سألت يهود رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن خزنة النار، يريدون حديثا عن غيب، كي يعرفوا أنه نبي يوحى إليه، فأجابهم النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بما يوافق ما في أيديهم من الكتاب. ونزل القرآن يهدد الوليد بن المغيرة ــ الذي فكر وقدر وقال إن هذا إلا سحر يؤثر واغتر بالبنين الشهود والمال الممدود ــ ويجيب اليهود: “سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَر. لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ” { المدثر: من الآية 26 ـــ 30}
سمع أبو جهل الآيات فعَمِي عن أنها (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ)، وعَمِي عن أن العدد بلا تميز، وهو أسلوب ترهيب وتهويل، وأخذته الجهالة فظن أنهم بشر مثله، ونادي في قومه: يا معشر قريش ما يستطيع كل عشرة منكم أن يغلبوا واحدا من خزنة النار وأنتم الدَّهْم ؟ فصاحبكم يحدثكم أن عليها تسعة عشر .
وتَحَمَّسَ كِلْدَة الْجُمَحِيّ (أبو الْأَشَدّ)، وقال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر .!!
وجاءت الآيات تبين أن ذكر العدد ــ بلا تميز هكذا ــ جاء ليفضح الله به أصحاب القلوب المريضة، وليستيقن اليهود من أن هذا نبي يوحى إليه، ويزداد الذين آمنوا إيمانا. قال الله: “وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ” [المدثر: 31]
ولم يَرُقْ لمجموعة من المنافقين ذكرُ الذباب والعنكبوت في القرآن الكريم فقالوا متعجبين: ما بال الله يتكلم بهذا الكلام لو كان القرآن من عند الله لما ذكر فيه مثل هذه الأشياء ــ الذباب والعنكبوت ــ فأنزل الله “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ “[ البقرة: 26].
فذكر الذباب والعنكبوت يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا. ولكن من يُضل؟ إنهم الفاسقون.
وتدبر هذه الآيات:
“وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ “[ لحج: 52 ــ 54 ]
وما زال الذين في قلوبهم مرض من الكافرين والمنافقين إلى اليوم يتكلمون، يقولون لم يكن معصوما، كانت الشياطين تتسلط عليه، وتتكلم على لسانه فيخطئ، ويبترون النص من سياقه ــ القولي والعملي ــ ثم يستدلون به. ويكلمون الناس بأن ليس كل ما جاء به رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ شرعا بل منه ما هو تشريعي، ومنه ما ليس بتشريعي. وسبحانك هذا بهتان عظيم. ما نعلمه هو “ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى” [ النجم: 2ــ4 ]
ومثله: “وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً “[ الإسراء:60]
وفي القرآن شواهد كثيرة تبين أن الله سبحانه وتعالى ينزل من الآيات ويشرع من الأحكام ما يُظهر به فساد القلوب الفاسدة أصلا التي لا تظهر إلا بهذه الآيات و تلك الأحكام. فكأني به طعام لا يجلس عليه إلا اللئام من الناس “فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله…”.
فالأمر إذا مرده للقلوب وليس للأحكام والنصوص الشرعية.
قد كانت نفس الآيات تتلى على الجمع الواحد فيهتدي بها قوم ويضل بها قوم، ومرد ذلك إلى حال القلوب من صلاح أو فساد. “وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ”.
وإذا كان الأمر مرده للقلوب، وإذا كانت هناك نفوس مريضة لا تزداد على سماع الحق إلا ضلالا وعمى فعلينا أن نبين الحق، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. قال الله : “كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ” [ الأعراف: 2]
وعلينا أن نشير لكل من جادل في المتشابه أو افتعله بأن الله قد نبأنا من أخبارهم وأنهم هم الذين في قلوبهم زيغ. الذين يجادلون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.