حقق اليهود تقدماً كبيراً في احترام قيمة الفرد اليهودي لديهم، ومن أبرز ما يمثل احترامهم لقيمة الفرد التزام مؤسسات مجتمعهم بحمايته ونجدته وإغاثته أو الانتقام له إن لحق به ضرر، كما أن زعماء اليهود يحترمون هذه القيمة للفرد اليهودي إلى الدرجة التي تجعلهم يخافون من التفريط فيها أو تعريضها للإهمال خشية تعرضهم للانتقاد من مجتمعهم. هذا الحرص في احترام قيمة الفرد لا ينتهي حتى بعد الموت، فهم يحرصون على استرداد جثث موتاهم وحمايتها حتى إنهم ليفدون تلك الجثث وإن تحولت إلى تراب بأحياء من المسلمين!
وسحابة الجندي اليهودي المأسور في فلسطين، وما تبعها من عواصف لإنقاذ غيره من الأسرى اليهود في لبنان، ليست هي المثال الوحيد على احترام اليهود لقيمة الفرد وحمايته ونجدته والانتقام له، بل هناك أمثلة كثيرة، من أشهرها عملية (قائمة جولدا)، ففي بدء السبعينيات قامت مجموعة فلسطينية بقتل عدد من اليهود المشاركين في دورة الألعاب بميونخ، وكان من الممكن أن يقتصر الرد على استنكار يهودي وعالمي رسمي وإعلامي فقط، كما هو حال كثير من زعماء المسلمين، لكن (رئيسة الوزراء وقتها) جولدا مائير وضعت مخططاً للانتقام من كل من شارك في العملية، ولم ينج منهم غير واحد، وسُميت العملية (قائمة جولدا).
ومعرفة قيمة الفرد واحترامها ليست صفة غريـبة عن المسلمين، لكنها مُغيّبة عنهم، مخدّرة في نفوس كثير منهم، بسبب عوامل كثيرة ومعقدة، ولأعداء المسلمين دور لا يخفى في ذلك كيلا يسارع المسلم لنصرة أخيه المسلم ونجدته، ليتحقق لهم بذلك ضعف شوكة المسلمين والتمكن منهم.
حين جاء الإسلام جاء والعرب على قدر كبير من احترام قيمة الفرد فيهم، تمثل ذلك في كثير من الصفات التي أقرها الإسلام، ومن أبرزها نجدة الضعفاء وإغاثة المكروبين. وكانت هذه الصفة محل شرف عظيم، وانطلق الشعراء يفخرون بها، وفي الوقت نفسه يصبّون “سيول الذم على المتلكئ في القيام بذلك الواجب أو المتقاعس عنه”، ولذا فإن من أبرز ما افتخر به طرفة بن العبد إجابة الداعي، وكرّ الجواد لإنقاذ مكروب، فهو لتأصّل حب العون والغوث والإنجاد في نفسه ما أن يسمع: ألا فتى يُنجدني! حتى يهبّ لتلبية النداء وكأنه المعنيّ به، فقوة إحساسه بالجماعة جعلته يشعر أنه لا بد أن يجيب قومه حتى لو لم يدْعه القوم، قال طرفة بن العبد:
إذا القوم قالوا: مَن فـتـًى؟ خلتُ أنني | عُـنيتُ، فلم أكســل ولم أتبلــد |
و”آكد الإغاثات وأولاها بالإجابة العاجلة الفاعلة إغاثة النساء المستنجدات، وذلك كما لا يخفى، لفرط حرص العربي على (حرمه)، وأنفته من أن يمسهن أي ماس… أثنى عبد الله بن جذل الطعان على ربيعة بن مكدم لتخليصه، في حادثة شهيرة، نسوة من قوم عبد الله فيهن أمه وأخته، وهو طعين ينزف جرحه دماً، فسجّل هذا الفعال الاستبسالي الفذ:
نادى الظعائن: يا ربيعة! بعــدما | لم يبق غير حُشَاشَـة وفُــوَاقِ |
فأجــابها، والرمحُ في حَيزومـه |
أنَفَـاً بطـعنٍ كالشَّـعيب دُفَاقِ |
(الحشاشة: بقية الروح في الجسد. الفواق: بقية النفس في الجسد. دفاق: متدفق) …
علم الحجاج بن يوسف أن امرأة مسلمة سُـبيت في الهند فنادت: يا حجّـاجَـاه!… فجـعل يقول: لبـيك لبـيك! ثم أمر بحمـلة أنفق عليها مالاً كثيراً، وفكَّ المرأة من أيدي الأعداء، وفتح الهند بأسرها .
ولما جاء الإسلام عزّز هذه الصفة، فنفى عنها حمية الجاهلية، وربطها بصميم الإيمان، وجعلها عنصراً من عناصر الأخوة الإسلامية، وحثت نصوص كثيرة على نجدة المكروبين والمستضعفين، كما قال تعالى: “وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً” [النساء : 75].
ومن بين من حثت الشريعة على إنقاذهم ومد يد العون لهم أسرى الحرب المسلمين والأسيرات المسلمات، فعن أَبِي جُحَيْفَةَ قال: “قُلْتُ لعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ قُلْتُ: فَمَا في هذه الصَّحِيفَة؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفَكَـاكُ الأسـِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ” رواه البخاري. قال في الفتح: (وَفَكَاكُ الأسـِيرِ … والمعنى أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب في ذلك)، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا ويأمرنا فيقول: “نحّ الأذى عن طريق المسلمين” ؛ فكشف كربة المسلمين المأسورين والمسلمات المأسورات ونجدتهم أولى، وسواء كان ذلك بالحرب أم المفاوضات، بالمال أم تبادل الأسرى، أم بكل وسيلة متاحة، كان أحد الصالحين لا يرى ضاحكاً، فقيل له لم لا تضحك؟ قال: “كيف أضحك أنا؛وفي أيدي المشركين من المسلمين أحد!”.
لكننا لا نرى اليوم لهذا الخلق الإيماني الأخوي في نجدة الأسرى ونصرتهم أثراً، بل على عكس ذلك كثيراً ما تنقلب الحال وبدلاً من قيام بعض الناس بنجدة المظلومين يخذلونههم وقد يسلمونهم لأعدائهم! فماذا فعل كثير من الزعماء وأصحاب الأموال والجاه؛ لنجدة الأسرى المسلمين والأسيرات المسلمات في سجون إسرائيل وغيرها! حيث أكدت المندوبية الدائمة لدولة فلسطين بجامعة الدول العربية أن العدو الصهيوني اعتقل قرابة عشرة آلاف امرأة فلسطينية منذ عام 1967م وقد شمل الاعتقال فتيات دون السن القانونية وأمهات، حتى إن بعضهن قد جاءهن المخاض وهن مكبلات الأيدي والأرجل كما أوضحت الإحصائيات أنه أُسر أكثر من 300 امرأة منذ بدء الانتفاضة منهن 108 أسيرات ما زلن رهن الاعتقال .
وهنا تكشف أمطار الصيف اليهودية عن نوعين من الأسرى، أسرى القمة وأسرى القاع، أسرى القمة هم أسرى اليهود وغيرهم من الكفار، والذين حظوا بميزتين، حسن معاملة المسلمين لهم، ونجدة قومهم السريعة والعنيفة، وأسرى القاع هم الأسرى من المسلمين والمسلمات، والذين وقعوا بين سوء معاملة العدو، وخذلان قومهم لهم!
فالأسير في الإسلام له حالات، حالة يُحكم عليه فيها بالقتل إن استحق ذلك، وهذا حق مشروع بنصوص الكتاب والسنة ولا علاقة له بإحسان معاملة الأسرى، وإنما هو عقوبة شرعها الإسلام للمحاربين الذين قاتلوا المسلمين، مثل عقوبة قتل الجاسوس أو القاتل مثلاً. وقد شُرع قتل الأسرى في الحالات التي يشتد فيها صد الكافرين عن سبيل الله _تعالى_، أو استباحتهم دماء المسلمين وأعراضهم، وغير ذلك، لكسر شوكتهم وردعهم عن الصد عن سبيل الله _تعالى_ والاعتداء على المسلمين، كما قال _تعالى_: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [الأنفال : 67]، وحالة ثانية أن يُحكم عليه بالرق، وخصوصاً إن كان من النساء والأطفال، حماية له وضماناً لمصدر ثابت لمأكله ومشربه وملبسه، ثم قد يكون مآله إلى الحرية عبر العتق الذي حث عليه الشرع، غير أن هذه الحالة غالباً ما ترتبط بمعاملة الأعداء بالمثل إذا اتخذوا أسرى المسلمين رقيقاً، وحالة أخرى أن يُطلق سراحه مناً وعفواً أو فداءً بمال أو بغيره من أسرى المسلمين أو غير المسلمين، وهذه الحالات راجعة إلى رأي الإمام يختار منها ما يراه الأولى في مصلحة المسلمين .
يبقى الأسير قبل أن يحكم الإمام عليه بإحدى هذه الحالات الثلاث رهيناً لدى المسلمين، وفي هذه المدة يحث الإسلام على معاملة الأسير معاملة حسنة، وليس هناك أمة من الأمم تربي جنودها، ولا نقول جميع أفرادها، على حسن معاملة الأسير غير أمة الإسلام، التي يتعلم كل واحد فيها أن إحسان معاملة الأسرى من الأعمال الصالحة التي يجبها الله تعالى ويمدحها؛ حيث جاءت في القرآن الكريم، يسمعها الصغير والكبير، ويقرؤونها أو يحفظونها، قال تعالى: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً” [الإنسان : 8].
وهذا لا يوجد لدى الأمم الأخرى، ولذلك لا تجد للمواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الأسرى قيمة ومنفعة حقيقية يشعر بها أسرى الحرب، حتى إن كانت بعض الدول تحترم ذلك إعلامياً أو رسمياً؛ فإن جنودها لا يعرفون لمثل تلك القوانين قيمة، بل يرون تلك المواثيق عائقاً يحول بينهم وبين التشفي من أسرى الحرب وإنزال الذل والنكاية بهم، وخصوصاً إن كان من المسلمين، غير مراعين لحقوقهم الإنسانية التي اتفقت عليها دول العالم ووضعت لها المواثيق الدولية.
والظلم الذي يقع على الأسرى المسلمين والمسلمات هو ظلم متكرر ومتنام، وتزداد صوره يوماً بعد يوم، حتى يصل أحياناً إلى انتهاك الأعراض، والتمتع بتعذيبهم، والتفنن في ذلك إلى درجة التقاط الصور أو الفيديو لهم للذكرى والاستمتاع بمشاهدة تعذيب الأسرى، واتخاذ الأسرى نماذج للتجارب الطبية والحيوية كفئران التجارب، أو المتاجرة بأعضائهم.
وهذا هو موقف اليهود (ودول غربية كثيرة) من الأسرى على مدى تاريخهم المعاصر، ففي مذبحة دير ياسين لم يكتف اليهود بقتل من قتلوهم من النساء والشيوخ والأطفال، لكنهم جمعوا الأسرى من النساء والفتيات المسلمات، وجردوهن من ملابسهن، وأوقفوهن في سيارات نقل مكشوفة طافت بهن في الشوارع اليهودية بمدينة القدس، وطاب لكثير من اليهود أخذ صور تذكارية لهذه الأعراض المستباحة .
وفي الانتفاضة بعد إلقاء القبض على شاب فلسطيني أمره الجنود اليهود أن يجلس القرفصاء على الأرض، ثم أطلقوا عليه كلاب الحراسة الأربعة، يقول العريف المعترف بالجريمة: “كنا نريد التقاط صور له بين أنياب الكلاب، لكنه توفي من الرّعب، قذفنا به على جانب الطريق…” ، وهي اعترافات نشرتها حركة (كسر حاجز الصمت) اليهودية.
وكانت اللجنة العربية للدفاع عن الأسرى قد رصدت ما يقرب من 36 مقبرة جماعية في سيناء للأسرى، كما تم تقدير المفقودين في حرب 1956 بنحو 5 آلاف أسير، كما رصدت اللجنة بعض الأدلة على المتاجرة “بأعضاء” الأسرى المصريين من خلال مافيا الأعضاء البشرية بأوروبا عام 1968م . وقضية تعذيب الأسرى المصريين وقتلهم عقب حرب 1967م معروفة، وقد أكدها (المؤرخ الإسرائيلي) د. أرييه يتسحاقي من جامعة بر إيلان، في كتابه (الوحدة 424)، واعترف بها جابي بارون الجندي الاحتياطي، والذي نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت شهادته على مذبحة لما يقرب من 150 أسيراً مصرياً ً.
كما نشرت منظمة (كسر الصمت) شهادة تفيد بأن طبيباً في الجيش الإسرائيلي أعطى دروساً في التشريح على جثث فلسطينيين قتلتهم القوات الإسرائيلية، يقول الجندي أن الطبيب أعلن وفاة الشاب الفلسطيني، ثم أخرج مشرطاً وبدأ ينتزع أجزاء من جسده، وبدأ يشرح للجنود مختلف أعضاء الجسم .
ولا يقف ظلم الأسرى على دولة اليهود وحدها، بل هو ظلم ترتكبه كثير من النظم التي تدعي الحرية، وليس بعيداً عنا ما فعله الصرب بالأسرى المسلمين رجالاً ونساء شيوخاً وأطفالاً، ولا ما يقع بالأسرى من المسلمين والمسلمات في العراق، ومعتقل جوانتانامو، والذي لا يُعد الأسرى فيه أسرى حرب أصلاً، هروباً من الالتزام بالمواثيق الدولية التي تفرض إحسان معاملتهم وتوفير محاكمات عادلة لهم. ويتمادى الظلم حين يتم صياغة الظلم نفسه في صورة لوائح وقوانين تتنافى مع أدنى حق للإنسان، ومن ذلك أنه لا يحق للأسير معرفة التهم التي من أجلها تم سجنه! هنا يظهر الفرق بين معاملة الأسير لدى المسلمين ومعاملة الأسير لدى غيرهم، ويظهر الفرق بوضوح حينما نعلم أن كثيراً من الأسرى المسلمين لدى غير المسلمين لا يرجعون إلى بلادهم إلا وهم موتى أو عاجزون أو مصابون بالأمراض النفسية أو البدنية، وأن كثيراً من الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين في وقتنا الحاضر حينما يتم الإفراج عنهم يرجعون سالمين يثنون على ما تلقوه من معاملة حسنة، وهي معاملة لا تستند إلى مواثيق أو معاهدات دولية، وإنما ترتبط بالخلق الذي يربي الإسلام عليه أصحابه وينشئهم عليه، قال _تعالى_: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” [المائدة : 8].
مَلَكنا فكان العدل منّا سجية | فلمّا ملكتم سَـال بالدمِ أبطـحُ |
وحلّلتم قتل الأسارى وطـالما |
غدونا على الأسرى نمن ونصفحُ |
فحسـبكم هذا التفاوت بيننا | فكـل إناء بالذي فيه ينضــحُ |
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – محمد بن سليمان السديس، إجابة الداعي وغوث المستنجد عند العرب حسب تصويرها في الشعر القديم، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد السادس، المحرم 1413.
2 – السلسلة الصحيحة للألباني، المجلد الخامس، رقم 2373.
3 – آفاق عربية 3-2-2005م.
4 – انظر على سبيل المثال (شرح أخصر المختصرات) للشيخ ابن جبرين _حفظه الله_، وفقه السنة للشيخ سيد سابق، وفتح الباري، للحافظ ابن حجر، كتاب الجهاد/ باب 3 (فإما منا بعد وإما فداء).
5 – الصهيونية والنازية، ص 226.
6 – مجلة أكتوبر المصرية، 4 ديسمبر 2004م.
7 – آفاق عربية 28/ 4/ 2005م.
8 – مجلة أكتوبر، 3 سبتمبر 1995م.
9 – مجلة الإسلام وطن، عدد مارس وأبريل 2005م.