أَكُلُّ مَنْ جَاءَ مِنَ الصَّحراءِ أخوكِ يا زهراء ؟!

أمَّتي اليوم كزهراء التي غاب أخوها في الصحراء ، كلما سمعت بقائلٍ يقول: أنا الذي أصنع لكِ مجدا، أنا الذي أبني لكِ عزًّا، أنا الذي أعيدُ لكِ أيّامك الخوالي، تجري لاهثةً خلفهُ...

” أكلُّ مَنْ جاء من الصّحراء أخوك يا زهراء؟!” .. واحد من الأمثال المتداولة هنا بتلمسان، و قيل في سببه أنّ امرأةً لم يكن لها إلا أخٌ، تَغرَّب عنها إلى الصحراء، ثم انقطعت أخباره عنها، فاهتمّت لغيبته و اغتمّت، و أصابها من الحزن ما أصابها، و مع كل هذا لم تقطع حِبال آمالها بأوْبته، وكانت كلما سمعت بِمَقْدَمِ قادمٍ من الصحراء هبَّت إليه صارخة متلهفة مستنجدة: أخي، أخي ! غير ناظرةٍ إلى وَصْفِهِ و فصله أو أصله ، فكثر خطئها ، حتّى قيل لها : أَكُلُّ مَن جاء مِن الصحراء أخوك يا زهراء ؟ ! .
وحالُ بعضِ الأُمّة – رجاءَ أنْ لا يكون جُلُّهَا – حالِ زهراء.

أمَّتي اليوم كزهراء التي غاب أخوها في الصحراء ، كلما سمعت بقائلٍ يقول: أنا الذي أصنع لكِ مجدا، أنا الذي أبني لكِ عزًّا، أنا الذي أعيدُ لكِ أيّامك الخوالي، تجري لاهثةً خلفهُ(1)، غير ناظرةٍ إلى صِدْقِ دعواه، غير آبهةٍ لنصائحِ عقلاء القومِ بالتريثِ و التبصُّرِ، فهي لا تعرفُ إِن كان يريدُ أن يُشَيِّدَ لنفسه عِزًا أو لها، و لعلّه قد يصدقُ لكنّه لا يعرفُ له طريقا و لا يهتدي إليه سبيلا…

ويا زهراء! استبيني وصف أخيكِ، فليس كل من جاء من الصحراء أخوكِ يا زهراء .
ويا زهراء! أخوكِ عليه شامةٌ، معروفةٌ عنه بصحيح الآثار و السننِ.
ويا زهراء! اتّق الله، فأنتِ ذاتُ عزٍ وقدرٍ، و الطامعون بك كثير، فكُونِي على حذر.
ويا زهراء! ما نحنُ مُعاتِبوكِ إلاَّ خوفًا عليكِ، فما أدرانا إن كان القادمُ قائما على قَدَمِ صِدْقٍ أو على غيرها، و نعلمُ أنَّكِ ما أردتِ إلاَّ خَيرا، لكنْ كم مِن مُريدٍ للخير لا يبلغه؟

أمّتي ُ ! إيّاك من اثنتين كانتا في زهراء: سذاجة و عجلة.
أمّتي ! الوعدُ حقيقةٌ ليسَ بسرابٍ، نصرُ اللهِ و تمكينُه آتٍ لا مِرْيَةَ فِيهِ، و واقعٌ ما له من دافعٌ، فقد نطق به الصادقُ المصدوقُ صلواتُ ربِّي و سلامهُ عليه فيمَا صَحَّ عنهَ من حديث أبي بن كعب ــ رضي الله عنه قال : قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : ” بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ “(2)
وتأملي أمتي في قوله _عليه الصّلاة والسّلام_ ” …فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب”
فهناك من يعمل عمل الآخرة للدنيا ، كثيرون يدعون إلى لله وهم في حقيقة الأمر يدعون لأنفسهم كما قال الإمام محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله_ فتأملي أمتي ولا تسيري وراء كل متحدث ، يتكلم عن النصر والتمكين .

أمّتي ! لن نَسكتَ عن توحيدٍ تُدْرَسُ مَعَالِمُهُ، حتّى ولو كنّا نَسِير لإحقاقِ ذروة سَنَامِ هذا الدِّين، و لن تأخذنا فيه لومة لائم، لأنّ لنا فيه سلفٌ و أَكْرِم به مِن سلفٍ ! .
رسولُ الله _صلى الله عليه وسلم_ يسيرُ بجيوشه لإعلاءِ كلمةِ اللهِ، فيَلمحُ سُدُسَ الجيشِ و قلبهُ معلَّقٌ بذاتِ أنواطٍ، فيشتدُّ و يعلو صوتُه ليقطعَ جَهيزةَ كُلَّ خطيبٍ أو صحفيٍ أو محلِّلٍ يريد رَدْمَ التَوحِيدِ حَتَّى و لو في دقائقِ فُصُولِهِ(3)، و ليُصَفِّيَ القلوب من كلِّ دَخَنٍ يُصيبها قبلَ أنْ يُكمِلَ المَسِيرَ:” الله أكبر! إنها السنن، لقد قلتم و الذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة” فهل سَكتَ رسولُ ربِّ العالمين لنسكتَ نحنُ؟!
فبِاللهِ عليهِم نحن سائلوهُم، منْ سَلفُهم فيما يزعُمُون من رَدْمِ التوحيد عندَ المُعْضِلاَتِ؟
أمْ أنَّ أصحاب الفُلْكِ(4) كانوا على تفقه و بصيرةٍ مِنهُم ! فقد عَلِمُوا ما لم يعلمه القومُ.

