معالم في طريق المستثمر المسلم 3

بدأت الدعوات من المتخصصين في المحافظة على البيئة والاقتصاديين إلى ضرورة تدوير النفايات والاستفادة من الصالح منها، وقد ورد مثل ذلك عن سلفنا الصالح...

فيما استعرضنا أسباب الغنى والفقر في القسم الأول من مقالنا، وعرضنا لبعض أوجه استثمار الأموال، من بينها الاقتصاد في الإنفاق، وأهمية الصيانة، وبعد النظر للمستقبل.. نكمل اليوم _بإذن الله_ الحديث عن بعض أوجه الاستثمار الممكنة لدى المسلمين.. ومنها:

الاستفادة من النفايات:
بدأت الدعوات من المتخصصين في المحافظة على البيئة والاقتصاديين إلى ضرورة تدوير النفايات والاستفادة من الصالح منها، وقد ورد مثل ذلك عن سلفنا الصالح ، فقد روى ابن قتيبة عن الأصمعي أن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_لقط نويات من الطريق فأمسكها بيده حتى مر بدار قوم فألقاها فيه وقال: “تأكله داجنتهم”(1).
ورأى أبو الدرداء _رضي الله عنه_حبًّا منثورا في غرفة له فالتقطه وقال:”من فقه الرجل رفقه في معيشته”(2).
وتصدقت عائشة بحبة عنب، وقالت لنسوة عندها: “هذا أثقل من مثاقيل ذر كثيرة” وذكر مثل ذلك عن عبدالرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم(3).

أهمية التكافل والاشتراك:
صح في الحديث أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم”(4).
ومن صور التكافل العارية، وقد ذم الله قوما بمنعهم إعارة ما عندهم من ماعون ونحوه فقال: “وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ” (الماعون:7).

التشديد في الدين:
فإن احتاج أحد إلى المال بعد كل ما سبق من الإرشادات الشرعية لاتقاء شبح الفقر والحاجة؛ فهل يستعجل في الدَّين؟، لا، بل عليه أن يفكر كثيرا قبل الإقدام على هذا الأمر، فقد وردت النصوص في التشديد في أمر الدين فمن ذلك:
1-ما رواه محمد بن جحش _رضي الله عنه_قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “سبحان الله ماذا أنزل من التشديد في الدين والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل، وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه”(5).

2-ومنه ما رواه ثوبان _رضي الله عنه_قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “من فارق الروح جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: الكبر والدين والغلول”(6).

فإذا تأمل هذه النصوص ورأى أنه لا مفر من الدين ولم يكن دينه فيما يكره الله، فلا بأس بالدين حينئذ، فقد روى عبدالله بن جعفر _رضي الله عنه_قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن دينه فيما يكره الله”(7). وقال _صلى الله عليه وسلم_:”من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله”(8).

وبعد الاستدانة عليه أن يكثر من الأدعية التي وردت فيمن عليه دين، فمن ذلك ما رواه علي _رضي الله عنه_قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “ألا أعلمك كلمات لو كان عليك مثل جبل صبير دينا أداه الله عنك؟ قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك”(9)، ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري _رضي الله عنه_قال: “دخل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال: ففعلت، فأذهب الله همي وقضى عني ديني”(10).

توثيق العقود:
يخطئ الكثير من الناس حينما يجرون بعض العقود دون كتابة أو شهادة، ولو وثق الناس ديونهم ومعاملاتهم بالكتابة والشهادة لارتاح القضاة في المحاكم من كثير من القضايا، ومن المتقرر أن من مقاصد الشرع الحرص على كل ما يجمع كلمة المسلمين والأمر به والمنع من كل ما يسبب الفرقة والشحناء بينهم ولهذا فإننا نجد أن أطول آية في متاب الله تعالج مشكلة عدم توثيق العقود، فقد قال _تعالى_: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ…” (البقرة: من الآية282)، وفيها الأمر بكتابة الدين وأجل ذلك الدين، ثم قال: “فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ…” (البقرة: من الآية282) وفيها أن من عليه الدين هو الذي يكتب إقرارا بالدين أو يملي إن لم يكن كاتبا، ثم قال: “وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا” (البقرة: من الآية282) وفيها أن الدين ولو قل فإن من الحكمة أن يكتب، وأن الحكمة من ذلك أن الكتابة من القسط والحكمة التي أمر الله بها وأنها تدفع الريبة والخطأ الذي يسبب ضياع الحقوق ومن ثم يسبب الشحناء، ثم أكد الأمر بالشهادة فقال: “وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ” (البقرة: من الآية282)(11).

والجمهور على أن هذه الأوامر للاستحباب لما ثبت أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ اشترى من جابر جملا فلم يشهد عليه، قالوا: ولأن الأمر للإرشاد. واختار ابن حزم الوجوب لظاهر الأمر. ولحديث أبي موسى _رضي الله عنه_قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “ثلاثة يدعون الله _عز وجل_ فلا يستجاب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه ورجل آتى سفيها ماله وقد قال الله _تعالى_: “وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ” (النساء: من الآية5)”(12).

ومن العجيب أن البعض يتساهل في هذا الأمر معللين بأن الثقة موجودة، مع أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ اشترى من أحد أصحابه وكتب كتابا في ذلك،فعن العداء بن خالد _رضي الله عنه_في قصة شرائه _صلى الله عليه وسلم_ منه وأنه كتب كتابا بذلك جاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ، اشترى منه عبدا أو أمة على ألا داء ولا غائلة ولا خُبثة، بيع المسلم للمسلم”(13).

وسبب الأمر بالتوثيق أنه قد يحصل نسيان لبعض الحق أو جميعه، أو لصاحب الحق، وقد تحصل الوفاة لأحد المتعاقدين فيضيع الحق، ولسبب تشريع الكتابة والشهود قصة رواها أبو هريرة _رضي الله عنه_عن رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ وفيها أن الله أرى آدم ذريته فقال _تعالى_: “هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوأهم أو من أضوئهم، قال: يا رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داوود، وقد كتب له عمر أربعين سنة. قال: يا رب زد في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له، قال: أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة، قال: أنت وذاك، ثم أسكن الجنة ما شاء الله، ثم أهبط منها، فكان آدم يعد لنفسه، فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد تعجلت، قد كتب لي ألف سنة، قال بلى، ولكنك جعلت لابنك داوود ستين سنة، فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود”(14).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أهم المراجع:
الآداب الشرعية لابن مفلح تحقيق عمر القيام وشعيب الأرناؤوط.
جمع الفوائد للمغربي.
الحث على التجارة للخلال تحقيق محمود الحداد.
الرؤية الإسلامية لسلوك المستهلك- للدكتور زيد الرماني- الطبعة الأولى-1422هـ- دار طويق للنشر والتوزيع.
السلسة الصحيحة للألباني
صحيح الترغيب والترهيب للألباني
صحيح الجامع للألباني
كتاب الكسب – محمد بن الحسن الشيباني- تحقيق عبدالفتاح أبوغدة- نشر: مكتب المطبوعات الإسلامية-الطبعة الأولى.
الكشاف الاقتصادي للأحاديث النبوية- لمحيي الدين عطية-الطبعة الأولى 1408هـ -دار البحوث العلمية –الكويت.
المعجم المفهرس لمحمد فؤاد عبدالباقي.

________________
(1) نقله محقق الحث على التجارة/41، ونسبه لابن قتيبة في الغريب2/41 وقال : إسناده منقطع.
(2) رواه وكيع في الزهد 3/782-783 وقال محقق الحث على التجارة/42: سنده محتمل التحسين.
(3) الأموال لأبي عبيد(440) والزهد لأحمد(212) والزهد لوكيع (3/783-784).
(4) متفق عليه.
(5) رواه أحمد والنسائي والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع/3600 وأحكام الجنائز/107.
(6) رواه احمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع/6411.
(7) رواه الحالكم والدارمي وصححه الألباني في صحيح الجامع/1825 والصحيحة/1000.
(8) رواه البخاري كما في جمع الفوائد(4765).
(9) رواه أحمد والترمذي والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع /2625.
(10) رواه أبو داوود 2/195.
(11) البقرة آية الدين.
(12) رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع/ 3075 والصحيحة/1805.
(13) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع/2821.
(14) رواه الترمذي(3078) وقال: حسن صحيح والحاكم 1/64 و 2/325 وصححه ووافقه الذهبي وابن حبان وصححه، صحيح الجامع/5209، والمشكاة/4662.

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *