نستكمل ما بدأنا في الحلقة الأولى، بعد أن استعرضنا بعض ما يتعلق بمواقف المسلمين تجاه الغرب، وبيّنا كيف يمكن للموقف القوي الذي وقفه المسلمون في أنحاء العالم من المساس بدينهم، أن يؤتي ثماره..
فحجم المسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين كبير، ومن السهل إدراك ضخامته وثقله بإطلالة سريعة على أوضاع البشرية وما وصلت إليه من ترد أخلاقي، وانحراف عقدي، ولا سيما في الغرب، ومن ناحية أخرى يمكننا التذكير بمدى ضعف جهود الدعوة العالمية الإسلامية بأن نعرف مثلاً أن عدد الذين يعبدون البقر والحجر بلغ أكثر من مليار و200 مليون نسمة، وأن هناك 1.4 مليار نسمة تقريباً، لا ينتسبون إلى الديانات المعروفة، أو لا دين لهم، فمن المسؤول عن تبليغ كلمة التوحيد لهؤلاء! أليست المسؤولية تقع على عاتق المسلمين وحدهم!
وإذا كان المسلمون قد تخلفوا عن ركب التقدم، فهم أرقى الأمم وأقواها حضارة بكلمة التوحـيد، لا إله إلا الله، والتي ترقى بالإنسان من عبادة الأوثان والحيوانات والقبور والبشر إلى عبادة الخالق سبحانه وحده، فلا أقل من أن تتوجه جهودنا نحو البشرية، باستثمار أصداء هذه الأزمة العالمية، للتعريف بالإسـلام ودعوة التوحـيد وبخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم. وهنا أتساءل عن تلك الأموال العربية التي تُـهدر في الغـرب، والتي يذهب بعضها لإصلاح تمثال، وأخرى لإنقاذ حديقة حيوان، وأخرى للهو والعبث، وعن الأموال التي تُنفق على قنوات الفساد! أما يستحق ديننا الإسلامي ورسولنا الحبيب عليه الصلاة والسلام أن تبذل مثل تلك الأموال في سبيل التعريف به لدى الغرب، وأن تأخذنا شهامة كتلك الشهامة التي تنتاب بعضنا فيسارع لإنقاذ التماثيل والحيوانات الغربية، أو فتح قنوات إفسادية، فنتجه الإمكانات المالية الكبيرة لدعوة الغرب إلى الإسلام، وتعليمه قيمنا وأخلاقنا، واحترام الأنبياء عليهم السلام.
الفئات التي تسعى جاهدة لتشويه صورة الإسلام في الخارج لا ترتكز على حق، بل كل ما لديها هو حقد دفين، واستهزاؤهم إنما هو استهزاء العاجزين عن مطاولة الحق المبين، وما يعتمدون عليه هو جهل الغرب بالإسلام، أو الخلفيات المشوهة للإسلام التي تكتظ بها مناهج التعليم في الغرب والمؤلفات المضللة التي تنشر عن الإسلام هناك، إضافة إلى قوة الإعلام الغربي، وإذا كان الأمر كذلك فالمعركة معهم في هذا المجال تستلزم التحرك في عدد من الاتجاهات؛ أرى من أهمها:
– تشكيل هيئات أو مؤسسات أو مراكز، تعنى بدارسة أوضاع الغرب الدينية، وأحوالهم الثقافية، والمؤثرات التي تؤثر في توجيهه، للإفادة منها في دعوتهم إلى الإسلام.
– العمل على تحسين أوضاع الجاليات الإسلامية في الخارج، ودعمهم بالعلماء والدعاة المتخصصين في دعوة غير المسلمين.
– إعادة النظر في مناهج الدعوة التعليمية، سواء على مستوى الكليات والمعاهد الرسمية وغير الرسمية، أو على مستوى جماعات الدعوة الإسلامية، للارتقاء بها إلى المستوى الذي يناسب مقتضيات العصر، مع أهمية إنشاء أقسام متخصصة في دعوة غير المسلمين، لأن واقع الدعوة الآن يستلزم وجود هذا التخصص، إذ لا تكفي مناهج الدعوة الحالية، لتأسيس الداعية المناسب لدعوة غير المسلمين، أو لتلبية حاجة الجاليات الإسلامية في الخارج، وهو ما يسبب الكثير من المشكلات التي تعوق مسيرة الدعوة في البلاد غير الإسلامية، إذا خرج أولئك دون فهم لواقع البلاد التي يذهبون إليها.
– أهمية أن تدعم الدول الإسلامية علمياً الكليات والأقسام التي تدرس الإسلام والتي ينشئها الغرب في بلادهم، وأن تسعى لإيجاد التواصل المستمر بينها وبين المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي، تجنباً لحدوث انحراف لها عن التصور الصحيح للإسلام، ووقاية لها من التأثر بالتوجهات السياسية التي قد تحيط بها، حتى نتجنب حدوث هوة كبيرة وعميقة بين التصور الذي سيقدمه خريجو تلك الكليات الغربية عن الإسلام فيما بعد لمجتمعاتهم وبين الإسلام الصحيح.
– التواصل مع المنصفين في الغرب، وتشجيعهم، ودعم كتاباتهم المنصفة عن الإسلام.
– المطالبة بتنقية مناهج التعليم الغربي مما تمتلئ به من تشويه للإسلام ولخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، والسعي لإحلال الصورة الصحيحة للإسلام مكانها، وللمسلمين الآن أن يطالبوا بتغيير مناهج الغرب التعليمية التي تربي الأجيال لديهم على التطرف والعنصرية ضد الإسلام والمسلمين، مثلما يطالب الغرب بتغيير مناهجنا، مع الفارق الكبير بين صدق ما نطالب به وبين ما يدعون، فهناك دراسة أعدها البروفيسور عبد الجواد فلاتوري، جمع فيها التشويهات والتحريفات التي تقدمها المناهج الدراسية في الغرب، وقد بلغ حجمها 8 مجلدات، طبعتها جامعة كولن الألمانية في أواخر الثمانينيات.
– قوة الحضور الإسلامي على المستوى الإعلامي في الغرب للتعريف بالإسلام والدعوة إليه، ورد الشبهات والافتراءات عنه وعن خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، بالخطاب المناسب، والوسائل المتنوعة، والأساليب والتقنية المتقدمة.
لقد سار المسلمون في القرون الأولى لظهور الإسلام بجيوشهم لنشر التوحـيد في الأرض، ولكن وقفت بهم الجيوش على حدود الصين الغربية ولم تستطع أن تتجاوزها، فلم يقف المسلمون بدعوتهم حيث عجزت جيوشهم عن التقدم، لم تقف دعوتهم لأنهم يؤمون بأنها دعوة عالمية جاءت لإنقاذ البشرية مما هي فيه من فساد وانحطاط، وساروا بدعوتهم حتى أسلم كثير من شعوب الشرق؛ لما في هذا الدين من عقيدة صافية، وأحكام سامية، ولما وجدوا في حامليه من سمو أخلاقي، ومعاملة حسنة، بل استطاع الإسلام بما أودع الله تعالى فيه من جمال الحق ووضوح الحقيقة أن يفتح قلوب المغول ويشرحها للإسلام، على الرغم من أنهم هم الذين غزوا بلاد الإسلام.
وعلى الجهة الأخرى؛ لم تكن فترات الضعف أو أوقات النصر التي تمر بالمسلمين أمام الزحف الصليبي تنسيهم رسالتهم وتشغلهم عن تقديم صورة واقعية لأخلاق الإسلام، والتي تنشرح لها الصدور، وتهفو إليها النفوس، لقد كان ثبات المسلمين على الحق، وأخلاقهم الحسنة، وشجاعتهم أمام الزحف الصليبي من الأسباب التي دفعت الكثير من الصليبيين إلى الإسلام، قال توماس أرنولد: “لقد اجتذبت الدعوة المحمدية إلى أحضانها من الصليبيين عدداً مذكوراً… حتى في ساعات انتصارات المسيحيين”، وينقل توماس أرنولد عن بعض مؤرخي النصارى قوله: “إن ستة من أمراء مملكة القدس استولى عليهم الشيطان [-هكذا وصف دخولهم للإسلام-] ليلة معركة حطين، فأسـلموا وانضموا إلى صفوف الأعداء [يقصد المسلمين] دون أن يُقهروا من أحد على ذلك”. ويقول: “ويظهر أن أخلاق صلاح الدين وحياته التي انطوت على البطولة قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيراً سحرياً خاصاً، حتى أن نفراً من الفرسان قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين، وكذلك كانت الحال عندما اطرح النصرانية، مثلاً، فارس إنجليزي من فرسان المعبد، يُدعى روبرت أوف سانت أليانس، واعتنق الإسلام، ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين”(1).
في تاريخنا نقاط تحول تاريخية عظيمة يحتاج الباحثون والدارسون وحاملو الدعوة الإسلامية إلى أن يقفوا عندها، ويدرسوا أسرارها، ويستفيدوا منها في التعامل مع واقعهم المعاصر، ومن يدري لعل هذه الصحوة التي أفاق عليها المسلمون قليلاً للدفاع عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم تكون نقطة تحول تاريخية!
_________________
(1) الدعوة إلى الإسلام، لتوماس أرنولد، ص 108.