الفكر الإسلامي تجد أن كل انحراف تم في تاريخنا الفكري كان سببه الرئيسي أحد هؤلاء (التائبين) المتسللين للإسلام، بأنفسهم أو بتعليمهم لبعض المغرضين من المنحرفين من أبناء المسلمين.
يدعمهم أغبياء من أهل السلطان أ و(طيبون) من بعض المنتسبين للعلم الذين يحاولون التوفيق بين الحق والباطل، و(الاستفادة) من جميع الطاقات ، أو يبهرهم لباقة القوم وكثرة معرفتهم فيحاولون (التوفيق) بين مذهبهم ومذهب أهل الحق، وبهذا يختلط الحابل بالنابل.
وما حدث بالأمس يحدث اليوم، إننا من قرابة قرن من الزمان نعيش صحوة إسلامية تهدف إلى تصحيح المفاهيم والتصورات في أذهان الناس وتحكيم شريعة رب العالمين في حياة الناس كي تعود كما بدأت (خلافة راشدة على منهاج النبوة)، وقد التحق بالصحوة بعض (التائبين) ممن تغذوا على موائد الشرق الملحد والغرب الكافر المشرك، وقفوا بين الصفوف يدّعون (العقلانية) وأنهم (المتنورون). وأنهم (مفكرون).
ولم يتتلمذوا على يد شيوخنا، ولم يشربوا من مائنا بل جاؤوا إلى تراثنا وقرؤوه بخلفيتهم الفكرية السقيمة وراحوا يتكلمون في أصول الدين.
في الولاء والبراء، وفي تنحية الشريعة ومن ينحون الشريعة. وأهل الذمة. والحجاب … الخ.
فمنهم من يقول: إن الخلافة فترة تاريخية كانت ولن تعود، وأن علينا التفكير بشكل آخر يتفق مع مستجدات العصر!(2) ومنهم من يقول: إن المسلمين لا يفضلون على غيرهم فقط لكونهم مسلمين(3). وربي أعلم منهُ وأحكم، قال الله: ” أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ” (القلم:35-38).
ومنهم من يقول: أن الحكومات العلمانية التي تحكم الدول الإسلامية تطبق الشريعة الإسلامية تطبيقاً غير كامل يعذرون فيما انتقصوه(4).
ومنهم من يقول: الفاروق عمر هو العلماني الأول في الإسلام!!
ومنهم من ادعى أن الحجاب عادة جاهلية لا علاقة لها بالإسلام. وزعموا أن الاجتهاد من حق الكل تماماً كالجهاد(5).
وقد فرح بهم بعض شياطين الإنس في الإعلام فأفسحوا لهم ليتكلموا للناس، فملئوا الفضاء بهرائهم، وشوشوا على أهل الوضوء والصلاة.
ومدّ إليهم بعض إخواننا (التوفيقيين) أيديهم يقولون : طاقات لا بد أن نستفيد منها، وعقول (جبارة) كيف نوصدها.
ونحن نقول بقول الله: ” لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ” (التوبة: من الآية47)، وقد خرجوا فينا وأوضعوا خلالنا الفتنة، فما يُستهلك في نقاش قضايا الداخل الإسلامي أكثر مما يصرف للخارج. وقد تأرجحت الصحوة في مكانها، ولم تعد تعرف موقفها الصحيح من كثير من القضايا التي تواجهها اليوم بسبب شوشرة هؤلاء. ولكن أين من يعقل ويتدبر؟!
أين من يقرأ التاريخ؟!
________________
(1) يسوع هو المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
(2) محمد فتحي عثمان مجلة العربي الكويتية العدد276نقلاً عن الولاء والبراء للقحطاني.
(3) من قول فهمي هويدي.
(4) من قول فهمي هويدي الشرق الأوسط العدد 8224.
(5) راجع “موقف العصرانين من الفقه وأصوله” [مجلة البيان العدد 147،146].