أمَّتَي ! لن نَسكُتَ عن جفوة عن الاِتِّباع، و لا عن نُبَوَةٍ لا تُطَاعُ، و إلا سنُهزمُ أمام أدنى كتيبةٍ، فضلاً عن أُمِّهَا؟ هذا حتَّى و لو كان فينا الصَّالحونَ، و ما خَبَرُ غزوةُ أُحُدٍ عنَّا ببعيدٍ، وَفِيهِم مَنْ فِيهِم، فِيهِم رَسُول الله _صلى الله عليه وسلَّم_ و خيْرُ النَّاسِ مِن بَعدِهِ، فلمْ يُغْنِ هَذَا عِندَ اللهِ مِن شَيءٍ، فكيف بنا نحنُ و ما فينا مَنْ فِيهِم ؟
فكيفَ يصنعُ لكِ العِزَّ مَنِ الذُُلُّ و الصَغَارُ مُلازِمٍ لَهُ لاَ يُفَارِقُهُ مَا لم يَزَلْ على مُشاقَقَةِ الرسولِ ” وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ “(5). إِنَّ لكِ في هذا عِبرةً لو كنتِ تعتبرِينَ.

أُمّتي ! أيُّ دَعوةٍ يُرِيدُونَهَا لكِ ؟ ” و ما حُجَّتُهُم إلاَّ المَقُولاتُ الباطلةِ:
لا تُصدِّعوا الصفَّ مِن الدَّاخل!
لاَ تُثِيرُوا الغُبارَ مِنَ الخَارج!ِ
لاَ تُحَرِكُوا الخلاف بين المسلمين!
( نلتقي فيما اتفقنا عليه و يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
و أضعفُ الإِيمانِ أن يُقال لهؤلاء: هلْ سكتَ المُبطلونَ لنَسكُتَ نحنُ، أم أنَّهم يُهاجِمُون الاعتقادَ على مرأى و مسمعٍ و يُطلَبُ السُكوت ؟ اللّهم لا…”(6)

و إن قام فيهِم عبدُ اللهِ يدعوهُم إلى الهُدى و الرشاد رَمَوْهُ بأشنعِ اثنتينِ و احتكموا إليهِما، أمّا أُولاهُما فهي ” إن لم تكُن معنا فأنت معهم”.
سبحان ربِّي ! ” أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين . مالكم كيف تحكمون”[ القلم : 35ـ 36 ]
فمتى كان تقويمُ المسيرِ و النصحُ للأمَّة مظاهرةً لأهلِ الكفرِ ؟ فوالله ما هذه إلا فِرْيَةٌ خَزِيَّةٌ يقذِفُها من له في حَشْدِ الجماهِير مشارب و مئارب، و من لهم دور البطولة في الخرجات الإعلامية الغاشمة… و خرجاتهم معهودة مألوفة.
و إن لم يُفلحوا صاروا إلى ثانيهما يكتالون منها مكاييل غَمطِ الحقِ و إلباسِ الباطلِ مئازيرَ الهُدى و هي عِندهُم ” الغايةُ تبرر الوسيلةَ”.
و العجبُ كلُّ العجبِ أنَّ هذه قاعدة يهودية حملَ لِوائها مَن بني جِلدتِنا من يزعُم معاداة اليهود و يرمي غيره بِموالاَتهم وَ لسانه لا يزال رطبا بِذكر قاعدتهم هذه… هذا لعَمْرُ اللهِ مُحالٌ في القياسِ بديعٌ.
يكفيها بُطلانًا أنَّها من لَدُنِ الأمَّة الغضبيَّة.
بقاعدتهم هذه قتلوا أنبياء الله.
بقاعدتهم هذه حرَّفوا كتاب الله.
بقاعدتهم هذه انتهكوا حرمة سَبْتِهِم.
يَصِحُ فيهم أن نقول عنهم أنَّهم اتخذوا الغايات ءالهة من دون الله تُعبَدُ وَتُطاعُ .
أو تريدينَ أمَّتي أن تركبي مَركَبَهُم و تَتبعي سَنَنَهُم، فإيَّاك إيَّاك !

أُمَّتي ! لا تقُولي عدُوُنا شرٌ مِنَّا(7) فتسْتَكِينِي لأَسقامٍ جاريةٍ في أوصالكِ، تحسبينها هَيِّنَةً و هي عند الله عظيمةٌ، فلا تَبْنِ لكِ عِزًا على شَفَا جُرفٍ هارٍ!

أمَّتي ! أوبة إلى دين الله قبل أن ينادي المنادي من مكان قريب.

أُمَّتيُ ! لا تُنَادِي على كُلِّ مَن هَبَّ وَ دَرَج، و لا تكُوني كزهراء، بَل كُوني كالحجرِ و الشجرِ اللذان أنطقهما الله عَونًا لعبادِه المؤمنين، فيُناديان: يا مسلم ! يا عبد الله!
يناديان على من أسلم وجهه لله حنيفا مسلما ولم يك من المشركين .

أُمَّتي ! مَراقي سَعُودِك و مناشيرُ بُنُودِكِ و مفاتيحُ عِزُّكِ في أمرين: الكتاب والسنة، فلا تكوني:
كالعِيسِ في البيداءِ يقتُلها الظما و الماء فوق ظهرها محمول.
أمتي ! الفجر فجران، فلا تغُرنَّك بُرقة الفجر الكاذب، و لا يغوينَّك الساطع المُصعد، لكنْ مهلاً حتَّى ينفجرَ الفجرُ الصادقُ و قرّي عينا.
قدْ ينتفِشُ الباطِل و تَصيرُ له صَولةٌ و جولةٌ، فتعمَى الحقائقُ على كثيرٍ من الخلائقِ، و يهلك المُرتابُون و يثبُت الراسِخون الذين يعلمون عِلم اليقين أن الباطل كزبد البحر يذهبُ جُفاءً و ما ينفع الناس سيبقى حيَّا مَعقُودًَا في قُلوبِهم مكتوبا بِحِبرِ البقاءِ، و لِلَّهِ في كُلِّ هذا حِكَمٌ و أحكامٌ.

أكلُّ من جاء من الصحراء أخوك يا زهراء ؟! حتّى و لو بأيِّ وصفٍ كان ؟!
أخوك آت و لا ريب، فلا تستعجلي !

و ما عسانا أن نقول إلا كما قال موسى لقومه واعظا لهم:”… اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ “
و العاقبة للمتقين… و أيُّ تقوى بلا توحيد و لا اتباع.
و العاقبة للمتقين… و أيُّ تقوى بترقيع دين الله.
و العاقبة للمتقين… و أيُّ تقوى بعبادة الغايات.

______________________

(1) وأبسط صوره حال شعوبنا مع فرق كرة القدم في البطولات الدولية, وكيف تتنسم فيها روائح المجد الغابر, وأعجب منه جريها وراءها حتى تصير حديث الخاص والعام, الصغير والكبير, الرجل والمرأة, والله المستعان, وأشنع صوره استمساكها بمن يحمل معولاً يهدم به الملة ويخرب عقيدتها من جذورها, فما نراها إلا واقفة تكثر سواده وتتشبث أثوابه, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(2)انفرد به أحمد, مسند الأنصار- 20274
(3) يستميلون قلوب العوام بقولهم: (الأمة تذبح وهم يتكلمون عن التوحيد), ألا ليت شعري لو أنهم تفقهوا في حديث ذات أنواط خير لهم من أن يشتغلوا بذات أقراط, ووالله لإن دعاة الحق لهم أعرف الناس بالحق وأرحمهم للخلق, ولإن أعينهم تفيض بالدمع, وأكبادهم تتقاطر ألما لحال المستضعفين, وهذا لم يردعهم عن الاتباع وسلوك الطريقة في الإصلاح.
(4) أصحاب الفلك الذي أشركوا في الرخاء وجأروا بالتوحيد عند الشدة, لما أحاط بهم موج البحر من كل مكان.
(5) جزء من حديث عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ في مسند أحمد, مسند المكثرين من الصحابة- 4868, ونص الحديث: (بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الدلة الصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم)
(6) من كلام الشيخ بكر أبو زيد في الرد على المخالف من أصول الإسلام ص75.
(7) الكثير يقولون أن الأمة مهما تضعضعت فستبقى خيراً من أعدائها, هذا صحيح من حيث النظر من جهة الإيمان والكفر, لكن من جهة النصر والتمكين فلن ينصر الله من لم ينصر دينه حق النصرة, ولم يقدم لله ديناً قيماً خالصاً, بل قد يكون تسليطهم عقاباً لهم, ولو كان كلامهم صحيح لما كسرت للمسلمين شوكة على مر التاريخ, علما أنهم دائماً كانوا خيراً من أعدائهم من جهة الإيمان, فكيف وخير المسلمين قد انهزموا أمام شر الكفار في غزوة أحد والنبي عليه الصلاة والسلام لا يزال بين ظهرانيهم؟ فأين العقول؟ وهيهات هيهات تعيش لهم الجهابذة.

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *